صفحات الحوار

المفكر هشام جعيط؛ الحركات الإسلامية الراهنة تنظيمات إيديولوجية

 

 

حياة السايب

الدكتور هشام جعيط من أبرز المفكّرين والمؤرخين الذين يشغلهم التاريخ الإسلامي. كتب كثيرًا حول الشخصية الإسلامية والأزمات التي عاشها الإسلام والإشكاليات الكبرى التي واجهت المسلمين، كما درس علاقة الإسلام بأوروبا. وقد خصص السنوات الأخيرة من مسيرته الطويلة للدراسة التاريخية للسيرة وللشخصية المحمّدية من خلال ثلاثيته حول حياة الرسول. فضلًا عن انفتاحه على المناهج العلمية الغربية والفكر الغربي الحديث.

*بعد العديد من المؤلّفات التي تناولت فيها الشخصية العربية وأزمة الثقافة العربية والمدينة العربية وعلاقة الإسلام بأوروبا، تفرّغت لفترة طويلة لإنجاز مشروعك العلمي عن السيرة النبوية، الذي تعهدت فيه بالتجديد في تناول سيرة الرسول محمّد صلى الله عليه وسلم، من خلال الاعتماد على مناهج التاريخ وعلم الأديان والفلسفة والأنتروبولوجيا. فأين وصل هذا المشروع؟

لقد فرغت من إنجاز هذا المشروع بعد صدور الجزء الثالث والأخير باللغة العربية، وكان ذلك في شهر يناير/ كانون الثاني الماضي ببيروت، وتمّ توزيعه في تونس في معرض تونس الدولي للكتاب الأخير. وبعد اللغة الفرنسية، تُرجمت الدراسة إلى اللغة الإنكليزية، لكنني لم أجد ناشرًا في الولايات المتحدة الأميركية. إذ إن دور النشر هناك، تتولّى بنفسها الطبع والنشر والتوزيع، خلافًا لما يحدث لدينا أو في فرنسا حيث توجد دور نشر ودور توزيع، وتتولّى كلّ مؤسسة عملها بشكل مستقل. وفي الحقيقة، يهمني جدًا الوصول إلى القارئ المسلم في الولايات المتحدة الأميركية وحتى في الهند وباكستان. هناك مثلًا ما لا يقل عن مائة وسبعين مليون مسلم في الهند، وأنا أسعى لتوزيع أعمالي هناك. وكذلك نحاول إرسال الكتاب إلى القرّاء في باكستان. لكنني عمومًا أواجه صعوبة في الوصول إلى القارئ، حتّى في أوروبا، لأن مؤلفاتي العلمية لا تتردّد في نقد أعمال المستشرقين الكلاسيكيين نقدًا عمليًا دقيقًا، خاصّة الفرنسيين منهم.

*أنت ملمٌ بأغلب ما ألّفه المستشرقون عن السيرة النبوية، كما أنك مطّلع على مؤلّفاتهم التي تناولوا فيها الإسلام والشخصية المحمدية. هل نجح هؤلاء في تقديم تعريف موضوعي للإسلام والثقافة العربية والإسلامية؟ وإلى أي درجة كانت أعمالهم علمية ودقيقة؟

أغلب المستشرقين الكلاسيكيين لم يؤلفوا كتبًا قيمة وجديرة بالاهتمام عن السيرة النبوية. ومعظم مؤلّفاتهم الصادرة عن هذين الموضوعين، لا تعتمد على المناهج العلمية، بل تستغل رغبة الآخر في الاطلاع على الدين الإسلامي والثقافة العربية الإسلامية، ليقدّموا مؤلّفات تهتم بالحديث عن الدين أكثر من علم الأديان وتاريخ القرآن وتاريخ السيرة النبوية. فمثلًا معرفة المستشرقين الفرنسيين الحاليين بالتاريخ والتراث الإسلامي، محدودة جدًا. وهم مشغولون كثيرًا بكلّ ما يتعلّق بالسياسة وتحديدًا بالحركات الإسلامية.

وباستثناء تور أندريه Tor Andrae الذي اهتمّ بنقاط التلاقي بين الإسلام والمسيحية ومونتغمري وات Montgomery Watt ومارتن لينغز Martin Lings – رغم أن كتابه “حياة محمّد” قديم – فإن أغلب المؤلّفات الأخرى تفتقر إلى الدقّة اللازمة والموضوعية العلمية، فضلًا عن أن مستواها في الغالب ضعيف وفيها كذلك تحريف. وهي محكومة بمخاوف الغرب ومصالحه ورغباته، وفيها أيضًا إسقاطات واستعلاء. هناك من كتب حول السيرة النبوية بمنطق الترجمة، أعني بذلك الكتب التي صدرت بالفرنسية، ولم تكن سوى ترجمة بالفرنسية لسير كتبها الآخرون.

*عندما نحاول فهم موجة الإسلاموفوبيا التي ما فتئت تزداد حدّة في أوروبا، وخاصّة في فرنسا، هل يمكن القول إن المستشرقين قد مهدوا الطريق لخلق أرضية تساعد على رفض الآخر، وخاصّة المسلمين في الغرب، وتكرّس الأفكار المسبّقة؟

نعم، اضطلع المستشرقون الكلاسيكيون على وجه الخصوص، بدور في ترويج صورة خاطئة حول الإسلام من خلال مؤلّفات تفتقر إلى الدقّة وبلا فائدة علمية تُذكر، وبمستوى ضعيف في أغلب الأحوال، لا يساعد على تقديم صورة واضحة عن الإسلام والمسلمين. بل وتطغى على أعمالهم الأحكام المسبّقة والقراءات المتسرّعة والإيديولوجية والتحامل المغرِض والرغبة في المساس بثقافة المسلمين ومقدّساتهم. وذلك خلافًا للدراسات العلمية الدقيقة التي ترجع إلى نشأة الإسلام، وتعتمد في التحليل على النصوص الأصلية وخاصّة القرآن الكريم والأحاديث، ولا سيما القراءات المبكّرة لها والمحاولات النقدية. وهي تستفيد مما تتيحه علوم التاريخ وعلم الأديان المقارن والفلسفة والأنثروبولوجيا، من إمكانية “تنزيل” الحدث في محيطه الزماني والمكاني، ومما تفتحه من آفاق للفهم والتأمّل والتحليل العلمي الدقيق.

الإسلاموفوبيا ظاهرة موجودة في أوروبا، نظرًا إلى تاريخها الاستعماري. وتستمدّ جذورها أيضًا من الماضي البعيد. الغريب أن نجد الإسلاموفوبيا قوية جدًا في فرنسا، وهي البلد الذي تخلّص من الإرث الديني ويعيش علمانيته laïcité

بقوّة منذ فترة طويلة. لكن ما يجب أن ندركه اليوم، أن أوروبا تشهد انحطاطًا متواصلًا، وهي في تراجع حضاري كبير. وقادتهم، بمن فيهم الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند الحالي، تابعون للولايات المتحدة الأميركية. لكن أشير فقط إلى أمرين؛ بريطانيا هي البلد الديمقراطي الوحيد في أوروبا، وألمانيا منكفئة على نفسها رغم أهميتها الاقتصادية ودورها إلى جانب فرنسا في بناء الاتحاد الأوروبي. أوروبا اليوم في صدد فقدان دورها المستقلّ والمؤثّر، كما أن مساهماتها الفكرية تشهد تراجعًا ملحوظًا.

* لكن هناك موجة من “التخويف” من الإسلام، حتّى في الولايات المتحدة الأميركية؟

الأميركيون، وإن كانوا إمبرياليين، فهم يعرفون جيدًا كيف يحافظون على أصدقائهم في المنطقة، ولهم الكثير من الأصدقاء في المشرق العربي، ومصالحهم مرتبطة بهم. لا يقوم الأميركيون بسخافات على غرار الرسومات الكاريكاتورية المثيرة للجدل. لكن من المؤكد أن الولايات المتحدة الأميركية لم تتخلّ عن منحاها الإمبريالي، وقد أساءت كثيرًا إلى العالم العربي في المرحلة الأخيرة.

*هل تعتبر ما قامت به المجلة الساخرة الفرنسية “شارلي إيبدو” سخافةً إذن؟

نعم الرسم الكاريكاتوري الذي يستهزئ بثقافة الآخر وبمعتقده، عملٌ سخيف. وأظنّ أن التجمّع الذي دعا إليه الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند في باريس بعد مقتل عدد من الفنانين الكاريكاتوريين والصحافيين في مجلة شارلي إيبدو الساخرة، ليس إلا حركة سياسية أراد من خلالها الرفع من شعبيته التي كانت متدنية جدًا. وفعلًا حصل هذا، لكن تلك الشعبية التي اكتسبها من خلال موجة “أنا شارلي”، شهدت تراجعًا من جديد بعد أشهر قليلة على الحادثة.

* تعتمد الدراسات التاريخية للسيرة النبوية على التاريخ، وهو علم وضعي يهتمّ بالأفراد والمجتمعات البشرية في الماضي، ويخرج عن دائرة الإيمان والمعتقد، في حين تبقى حماسة جماهير المسلمين مرتبطة بالماورائي وبالمعتقد. واليوم يصعب انطلاقًا من ملاحظة الواقع، التشجيع على “ولادة” وعي يمكّن جمهور المسلمين من التمييز بين ما هو أصلي في الدين وبين ما هو محاولة للفهم وقراءة بشرية للدين، حتّى وإن اعتُمدت على مناهج البحث العلمي. ألا يعود ذلك حسب رأيك إلى قصور ما، في هذه الدراسات التاريخية؟

لم يهتم الكثيرون في المنطقة، وحتّى في تونس، بالإسلاميات والدراسات الإسلامية. وحتّى إن ظهرت كتابات، فإنها تعتمد على مناهج التحليل الفلسفي أو اللغوي. مقابل ذلك، توجد كتابات جيدة في المغرب. وفي ظنّي يشهد المغرب تقدّمًا مهمًّا في هذا المجال، تقدّمٌ أفضل مما يحصل في مناطق أخرى من العالم العربي، بما في ذلك تونس. نحتاج اليوم إلى تكثيف المشاريع العلمية التي تحاول الوصول إلى القارئ المسلم، أي إلى جماهير المسلمين، وتعتمد في الآن نفسه على آليات البحث العلمي للمساعدة على نشر الوعي التاريخي بالدين الإسلامي، ومقاومة الوعي الأسطوري، بما في ذلك نقد المسلّمات، وهي كثيرة؛ منها ما يدخل في إطار الثوابت، على غرار القول بأمية الرسول مثلًا، وهو قول مرتبط بالأسطورة أكثر من الحقيقة. وتكمن خطورته في أنه يحجب السيرة التاريخية لمحمّد النبي الإنسان. بمعنى آخر يجب توجيه الدراسات صوب قراءة الظروف الموضوعية لنشأة الإسلام، وتحليل المناخ الثقافي والديني والاجتماعي الذي كان سائدًا في فترة التأسيس، من أجل محاولة فهم معنى الدعوة المحمدية وجوهرها، بالرجوع إلى شخصية الرسول والنصوص الأصلية، في إطار دراسات علمية دقيقة تعتمد مناهج البحث التاريخي وغيره.

*يكاد يسود العنف والحروب في المنطقة العربية والإسلامية في المشرق والمغرب. كيف نفهم امتداد رقعة العنف بهذا الشكل؟

لم تكفّ البشرية عن الحرب. العنف السائد حاليًا تاريخيٌ أكثر منه سياسي. تكفي الإشارة في هذا السياق إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية، حيث تمّ القضاء على جزء كبير من سكّان العالم، رغم أن عدد السكّان لم يكن يتجاوز ثلاثة مليارات ونصف وقتذاك. كما أن منطقتنا المغاربية والإفريقية شهدت حروبًا، وواجهت الاستعمار في النصف الأوّل من القرن العشرين. بيد أن هذه الحروب والنزاعات، تحوّلت منذ النصف الثاني من القرن الماضي، من إفريقيا إلى الشرق وإلى منطقة الشرق الأوسط تحديدًا. بدأت ديناميكية الحرب في أفغانستان ثم انتقلت إلى العراق، واليوم توجد حرب أهلية في سورية، وهو ما يؤكّد ما قلته سابقًا إن العنف تاريخيٌ أكثر منه سياسي.

أغلب هذه الحروب التي اندلعت في المنطقة، برّرت نفسها عبر ارتباطها بالإسلام، من دون أن يعني ذلك أنها حروب دينية أو لها صلة حقيقية بالدين، لكن تمّ توظيف الإسلام لتبريرها، وبالتالي الأمر ليس جديدًا.

الإسلام ضمن هذا المنطق، لا يُستعمل كعقيدة بل كأيديولوجية، تجمع بين مختلف الفئات التي تتوحّد في نضالها ضدّ العدو الواحد. وحتّى الحركات الإسلامية اليوم، تنظيمات أيديولوجية. وهي تشكّك في العلاقة مع الغرب. ويعتبر مؤسّسوها وأنصارها أنفسهم أعداءً للغرب الإمبريالي. كما أن الكثير منها، ليس مبنيا على دراسة لاهوتية مثلًا، وفق ما كتبه علماء الدين من القدماء أو غيرهم. هذه التنظيمات مفعمة بالسياسة، يختلط فيها الحلم بالتاريخ، ويمكنها أن تؤثّر في الجغرافيا بشكل مباشر.

*هل تتوقع أن تتواصل الحروب والصراعات والنزاعات طويلًا في منطقتنا؟

لا أستبعد ذلك، وأعتقد أن العنف قد يتواصل، بل يمكن أن يكون مرشّحًا ليزداد حدّة وقوّة. ربما تتواصل الحروب والنزاعات لفترة طويلة قد تمتدّ لعشرين سنة أخرى. وقد تحدث خلالها زلازل سياسية حقيقية، من شأنها أن تتغيّر بموجبها ملامح الخريطة الجيوسياسية في المنطقة.

*ألا تتوفر فرصةٌ اليوم لوضع حدّ للحرب وإراقة الدماء؟

طبيعي أن يأتي يوم وتنتهي فيه الصراعات التي تعيشها المنطقة الإسلامية، خاصة منطقة الشرق الأوسط. لكن ما لا يمكن الجزم به، هو متى سيحصل ذلك، وكيف ستكون الخريطة الجيوسياسية في تلك اللحظة؟ فالعالم العربي الإسلامي يعيش فوق رمال متحركة، والتدخّل الأجنبي واضح. أميركا الإمبريالية تسعى إلى دعم وجودها في المنطقة، وإلى تعزيز مكاسبها، وإيران تعمل من جهتها على مدّ نفوذها، والتنظيمات المسلّحة تكتسح الأرض في العراق وسورية بشكلٍ لافت للانتباه. من المستبعد أن تعود الأوضاع إلى ما كانت عليه في ظلّ هذه المتغيرات المتسارعة. هناك أزمة عميقة وكبرى لا يمكن معالجتها بمجرد الرغبة والشعارات الفضفاضة. فديناميكية الحرب لا تزال فاعلة وقوية، وهي تثير المشاعر وتوسّع من دائرة طموحات الأطراف المتصارعة.

*هل تعتقد أن “تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش) سينتهي به المطاف إلى تحقيق أهدافه، وبناء ما يسميه دولة الخلافة على أرض العراق والشام؟ وهل توجد خشية حقيقية اليوم على الدولة الوطنية. أي هل الدولة الوطنية في تونس على سبيل المثال، مهدّدة اليوم في وجودها؟

نعم، هناك إمكانية لأن يبني تنظيم “داعش” دولةً تجمع جزءًا من العراق وجزءا آخر من الشام. فهذا الاحتمال وارد إلى حدّ ما، رغم الصعوبات القائمة حاليًا. لا أستطيع أن أجزم، لكن يبدو أن العراق يتجه نحو الانقسام. فتنظيم “داعش” يمكن أن يؤسّس دولة “داعش” في الشمال، ويضيف إليها جزءً مهمًّا من سورية، مع قيام دويلات صغيرة للشيعة، تكون تحت رعاية إيرانية، إلى جانب دولة صغيرة للأكراد. كما أنه من المرجّح كذلك أن يظفر الرئيس السوري بشار الأسد بدويلة علوية في جزء صغير من سورية، وبذلك تعود جماعته إلى حجمها الحقيقي.

* وماذا عن تونس؟

في ما يتعلّق بتونس، لا أظنّ أن هناك تهديدات جدّية من هذا القبيل. حتّى وإن وجد تنظيم “داعش” في ليبيا، الذي يسعى لبسط نفوذه على أجزاء من التراب الليبي، بعد أن تمركّز في كل من مدينتي درنة وسرت.

لا أتصور أن تنظيم “داعش” يمكنه تحقيق مشاريعه في تونس وفي ليبيا، وأيضًا في مصر التي يؤسفني أن أقول إنها استبدلت الديمقراطية بالديكتاتورية، وإن ما يحدث اليوم في مصر من استبداد، يفوق ربمّا ما حصل في عهد حسني مبارك.

بالنسبة لتونس، من الصعب أن يبسط هذا التنظيم سلطته على البلاد، لأن حضوره غير مؤثّر، ولأن أساس الدولة الوطنية ما زال قائمًا، ولأن بورقيبة وغير بورقيبة، قاموا بدور كبير في إضعاف العامل الديني، خلافًا لمنطقة الشرق الأوسط. لا يعني هذا أن التونسيين غير متدينين، بل على العكس هم متدينون، وتوجد بورجوازية تونسية متدينة جدًا، وتمارس كلّ الفروض الدينية، ولا تشرب الخمر. لكن جزءً مهمًا من مكوناتها، لا يقبل بحزب حركة النهضة الإسلامي، نظرًا إلى خوفها من تهديد ما يسمى بالنمط المجتمعي التونسي، الذي بُني على مبادئ الحداثة والحريّات العامة والشخصية. فتونس، رغم ما يجري، لا تزال تشكّل كيانًا متجانسًا ومتماسكًا. وحتّى ليبيا، يستبعد أن تسقط في أيدي “داعش” وغيرها من التنظيمات المتشدّدة. إن عناصر الوحدة متوفرة في منطقة المغرب العربي، مقارنةً بما هو قائم في المشرق العربي.

*بالنسبة لمفهوم الدولة الوطنية، هل تهدّده فعلًا فكرة الخلافة التي تنادي بها الحركات الإسلامية الراديكالية، وكذلك السلفيون؟

الدولة الوطنية مفهوم غربي نشأ متأخرًا، بداية من القرن السابع عشر. وهو مفهوم نسبي اليوم، بفعل توجّه الدول الغربية نحو بناء تكتلات اقتصادية كبرى، مثلما حصل في أوروبا، التي اتجهت نحو بناء وحدة أوروبية، رغم أن الوحدة السياسية لا تزال تواجهها صعوبات حقيقية. فالكيان الأوروبي مهدّد، ولا يزال يصطدم برغبة قوية في الحفاظ على السلطة القطرية كاملة. وإن كانت استقلالية هذه السلطة واهمة إلى حدّ ما، بما أن القادة السياسيين يتّبعون سياسات تُملى عليهم من الخارج، ومن قبل منظّمات مالية عالمية وشركات متعددة الجنسيات، تجنح إلى ترسيخ العولمة.

أمّا مفهوم الدولة / الأمّة في المنطقة، فقد نشأ في أعقاب انهيار الخلافة العثمانية. لكن حتّى في ظلّ هذه الخلافة، كان يُلاحظ بأن الخصوصيات القطرية قد صمدت، وكانت تعبّر عن نفسها بأشكال متعددة.

أما فكرة الخلافة فقد بقيت موجودة دائمًا في وجدان المسلمين وجمهورهم. وهي لم تنقطع أبدًا، حتى أن السلطان الحفصي في تونس مثلًا، استعمل لقب الخليفة لفترة ما. لم ينقطع ذكر مفهوم الخلافة إلا في وقت متأخر بعد سقوط الدولة العثمانية، وبالتالي فهي ليست جديدة كذلك. في حركة التاريخ، التحولات الكبرى تحتاج إلى زمن طويل حتّى تستقر. ومن مشاكل العالم العربي أن قضايا تاريخية مهمّة وأساسية، لم تُحسم بشكل واضح وعميق، وهو ما جعل الأوضاع في المنطقة مترجرجة وقابلة باستمرار للانهيار والانتكاس إلى الخلف.

* طُرح دائمًا سؤال المثقّف العربي ودوره، ربّما في المجتمعات العربية. كما طُرح السؤال حول الفقر الثقافي الذي تعاني منه هذه المجتمعات.

فقد المثقف فعلًا دوره في مجتمعاتنا وحتّى في المجتمعات الغربية. المثقّف لم تعد له الوجاهة، وقد أخذ دوره الذين يؤثّرون في الجمهور من قيادات سياسية وحركات سياسية وفاعلة في المجتمع وكذلك الأحزاب ووسائل الإعلام.

أما إذا عدنا لتونس، فإنني أستطيع القول إن رجالات الزيتونة قاموا بعملٍ كبير كمثقفين للارتقاء بالفكر الديني. وقد غابوا اليوم تمامًا، لكن دور الزيتونيين معروف، وكان أساسيًا.

لستُ مؤيدًا كثيرًا لاستعمال مصطلح المثقّف، وذلك لاعتبارات كثيرة. لكن من المؤكّد أن العالم العربي في حاجة إلى نخبة أكثر نضجًا في هذه المرحلة التاريخية، وإن كانت هذه المسألة لا تقتصر فقط على العرب، فعلى سبيل المثال باستثناء فرنسوا ميتران والجنرال شارل ديغول من القرن الماضي، وإلى حدّ ما باراك أوباما، فإن قادة اليوم في العالم، ليس لديهم ثقل ثقافي. هناك فراغ ثقافي كبير على الصعيد الدولي، وهو أشدّ وأعمق على صعيد العالم العربي والإسلامي.

*تنتقد بشدّة الشباب الذي يلقي بنفسه في البحر باحثًا عن وهم الخلاص، بالعبور إلى الضفّة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط، وتندد بهذه العمليات التي تعدّها انتحارية. ألا تظن أن الأمر لا يختلف عن الشباب الذي يهاجر إلى سورية والعراق من أجل الجهاد. ألا تعتبر الأمر انتحارًا كذلك؟

لا، الأمر مختلف جدًا بين الشباب الذي يلقي بنفسه في البحر لأنه يتوقّع أن الخلاص موجود في أوروبا التي يتصوّرها جنّة، وهو واقع في وهم كبير، وبين الشباب الذين يعانون من فراغ روحي شديد، لكن لديهم استعداد للمغامرة من أجل البحث عن هدف أسمى، حتّى لو كان هذا الهدف خاطئًا، وذلك من خلال الانضمام إلى الحركات الإسلامية المتشدّدة أو من خلال التوجّه إلى البلدان التي يظن أنه يمارس فيها، عن طريق الجهاد، حاجته الشديدة في تحقيق رغبة طوباوية، حتّى لو أدّى به ذلك إلى الموت. هناك فرق كبير بين من يلقون بأنفسهم طُعمًا لأسماك البحر وبين من لديهم فكرة يعملون على تحقيقها من خلال العنف والإرهاب.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى