صفحات المستقبل

“المعرفة” و”النسيان”: صراع الكبار على الحقّين/ روجيه عوطة

 

 

ما أن أقدمت “غوغل” على حجب عدد من مقالات “ويكيبيديا” في أوروبا، حتى تحركت الموسوعة الحرة، وأطلقت حملتها في وجه محرك البحث العملاق. لم يقتصر الصراع بينهما على رفض ستر المعلومات، أو إزالتها، بل تعدى ذلك، ليصيب المسند الحقوقي، الذي يتكئ عليه كل واحد من الموقعين، كي يمارس فعله.

إذ أن “غوغل” تخفي بعض البيانات الوكيبيدية على أساس “الحق في النسيان” الذي أقرته محكمة العدل الأوروبية العام 2013، قبل أن تسير فيه بحسب طلب مستخدمي الإنترنت. أما “ويكيبيديا” فقد رفضت هذا الفعل “الغوغلي” بالإرتكاز على “الحق في المعرفة”، أي في الوصول إلى كافة المعلومات الحاضرة في الفضاء الإلكتروني. فمثلما يحق للمستخدم أن يطلب من “غوغل” أن تزيل بيانات تتعلق بشخصه، يحق لمستخدم آخر أن يعتمد على “ويكيبيديا” كي يقع عليها، نظراً إلى حاجته إليها.

إستوى التوتر بين “غوغل” و”ويكيبيديا” على معركة بين حقين. الأول، الحق في النسيان، مصدره خارجي بالنسبة لعالم الإفتراض، أي أن محكمة العدل هي التي صاغته حمايةً لـ”حياة” الإنترنتيين “الخاصة”. والثاني، الحق في المعرفة، متأصل أكثر في ذلك العالم، الذي تألف، ولو على سبيل الإيديولوجيا التقنية، دفاعاً عن المعرفة المفتوحة أمام جميع الناس. وفي هذه الجهة، تشير المعركة بين محرك البحث والموسوعة الحرة إلى أن هذين الحقين يتعارضان للغاية، بحيث أن النسيان ينطوي على تحكيم المستخدم بالبيانات المتعلقة به، أما المعرفة فتُبعد المستخدم نفسه عن التصرف بالمعلومات، حتى لو اتصلت بشخصه، ذاك، أنها قد تثير اهتمام أحد غيره، يحتاج إليها.

فحين ينشر مستخدم الإنترنت معلومة ما في الفضاء الإلكتروني، لا يعود مالكها، أو محتكرها، بل سرعان ما تصل إلى آخره، الذي يتساوى معه أمامها. لكن، في حال، قرر مُطلقها أن يزيلها، فهنا، بمقدوره التسلح بالحق في النسيان، وبهذه الطريقة، يلغي المعلومة، وفي الوقت نفسه، يعطل الغير، ويمنعه عن ممارسة حقه في معرفتها. ربما، يصح هنا القول أن التضارب بين الحقين، وخلفه النزاع بين “غوغل” و”ويكيبيديا”، مضبوط بمعادلة، عكسها صحيح: عندما يبدأ النسيان، تنتهي المعرفة.

واللافت في هذا المطاف أن المعرفة حلّت مكان الذاكرة، أو بالأحرى تؤدي دورها، أو تتشكل وفق آليتها. فالإنترنت هو ذاكرتنا المفتوحة، ولا يحق لأحد أن يمحو أي صورة من صورها، لأنها قد تتعرض، بذلك، للإضطراب، الذي يصيب، بالأساس، الآخر والعلاقة معه. فبمقدور الذاكرة أن تكون متاحة للجميع. أما النسيان، فهو، بالإنطلاق من المعرفة، مغلق على مستخدم واحد، يقرر في لحظة ما، أن يهز الفضاء الإلكتروني، ويسحب معلوماته، التي يستفيد منها غيره. بمعنى آخر، لا يمكن للنسيان أن يكون مفتوحاً سوى على إزالة العلاقة اللا-إحتكارية للمعلومات، وعلى إبعاد الآخرين، الذين تواطأوا عليها وفيها.

إذاً، ثمة إشكالية صعبة، سؤالها هو: كيف يُمارس المستخدم الحق في النسيان من دون أن يلغي حق الغير في المعرفة؟ أو كيف يصير نسيانه مفتوحاً، لا يقلب العلاقة المعلوماتية مع الآخر رأساً على عقب؟ وفي الآن نفسه، من الممكن لهذه الإشكالية أن تُطرح عكسياً، أي: كيف يُمارس المستخدم حقه في المعرفة من دون أن يلغي حق الغير في النسيان؟ أو كيف يعين معرفته بعلاقة معلوماتية تضمن خصوصية الآخر، ولا تنتهكها؟ وقبل ذلك، ما هي “المعرفة” على الإنترنت، ومن هو “الغير” الإلكتروني؟

هذا، مع العلم، أن النسيان لا يتناقض، على ما يُشاع، مع الذاكرة. بل أنه ضروري لإتمام عملها، وفي المجال الإلكتروني، قد يكون على هذه الحال نفسها. غير أن فرضه من خارج عالم الإفتراض، كحق قانوني، ربما، هو السبب في معارضة “ويكيبيديا” له. كأن صياغته جرت ضدها، أو لتهديدها، خصوصاً أنها المؤيدة الأقوى للمعرفة، للذاكرة المُشرعة لكل الإنترنتيين. لكن “غوغل” أيضاً، على المدى البعيد، مهددة بالحق في النسيان أيضاً، فعلى إثره قد يتراجع دور محركها، الذي يحجب معلومة ما، يصل إليها المستخدم من خلال محرك بحثي آخر.

في كل الأحوال، وبالإضافة إلى إشكالية النسيان المفتوح، والضامن للعلاقة غير الإحتكارية مع الآخرين، تلح الحاجة إلى البحث أكثر في الإيديولوجيا، التي تدفع نحو الدخول إلى الإنترنت، قبل أن تمسك بالمستخدمين، وتحوّل أفعالهم إلى حقوق متضاربة جداً، حتى يصبح خروجهم البياني من الشبكة العنكبوتية بمثابة تدمير لها، ونفيٍ لهم.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى