راتب شعبوصفحات سورية

“المقامر” على أضواء سورية/ راتب شعبو

من دون تردد امتدت يدي إلى رواية “المقامر” لدوستويفسكي حين وقفت أمام مكتبتي أريد أن أهرب من حاضر سوري ثقيل مشلول. كنت قد قرأت عن الرواية مراراً، ولكني لم أقرأها من قبل. ربما أراد مزاجي أن يهرب بي إلى زمن بعيد، قليل الارتباط بحاضرنا الصعب. أو ربما هو شوق إلى الاحتكاك بكتاب “سوفياتي” له في الذاكرة اعتبار جميل، غلاف مقوى مميز، ونوع مميز من الورق والقطع ومن الخط العربي، تتخلله رسوم رشيقة من وحي الرواية. كتابٌ كان رفيق حلم بحياة أفضل وهبناه أعمارنا، حلم لم نخنه، وخاننا. لعل يدي اختارت “المقامر” في ما يشبه النزوع الرومنطيقي. سعي إلى زمن يبدو لنا اليوم أكثر صفاء. وقد انصرفتُ إلى قراءتها راغباً في أن أغوص في كبسولتها وأتخفف من تجاذبات الأحداث الساخنة وضغوطها من حولنا. دماء وحزن وجوع وبرد ومذلة وتشرد ونزوح وخوف وكراهية… الخ. غير أني أخفقت.

ما إن دخلتُ قليلاً في عالم الرواية حتى وجدت نفسي عاجزاً عن الاستسلام لها. راح عالمي السوري الحاضر، الذي أردت الهروب منه، يقسر عالم الرواية على الانضواء فيه، وعلى اكتساب التعريف منه.

بتّ في لجة صراع عالمين أفقدني القدرة على الاستسلام للرواية والغوص الذي كنت أرغبه في مجالها. شيء يشبه الفترة الأولى بعد خروجي من سجني المديد. حينها كانت شخصيات رفاقي الذين تركتهم للتوّ في السجن، هي معايير مقاربتي للشخصيات التي بدأتُ الاحتكاك بها خارج السجن، سواء في الشكل أو في الطباع. كما لو أني أردت أن أستأنف سجني في “حريتي”. وكذا الحال مع الرواية، وجدتُني، بدل أن أدخل فيها تاركاً أوجاعي خارجاً كما أملتُ، أستأنف مأساتنا فيها، وأتعرف إلى عناصرها بدلالة عناصر واقعنا المأسوي.

عجوز ينتظر الجميع موتها كي يحصلوا على حرية التصرف بميراثهم. الجدة مُقعدةٌ ولكنها ليست على أبواب موت. يستعجل الأقارب موتها لكنهم يفاجأون بها وقد جاءت من روسيا إلى الفندق الألماني حيث هم يؤجلون مشاريعهم في انتظار خبر وفاتها. جاءت بكل نزواتها الحياتية الخَرِفة. تدخل صالة القمار وتقامر بجنون كما لو أنها تنتقم من رغبة أقاربها المعلنة بموتها. بدت لي الجدة المُقعدة في الرواية صورة فنية عن سوريا القديمة.

هكذا وبكل فظاظة. سوريا القديمة مُقعدة أيضاً وتهرب من الموت بالمزيد من الموت، كما تهرب الجدة من موتها بالمزيد من العربدة، ومن خساراتها بالمزيد من الخسائر. وكما حضرت الجدة، يحضر قديم سوريا ويستحضر معه كل بالٍ وقديم في العالم، في غاية واحدة هي خنق سوريا الجديدة وإطفاء الأمل بها. وكما قامرت الجدة، يقامر قديم سوريا، مستعيناً بقوى تشبهه وتبادله المنافع، بميراث السوريين المعنوي من ثقة متبادلة وروابط مشتركة وتواصل إنساني، كما يقامرون بميراثهم المادي وممتلكاتهم الملموسة.

كل ما يبدر عن شخوص الرواية، راح يتسرب إلى وعيي عبر مسارات وأطر وتعريفات حدّدتها اللوحة السورية المدمّاة القاتمة. نزق الجدة وتسلطها وخفتها، مكر الفرنسي دو غريو وأنانيته، الصلف الفارغ للجنرال الذي سرعان ما يتحول إلى وضاعة مبتذلة، استقامة المعلم الشاب ألكسي ايفانوفيتش وشرفه وابتلاؤه بشغفه بالقمار… الخ.

بدا لي الأشخاص البولونيون الذين راحوا يتزاحمون لنصح الجدة العجوز وتقديم المشورة لها في حمأة انغماسها في الرهانات على الروليت وهم يملأون جيوبهم من مالها نهباً وغشاً، بدوا لي شبيهين بالدول والجهات والشخصيات التي باتت تتغذى على هذا الصراع السوري العبثي وتستجر المكاسب منه ولا غاية لها بعد سوى استمراره. هكذا بدلاً من أن أدخل في كبسولة الرواية وأعيش جوّها وأستقل فيها عما نحن فيه، أخذتُ الرواية إلى كبسولتي وفرضتُ عليها جوّي وظلمتُها، من دون إرادة مني أو رغبة، وأسبغتُ على شخوصها ألواني ورأيتهم على أضواء سوريا المحترقة.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى