صفحات الحوار

المفكر المغربي بنسالم حميش: للإسلام الثقافي واقع وأعلام

 

 

محمود عبد الغني

بنسالم حميش مفكر وأديب مغربي بارز. وزير ثقافة سابق. حاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة باريس في الفلسفة. تُرجمت العديد من رواياته إلى لغات كثيرة. اختار اتحاد الكتاب في مصر روايته “مجنون الحكم” ضمن أحسن الروايات المئة للقرن العشرين. أجرينا معه هذا الحوار في قضايا راهنة، وأخرى قديمة، لكنها تعود باستمرار إلى مجال عمل المثقف والكاتب، مثل قضيتي اللغة والإسلام.

*بنسالم حميش مفكر وروائي. كيف يتحول المفكر والباحث وأستاذ الفلسفة إلى روائي؟

بشيء من التباعد الزمني، يتبين لي الآن أن عطفي إلى الرواية لم يحدث لي فجائياً أو بين عشية وضحاها، بل بعد سنوات من التهيؤ تخللته جهود استيعابية ولحظات اختمارية في حقل اللغة- لغتي-، كما في مرافق الثقافة المتعددة المتفاعلة. وقد تمخض عن هذا كله وضع روايات رضيت بنشرها وبقناعتي، وربما تعلمت هذا عند كُتّاب مثل نيتشه وفلوبير، أن الترشح لممارسة الكتابة الإبداعية، في الفلسفة كما في الأدب، لا يصح إلا باستطاعة المبدع نقد عمله (قبل صدوره) على نحو لا هوادة فيه ولا تخفيف.

من موقع تجربتي، أرى أن الالتقاء بهذا الصنف الفني أو ذاك لا يحصل بفعل التخطيط والمداولة بقدر ما يتولد عن عناصر عدة، كعمل اللاوعي واختمار الرؤى الفكرية والجمالية وصيرورة الذات الثقافية. ولعل في هذه العوامل تكمن الحوافز والممهدات التي سيّدت الرواية في حقل إدراكي واهتمامي منذ أكثر من عقدين، فصارت عندي عبارة عن مرصد للعلاقات والتحولات المجتمعية والإنسانية، وعن وعاء أضع فيه ما يطيب لي من نصوص صادرة عن احتكاكي بالمحيط والأشياء والثقافة، وعن نسيج روابطي الوجدانية الحميمية باللغة.

*هل هناك حوافز نظرية؟

إن كان من حافز نظري خصوصي أعيه أشد الوعي فهو المتمثل في يقيني المتزايد بضرورة ترسيخ البُعد الجمالي في حياتنا، هذا البُعد الذي من دونه لا انتقال لمجتمعاتنا من البداوة والحداثة المزيفة إلى الحضارة الفاعلة المستحقة، ولا فكاك لفكرنا من الدوغمائيات الضاغطة والتمذهبات المتعصبة العنيفة.

*يُعتبر بنسالم حميش كاتباً مزدوج اللغة، عربية –فرنسية، الأولى تمشي جنب الثانية، أو الثانية تمشي جنب الأولى. فعدد ما أصدرته بالفرنسية يكاد يساوي عدد الإصدارات بالعربية. كيف ترى الازدواج اللغوي عند مثقفي عصرك؟

إن غالبية المثقفين، حسب ما نلاحظ، فقدوا رهان الاضطلاع بازدواجية لغوية صحيحة، أي ذات التمكن الذي يساهم في تجنيب بلادهم هذا الصدام اللساني، الذي نحن شاهدوه مكلومين عاجزين. وبالتالي فإن تلك الازدواجية، بدل أن تقوينا وتصيرنا أحسن وأكفأ من واحديي اللغة، فقد آلت بالأحرى إلى مأساة تشقق لساني (diglossie) معيب، مولّد بالتالي لفرقة ثقيلة سميكة بين النفوس، ولخلافات عميقة لا منتجة، تجد لها غطاء ذرائعياً في شعاري التنوع والتعدد. ومن ثم ينشأ فشل كل “سينرجية” ثقافية محايثة، فنجدها مصابة بالوهن والتلاشي، ومن ثم أيضا بروز حقل ثقافي زاخر بالطفيليات والفاعلين السلبيين.

*في نظرك ما الأسباب الكامنة وراء ذلك؟

إن من المحق التفكير في أن أسباب ذلك الرئيسية تثوي في تضاؤل الاعتماد على لغة جامعة موحدة (فيدرالية)، لغة تخاطب وتواصل، كما في تعريضنا لتلقي أسافين الازدراء الذاتي والاستلاب، التي لا تتوقف في حجبها المدائح الذاتية والعلاقات البينية الحميمية.

وعليه، فإن تعريف أندري مالرو للثقافة بكونها “أقرب طريق بين إنسان وإنسان”، لا حجة لنا على أن هذا التعريف قد ينطبق حقاً على أوساط بلداننا أو يسري فيه.

*الأمر إذن عبارة عن معسكرات، معسكران بالضبط؟

نعم، إن هناك من يرى أن تبني ثقافتين بالتساوي ليس سوى تعبير عن عجز في اختيار الفرد لمعسكره وقبلته. وهكذا تذهب فئات إلى معانقة ثقافة ولغة بلاد تبدوان لها الأكثر قوة ومردودية. وفي المقابل نجد أقلية من ذوي النفوس السيادية المتعطشين للمعرفة والشغوفين (كتيرانس ومونتين والجاحظ وآخرين) بكل ما هو إنساني ويقاوم تخندق الهوية وأيضاً بلقنتها؛ أما الغالبية فمن ضيقي الصدور والرؤى، الذين ينتهون إلى التقوقع في اتجاه أحادي البعد، إذ يعرضون عن أي انغراس لغوي وأي مواطنة ثقافية. وهؤلاء ينقسمون إجمالاً إلى فريقين، كل منهما ينخرط في عالمه المصغّر المحدود، ويقدمان معاً مشهد كونهما لا ينتميان إلى هوية مشتركة ووطن واحد: الأول فرنكفوني لا اهتمام له مطلقاً بما يكتب بالعربية، يستحلي ممثلوه جهلهم المبرم بها وبأسمائها وعناوينها، إلا من بعض الاستثناءات النادرة تترجم بالفرنسية وتكون منطبعة بالإثارة الاجتماعية والسياسية والجنسية؛ أما الفريق الثاني، المسمى بفريق “المعربين” الذي في ما يشبه ردة فعل، يعرض عن الثقافة المكتوبة بالفرنسية بل يقطع الصلة بها، أو يغذي إزاءها مشاعر غامضة متقلبة. وهذا الفريق يتسم هو الآخر بنقائص واختلالات، أضرها عند شريحة واسعة استخدام الثقافة عوض خدمتها، والتعلق بريعهم فيها، متصفين بعنف حاد، ذاهبين أحياناً حتى إلى التنكر للمنافحين عن قضية ثقافة وطنية قوية بمرجعيتها ومعالمها، وبوحدتها التنافسية الرافعة.

غير أن بين الفريقين معاً قاسماً مشتركاً يتجلى في عجزهما عن التخلص من علاقاتهما التبعية الفرنكو-مشرقية، ولو أنهم يتألمون منها بأشكال متنوعة؛ علاقات كثيراً ما تستصغرهم وتحيدهم، كما لو أن إنتاجاتهم إن هي إلا هوامش وزوائد.

*ماذا تخسر الثقافة من جراء ذلك؟

في آخر المطاف، أي خسارات مهولة! وأي مناخ مقلق متآكل، حيث تعيث علامات مرضية وسلوكات رسوبية بينة. ويشهد على هذا الوضع المثقفون الأُصلاء الذين إذا ما نشروا أعمالهم بلغة (العربية مثلاً) يقيسون مدى إهمالها الفادح من طرف الغالبية من مواطنيهم الفرنكوفون، مثقفين وإعلاميين، يعترف كثير منهم بلا حرج وتورع بأنهم لم يقرأوا طوال حياتهم كتاباً واحداً بالعربية؛ وبالتالي فإن ثقافة شاسعة، مرتكزها هذه اللغة، تسقط عندهم في ثقب أسود لا قاع له. ألسنا هنا أمام وضع مأساوي مفجع؟!

*تؤمن بدور الفرد وقوته في الصراع داخل مجموعة بشرية معينة. ألهذا تكتب رواية حُبلى بالصراعات والأحلام والتطلعات والنقد؟

إن إيماني أو قل تعلقي الفكري بالفرد هو الذي حدا بي، على مستوى الكتابة إلى إدراك إمكانات الرواية التعبيرية ونجاعتها التبليغية في مجال خلق شخوص، وتتبُّع منحنيات حياتهم من خلال أنسجة العلاقات والعقد التي يتحركون فيها. وبالطبع يكون الفرد- الشخصية لا بالمعنى الملحمي أو حتى البطولي للكلمة، بل يحسن أن يتظاهر كعنصر حي متكلم عامل داخل مجموعة بشرية، يتفاعل معها وينتج، أو كصاحب شهادة تستحق في نظر الروائي الالتقاط والحكي.

بمعان عديدة، أدرك إذن أن للرواية علائق مدلولية وثيقة بالفلسفة اللانسقية الوجودية والحيوية، التي تحفل بأخصب مراتع التفكير في قضايا الإنسان. وهي في صيغتها الدينامية والحدية تتعلق أساساً بإشكال المعنى (أو اللامعنى) في جدلية الحياة والموت، المتمظهرة مثلاً في ثيمات دوستويفسكي وتولستوي البارزة: الإنسان والشر /الإنسان والحرية/ الإنسان والله، وهي ثيمات أمهات تتفرع عنها أخرى كثيرة، كالحرب والثورة والسلطة، أو كالحب والقلق والانهيار النفسي وخراب التواصل بين الذوات، وسوى ذلك. وإذا كان الحضور الفلسفي في أعمال ذينك الروائيين قوياً، كما رصده وحلله كثير من النقاد، فإنه ليس أقل اعتمالاً عند كتاب كبار لاحقين، أمثل عليهم باثنين فقط، هما نيكوس كازانتساكيس ولويس خورخي بورخيس.

*الرواية إذن، من منظورك، جنس أدبي مليء بالأسئلة القلقة؟

إن مقصد ما أوجزت ذكره هو أن أبوح بما ظل زمناً يخالج خاطري من أسئلة قلقة أبرزها: ألم يكن من الأجدى والأفيد لو أني أعرضت عن الأبحاث التي سقت عناوينها، وذلك حتى أتفرغ للإيجاد الإبداعي شعراً ورواية وشذرات؟ لكن بعد أن فكرت في الأمر ملياً، أدركت أن قلقي المشوب بشيء من الندم ليس له محل من الإعراب والصواب، إذ لولا عطفي على قطاعات من التراث العربي واشتغالي عليها لما كتبت رباعيتي التاريخية، ولما تيسّر للغتي أن تتأثر بفنون القول العربية ومقدراته.

*هذا التعدد اللغوي، وتعدد التأليف في حقول شتى، نافع أم ضارّ؟

صرت أجيب من كان يعيب عليّ تعدد مشاربي واهتماماتي في التحصيل والإنتاج. التعدد يكون صنو “التقدد” أو القددية حين يجمع بين عناصر متناثرة متنافرة، ويكون غير ذلك إذا أحسنّا فيه عملية المجانسة والملاءمة، وتوخينا الخلق الابتكار. وهذا الخيار الثاني هو ما آليتُ على نفسي تقصده بوصلة وقبلة، فلم أجد غضاضة ولا مانعاً في الاشتغال بالبحث التراثي والفلسفي، كما بالأدب عبر صنوفه المذكورة، فضلاً عن السياسة وكتابة السيناريو، وكلها أنشطة عملت ما قدرت على تحويلها إلى أوعية متواصلة أو أوثار متناغمة. وعلى أي حال فالأمور بخواتيمها ونتائجها، وللقارئ أمام إنتاج متنوع حرية اختيار ما يهمه ويبتغيه، إنتاج كان لي في إيجاده أئمة قدوات، منهم الجاحظ وطه حسين وجوته وسارتر وإيكو….. حاولت ما استطعت اقتفاء أثرهم وتمثل أعمالهم وتنوعهم الخلاق.

*الفرنكفونيون ينتقدونك أيضاً رغم أنك كاتب ومؤلف باللغة الفرنسية؟

وجه ثان من العداء يمثله كتاب فرنكوفون مستأسدون، مستقوون بالهيمنة الفرنسية، وكانت لي معهم سجالات ومعارك شفوية وكتابية، من ذلك كُتيبي “الفرنكفونية ومأساة أدبنا الفرنسي”، نعم الفرنسي (يا للمفارقة! وأدب هؤلاء لم يعد يسمى كما بالأمس الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية بل “الأدب المغربي” وحسب، كأنما الفرنسية رُسمت ولو من دون إعلان دستوري أو مؤسساتي. فالعربية في زعمهم المريض لغة مقدسة (!) وبالتالي لغة الرقابة والرقابة الذاتية، لا تهب في تصويرهم الأمرض حرية الخيال والتعبير الفردي، التي هي خصيصة اللغات الغربية.

وهكذا يوهمون شرائح السذج باقتدارهم على الكتابة بتلك اللغة، لكنهم بسبب موانعها وكوابحها يفضلون الكتابة بالأخرى، هذا مع أنهم يوجدون على بعد سحيق من اللغة العربية وثقافتها. ومثل ذلك الكلام العبثي أقرأه عند كتاب مثل الطاهر بنجلون وأتباعه الأصاغر سناً وآخرين من درجات دنيا. كلام لا ينمُّ إلا عن عداء مترسخ يعبرون عنه قولاً وفعلاً كلما استبد بهم منطق النرجسية والتبرير الذاتي من جهة، وشعور عنجهي بالتفوق ناتج عن جهل مركب وسوء طوية ضالع من جهة أخرى.

*كتابك “في الإسلام الثقافي”، عودة إلى التفكير الفلسفي-الثقافي؟

“في الإسلام الثقافي”، تساءلت عن الخيط الناظم بين عينة أعلام كبار (أبو حنيفة، التوحيدي، ابن رشد، ابن بطوطة، ابن خلدون)، تجمعهم أواصر اللغة العربية كلغة فكر وثقافة وتعبير، وتفرقهم، فضلاً عن أزمنتهم، مرافق اهتماماتهم (الفقه/الأدب الفلسفي/الفلسفة المؤولة المفسرة /الرحلة /التاريخ المنظر)، مع أن ثلاثة منهم مارسوا أيضا خطة القضاء المالكي؟ وكان مؤدى مدار البحث أن الخيط الناظم ذاك هو الثقافة بمعناها الواسع العميق، مما يجعل مقولة “الإسلام الثقافي” واقعاً مترسخاً جلياً، له ممثلوه الأفذاذ وحقول ممارسيه البحثية والإبداعية…..

ضفة ثالثة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى