إياد الجعفريصفحات المستقبل

المقال الذي أرّقني/ إياد الجعفري

 

 

قد يكون هذا المقال الذي بين أيديكم، أكثر مقالٍ أرّقني التفكير فيه، قبل كتابته، طوال حياتي المهنية، حتى الآن. فمن المفترض أن أعلّق فيه على ردٍ من كاتب، سوري “كردي”، استاء من مقالي الأسبوعي السابق، الذي كنت قد أفردته لما يمكن أن يحدث شمال شرق سوريا، بعيد سيطرة وحدات “حماية الشعب” الكردية على منطقة تل أبيض.

أما لماذا أرّقني هذا المقال؟…فذلك، ببساطة، لأنني لا أريد أن أكون أحد الأطراف التي تؤجج “فتنة” عربية – كردية، يبدو أن لهيبها يستعر في زاوية من الجغرافيا السورية، لطالما ظُلم سكانها، بكل مكوناتهم.

أول مكونات تلك المنطقة، الذين تعرضوا للظلم، هم “عرب الغمر”، الذين خسروا أراضيهم في مشروع “سد الفرات”، بالرقة….المشروع الذي أنار جزءاً كبيراً من سوريا بالكهرباء، وحسّن فرص الاستثمار الزراعي في منطقة الجزيرة السورية، أفقد أكثر من 4 آلاف أسرة عربية أراضيها. وغُمرت بيوتها، وأراضيها بالمياه. ومن ثم، استغل نظام الأسد الأب، مأساتهم، في تنفيذ مشروع “فتنوي” بامتياز، فوطّنهم في مناطق تماس مع أكراد شمال شرق سوريا، الذين تعرضوا هم أيضاً للظلم. إذ صادر الأسد الأب الكثير من أراضيهم، تحت دعوى “الإصلاح الزراعي”، ومنحها لـ “عرب الغمر”. وكالعادة، أجاد نظام الأسد، في عهد الأب والابن، خلق “الفتن”، واللعب على أوتارها، لضبط المجتمع السوري بأكمله تحت قبضته. فكان “عرب الغمر”، فئة اجتماعية جاهزة في أي لحظة للاستثمار من جانب نظام الأسد، بفعل مخاوفهم الوجودية من حنق شركائهم في الأرض، من الأكراد.

وحينما انتفض أكراد القامشلي عام 2003، استخدم نظام الأسد الابن سلاحه المُخبئ، “عرب الغمر”. لكن هل كان لـ “عرب الغمر” خيار آخر أمام مخاوفهم من مشروع “كردستان” جديد، يستنسخ تجربة العراق بعيد أشهر من سقوط نظام صدام حسين!

اليوم، ما يزال سد الفرات يُنير أجزاءً من سوريا بالكهرباء. ربما أجزاءً من مناطق تمركز الأكراد، ذاتها. لكن المكون الكردي السوري، في معظمه، يرى في “عرب الغمر”، مستوطنين، يجب طردهم، واستعادة الأراضي التي سُلبت، دون أن يفكروا لبرهة، من سيعوض “عرب الغمر” أنفسهم عن خسارة أراضيهم جراء مشروع سد الفرات، الذي تجني سوريا بأكملها ثماره اليوم.

ولأن التاريخ لا يرحم إذا أردنا نبش دفاتره، يمكن للباحثين أن يجدوا الكثير من الأدلة الموثقة التي تثبت أن جزءاً كبيراً من أكراد شمال شرق سوريا، قدموا من تركيا خلال العقد الثالث من القرن العشرين، بعد فشل ثورة الأكراد ضد حكم “كمال أتاتورك”. وتذكر المصادر التاريخية الموثقة أن هجرات اليد العاملة الكردية من تركيا إلى شمال سوريا استمرت خلال عقود الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وكان الأكراد يُسجلون كـ “مكتومين” على أمل نيلهم الجنسية السورية لاحقاً. وهو ما اعتمد عليه نظام الحكم بدمشق، لتبرير رفض منح الجنسية السورية لعدد من أكراد الجزيرة، في إحصاء عام 1962.

وهكذا، وكما هجّر كمال أتاتورك أعداداً كبيرة من أكراد تركيا إلى شمال سوريا، هجّر حافظ الأسد، في السبعينات، أعداداً من العرب، من الرقة إلى الحسكة وريفها الغربي. واليوم، يُهجّر الأكراد، كما يُشاع، أعداداً من العرب من ريف الحسكة الغربي، وتل أبيض، إلى تركيا، فيما يُهجّر “داعش” أعداداً من الأكراد من الرقة إلى عين العرب “كوباني”. ويبدو أن التنظيم، إذا ما أُتيح له، بصدد تهجير أعداد من الأكراد من مدينة الحسكة إلى ريفها الغربي، أو ربما إلى تركيا، مرة أخرى.

هل هي عبثية التاريخ؟…لا أعتقد ذلك…أظن أنها عبثية غرائزنا وانتماءاتنا التقليدية، حينما نترك لها الحبل على الغارب. وأظن أن المستبدين، والمتطرفين، سواء بسواء، يلعبون دوماً على أوتار هذه الغرائز.

أتعبني هذا المقال كثيراً، لأنني لم أكن أريد أن أنجر وراء الانتماء “القومي” بصورته الغرائزية. في الوقت الذي تستعر فيه غرائز الانتماءات الضيقة في شمال سوريا وغربها، على حساب مصالح السوريين جميعاً.

وفي الوقت الذي نحتاج فيه إلى حكماء يُخرسون صوت الغرائز العِرقية والطائفية المُستعرة في أوساطنا اليوم، حيث لا مكان للعقل الذي يتكلم بلغة المصلحة والاقتصاد، أفضل ككاتب، أحتسب نفسي على “المثقفين”، ألا أنجر وراء جدل عقيم، حول من له الحق التاريخي، في تهجير الآخر. وأفضل أن أكون مع من يدعو لسوريا موحدة، حيث مصالحنا الاقتصادية والديمغرافية والتاريخية تُوجبها. بغض النظر عن شكلها، “فيدرالية” أم مركزية. ما دام ذلك سيكون بالتوافق بين السوريين جميعهم، وليس عبر فرض أمر واقعٍ جديد، بموجب تهجير جديد، يؤسس لحقد جديد، يجد في مراحل تاريخية قادمة متنفساً له للتأسيس لتهجير آخر جديد.

هل يمكن أن تكون لدعوة “سوريا موحدة لكل أبنائها” أصداءً في مشهد ميداني لا يُسمع فيه إلا صوت قعقعة السلاح، حيث تنتفض “الذات العِرقية والطائفية” للبعض على حساب مخاوف البعض الآخر؟…أعتقد في نهاية المطاف، سيكون ذلك….لكن بعد طريق طويل، اختاره السوريون للأسف، كي يختبروا أن السلاح لن يكون يوماً الحل لمشكلاتهم الضيقة، على حساب مصالحهم المشتركة العريضة، في تكرار لتجارب شعوب خبرت طرقاً طويلة مؤلمة من الاحتراب الأهلي قبل أن تقتنع، بصورة مطلقة، أن الغَلَبة لا تؤسس لمصلحة دائمة، وأن التوافق خير سبيل للاستقرار المُستدام.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى