صفحات سورية

المقاومة والممانعة في زمن الانتفاضات العربية

 


سلامة كيلة

لم تثر الثورة التونسية أي هاجس، أكثر من ذلك أثارت الثور المصرية كل المكنون العربي المناهض لنظام حسني مبارك، الذي أصبح ملحقاً بالإمبريالية الأميركية، ويخضع للسياسة الصهيونية. وأصبحت الثورة هي ثورة ضد كامب ديفيد، وليست ثورة الشعب المصري من أجل العمل ورفع الأجور والدولة المدنية. ولقد كان هناك انسجام شعبي عربي مع النخب في الموقف من هاتين الثورتين، وأصبح الأمل كبيراً في التغيير وهزيمة الإمبريالية. لم يظهر ما يشير الى أن ما يجري مخالف للمسار الثوري.

وحتى الثورة في اليمن وُضعت في السياق ذاته. لكن مع الثورة في ليبيا بدأ من يتشكك في الثورة فيها، خصوصاً مع الدعوات الى التدخل الدولي، ومن ثم إقراره. وأصبحت الثورات محل تشكيك بعد الثورة في سورية، حيث أصبحت كل الثورات العربية “من صنع أميركي”، ولعب التغيير الذي تحقق والذي أوضح بأن قيادات الجيش التي ركبت الثورة في تونس ومصر لم تقطع مع الولايات المتحدة ولم تغيّر في الوضع كثيراً، رغم كل ضغوط الشارع. ليبدو أن الثورات قد “صُنعت” من أجل تبديل نظم مهترئة بأخرى فتية.

في سورية طُرحت مسألة المقاومة بحدة، خصوصاً حماس وحزب الله. فما مصيرهما إذا حصل تغيير في سورية؟ الصورة النمطية التي كانت قد ترسخت لدى النخب في لبنان والأردن خصوصاً قامت على أن الموقف “الممانع” للنظام في سورية هو الركيزة لكل من حزب الله وحماس. وبالتالي فإن أي تغيير سيكون أميركياً بالضرورة وفق السياق الذي باتت توضع فيه الثورات العربية، وكانت سورية “أنصع” مثال عليه. فهل أن التغيير السوري سوف يقود الى تصفية المقاومة؟

سنشير الى أن حماس فتحت على مصر، وعادت جزءاً من سلطة أوسلو، ولقد باتت منذ زمن مع هدنة طويلة، وكبح اطلاق الصواريخز وايضاً بات وضعها مرتبط بالتحولات العربية من زاوية “الحلم الإخواني” بأنهم أصبحوا قوة قادرة على السيطرة على البرلمان ومشاركة في الحكومة في كل من مصر وتونس، وربما بلدان عربية أخرى. إنهم يظنون أن زمنهم قد أتى، ولهذا نقاش آخر. لكن المهم هو أن المقاومة باتت هي حزب الله. هل سيتضرر الحزب من التغيير في سورية؟ ربما، وربما لا، حيث أن هؤلاء الذين يقومون بالثورة هم ممن كان يدعم حزب الله خلال السنوات الماضية، وهم مع المقاومة ومواجهة الإمبريالية والدولة الصهيونية، وملاحظاتها التي برزت في الشعارات تتعلق بالجولان، وفي رفض أميركا. رغم ذلك يمكن تلمس أن أي تحوّل سوف يغيّر من طبيعة العلاقة، هذه مشكلة ولا شك، لكن لابد من ملاحظة مسألتين، الولى تتعلق بمأزق حزب الله قبل هذه اللحة الثورية، والثانية سياق الثورات العربية، وما يمكن أن توصل إليه.

فحزب الله في مأزق نتيجة طابعه “الطائفي” (أي كونه منحصر في طائفة)، وإذا كان هذا الجانب ليس ذو أهمية حين كانت المسألة تتعلق بالتحرير فقد أصبح إشكالية بعد أن اصبح للحزب دور داخلي، وما حصده حين هزم الجيش الصهيوني سنة 2006 خسر نصفه حينما أصبحت المسألة تتعلق بالسلطة. فهو لا يستطيع السيطرة، ليس نتيجة قوته بل نتيجة طابعه الطائفي رغم قوته، ولم يعد ممكناً التوصل الى توافق طائفي. وأصبحت المقاومة تعني ردع أي هجوم صهيوني فقط. وفي هذا الوضع كان يحتاج الى سورية، وخصوصاً على أرضية التحالف السوري الإيراني. هنا ستكون المسألة الطائفية مشكلة للحزب وتفرض تحالفات محدَّدة، سيبدو أي تغيير سوري خطر عليها. وهذا ما يظهر لطيف من داعمي المقاومة أو المتاجرين بها. وكلية الوضع هذا كانت نتاج اوضاع عربية قامت على قسمة النظم والقوى الى “معتدلين” (أي ملحقين بالإمبريالية) و”ممانعين” رغم تشوش معنى الممانعة (التي كنت استخدمتها منذ سنة 2002 في توصيف النظم التي ترى الإمبريالية الأميركية أنها لم تُخضع بما يكفي وحان وقت اخضاعها). وكانت تبدو كموقف سياسي وليس كتكوين اقتصادي طبقي. حيث سارت سورية خلال العقد الماضي خطوات هائلة نحو اللبرلة، هذه اللبرلة التي لا توجد أسس تناقض جدية مع النمط الرأسمالي المسيطر. بالتالي ستبد الممانعة متوقفة على “شعرة” لكي تنتهي بعد أن أصبحت القاعدة الاقتصادية متوافقة مع ما تريده الإمبريالية في الأطراف (أي نظام اقتصادي ريعي قائم على الخدمات والاستيراد والعقارات والسياحة).

أصلاً هذا الوضع الاقتصادي، الذي مركز الثروة وهمّش كتلة كبيرة من الشعب، هو الذي فرض الثورات في البلدان العربية ومنها سورية. من هذا المنظور لا بد من رؤية آفاق الثورات في البلدان العربية، والتغيير الذي ستفرضه. نظرية المؤامرة لا موقع لها هنا، وهذا المنطق هو نتاج عقل نخب سطحية وكانت طيلة العقود الماضية عاجزة عن رؤية الواقع وفهم أزمات الشعوب. ولهذا لم تفهم ما جرى، ولماذا استطاعت الرأسماليات المسيطرة استمرار سيطرتها رغم التغيير في الأشخاص وشكل السلطة؟ بدل أن تتحملمسئوليتها التي فشلت فيها طيلة العقود الماضية وسمحت لأن تكون الثورات عفوية، وتقاد من شباب جدد يمتلكون الجرأة والإصرار على التغيير، وهم ينظرون عن عجز الشعب ولا مبالاة الشباب، وتمسكت بأشكال أصولية مختلفة.

لا شك في أن الثورة يعيش مأزقاً، ومرحلتها الأولى تتسم بسيطرة قوى خليط وباستمرار السلطة الطبقية ذاتها، ولا يجري الميل لتغيير النمط الاقتصادي الذي همّش كل هذه الكتلة، لكن من قال بأن الثورة قد وصلت الى نهايتها؟ ذات العقل السطحي هو وحده الذي يري الأشكال وما جرى دون تلمس ما يمكن أن يجري. سأقول بأن الثورات العربية التي ستطال كل البلدان لأنها أصبحت تشهد النمط الاقتصادي ذاته، سوف تفرض تحقيق تغيير عميق في الوضع العربي، حيث ليس من الممكن لملمة الوضع الشعبي بعد أن انكسر حاجز الخوف وتدفقت كتلة هائلة من الشباب الى الميدان السياسي، التي ستفرض نشوء أحزاب جديدة برؤية عميقة للواقع، وتقوم على تصعيد الصراع مع الإمبريالية والدولة الصهيونية، ومن أجل الوحدة والتطور، لأن تجاوز الهميش سيفرض تأسيس نمط اقتصادي منتج يقتضي القطع مع النمط الرأسمالي والصراع معه، وبالتالي تحقيق الاستقلال السياسي والاقتصادي.

وانطلاقاً من ذلك أصبح على كل مقاوم وكل قوة مقاومة أن تتكيف مع هذا الوضع الثوري الجديد، وليس التمسك بتحالفات تكتيكية في مواجهة حركة الشعب. خصوصاً وأن الصراع بات واضحاً، كصراع طبقي وطني، وهو ما يجعل الشكال التي لا تتكيف مع ذلك دون جدوى.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى