مراجعات كتب

المكشوف والمحجوب: أديان عارية وفرد مستور/ أحمد شوقي علي

منذ أن بدأ البشر يقابلون بشرا آخرين لديهم أفكار مختلفة عن العُري، أصبح العالم أكثر تعقيدا”

في نهاية الألفية الثانية، كانت مجلة “حريتي” الأسبوعية، التي تصدرها “دار التحرير” في مصر، تُطبع بغلاف تزينه صورة امرأة تتعرى أو أخرى تختال في ملابس خفيفة، وكان بائع الجرائد المسن الذي يَنصبُ صحفه على ناصية الشارع، يجتهد في تغطية ذلك الغلاف بمطبوعات أخرى، بحيث لا يبدو منه غير عنوانه فقط.

ربما كان ذلك البائع يلعن -في كل صباح- محرري المجلة الذين لجأوا لهذه الصورة “البطّالة” كي يرفعوا من مبيعات صحيفتهم، فقرر أن يفسد عليهم خطتهم، وربما كان هؤلاء  يؤمنون بأن حرية المرء تتجلى في حرية جسده، وأن تخليه عن ملابسه بمثابة كسره القيود التي تكبله. أما أنا، وكتلميذ صغير وقتها، لا أعرف كيف أدبر ثمن المجلة من مصروفي البسيط، لم أستطع الاطلاع على محتواها، فاكتفيت بالظن أنها مجلة إباحية، ليس بسبب صورة الغلاف فقط، وإنما لأن كل العارضات اللائي تصدرنه كن أجنبيات. وربما تلخص الكاتبة الهولندية مينيكه شيبر، تلك الإشكالية، بقولها إنه: “منذ أن بدأ البشر يقابلون بشراً آخرين لديهم أفكار مختلفة عن العُري، أصبح العالم أكثر تعقيداً”.

كيف يرى الإنسان تعرية الجسد وتغطيته؟ وكيف يفسر الحالتين؟

في كتابها “المكشوف والمحجوب.. من خيط بسيط إلى بدلة بثلاث قطع”(*)، تكشف الهولندية مينيكه شيبر، استحالة صياغة إجابة واحدة مطمئنة على أي من السؤالين، فبالرغم من اعتبار الأوروبيين في العصور الوسطى، العري، نوعًا من أنواع الهمجية، فإنهم ينظرون الآن لتغطية المرأة جسدها بالكامل باعتباره ارتدادًا بربريًا، وفي حين قاومت الشعوب المُستعمرة رغبة الغزاة في تغطيتهم باعتبارها اعتداء سافراً على الهوية، ينظر المتشددون دينيًا اليوم لموضة الملابس الخفيفة كوسيلة لتخريب تلك الهوية نفسها.

ولا يبدو الكتاب، منشغلاً فقط بالإجابة على هذا السؤال، أو بتتبع التفسيرات المختلفة لمسألتي التعري والتغطية، وإنما تقدم شيبر في كتابها دراسة ثقافية تجمع بين الأنثروبولجيا والتاريخ والأدب والأديان المقارنة عن تطور نظرة الإنسان لجسده وظهور فكرة الملابس كغطاء منذ كانت مجرد خيط بسيط إلى أن تحولت إلى مجال للصراع بين تطرفات الموضة من ناحية والقواعد الدينية والسياسية من ناحية أخرى.

التغطية ليست عفّة

عندما اكتشف آدم وحواء عريهما للمرة الأولى، كانا -بحسب الديانات السماوية- في حالة من الفزع من انكشاف عورتيهما، وكان من البديهي وفقًا لتلك الواقعة أن ينشأ الإنسان على الأرض مرتديًا ملابسه. غير أنه وبحسب الدراسات الحديثة لم يعرف الإنسان العاقل الملابس إلا بعد مرور مئات السنين على نشأته، وفي حين جاءت رغبة آدم وحواء في التغطية بدافع الاحتشام، فإن الإنسان الأول لم يغط نفسه في بداية الأمر إلا بدافع جذب الانتباه إلى الأجزاء المخفية من جسده. في المجتمعات التي كان الناس يمشون فيها عراة في الحياة اليومية، كانوا أحياناً يلونون أو يزينون أجسادهم من أجل مناسبات خاصة؛ مثل طقس القبول، وحفلات الزفاف أو الحداد.

ويبدو أن التطور المستمر في علاقة الإنسان بما يرتديه من ملابس يسير في الاتجاه ذاته: “تجذب حمرة الخجل المحتشمة الانتباه للجسد الذي نود في لا وعينا أن نُظهره، لكننا نضطر لإخفائه لأسباب تتعلق بالعفة. أما حجة أن تغطية الجسد كان مقصوداً منها على وجه الحصر أن تعزز الأخلاق العامة فهي حجة فاشلة. إذ يثبت تاريخ الأزياء أن الناس قد ارتدوا ثياباً بأكثر الطرق حماقة ليجذبوا الانتباه إلى أجسادهم”.

كذلك تشير المؤلفة، التي عملت كباحثة في جامعة لايدن للآداب والفنون، إلى أن الخوف من نظرة الآخرين لعب دورًا مهمًا في اتجاه الإنسان لتغطية جسده، حيث تقول إن من “أقدم وأكثر أشكال تغطية الجسد أوليَّة قد جاءت في الأصل خوفاً من التعرض للسخرية من الآخرين بسبب الاعتقاد بأن عضواً هاماً في الجسد به عوار”.

من الزينة إلى التكيف

وتضيف شيبر دافعًا آخر لرغبة الإنسان في مزيد من التغطية، وهو الخوف من الانحراف عن السلوك العام للمجتمع، ففكرة أن الخجل يتلاشى “يظهر الخجل لدى الناس بمجرد أن ينحرفوا عن السلوك الاجتماعي المطلوب ويؤدي إلى الإحساس بمشاعر الرفض أو الاستهجان أو النبذ. ولأنه ليس من أحد منا يرغب في أن يجعل من نفسه مغفلاً، نميل إلى التكيف مع جماعتنا، خصوصاً في المجتمعات التي يعتمد البقاء فيها على دعم أفراد العشيرة”.

ولعل ذلك الخوف من الانعزال المجتمعي، هو ما يدفع البشر إلى التماثل مع بيئتهم المحيطة، حتى وإن تعارضت عادات وأفكار تلك البيئة مع معتقداتهم الشخصية. وتنقل المؤلفة عن صحافي هولندي يعيش في قطر كيف كان يشعر كلما عاد إلى أوروبا الغربية، “فعند وصوله إلى “مطار سخيبول” يشعر دائما بصدمة خفيفة لدى رؤيته لكل هؤلاء النساء غير المحجبات ويتوجب عليه بالفعل أن يعتاد على هذا المنظر غير المعتاد من جديد”. الأمر ذاته يتكرر مع زميلة لها في جامعة “لايدن” كانت تنجز بحثًا في دولة اليمن، حيث “اعتادت على ارتداء الحجاب ولفترة كانت تشعر أنها “عارية بشكل محرج” بعد عودتها مباشرة إلى حياتها غير المحجبة في أوروبا”.

الزي كمرادف للهوية

ولا تشير قصة الصحافي الهولندي وزميلة المؤلفة، إلى خضوع الإنسان للتكيف مع البيئة التي يعيش فيها فحسب، وإنما تشير أيضًا إلى الدور الذي يلعبه الزي كبطاقة هوية تعبر عن انتماء الفرد إلى جماعة معينة، وهو الأمر الذي يفسر أداء بعض الجماعات لدى وجودها في بيئات ثقافية مختلفة عن تلك التي جاءت منها، حيث تحاول مقاومة أي شيء يتعلق بالتحديث والعولمة، خوفًا من فقدان الهوية، فتتجه بشكل أكبر إلى “العِرقية والاصطفاف وعزل”نا” عن الآخرين”، وفي الوقت نفسه تعتبر البيئات المحتضنة لتلك الجماعات هذا السلوك تهديدًا مماثلًا لهويتهم الثقافية. وتصف صاحبة “آدم وحواء في كل مكان” تلك الإشكالية بكلمات “مونتين”، أن: “كل واحد ينعت ما هو ليس معتاداً عليه بالبربرية، يبدو حقاً أننا لا نملك أي رؤية أخرى للحقيقة والمنطق غير المثال والفكرة من آراء وتقاليد البلد الذي نعيش فيه”.

الغريب في الأمر أن أوروبا في عصورها الوسطى كانت قيدت حرية المرأة كثيرًا في ما يخص ارتداء الملابس، بعدما سنّت قوانين متعددة للحدّ من ظاهرة العري. وألزمت فرنسا وبلاد أوروبية أخرى، النساء، بارتداء ثوب للسباحة عبارة عن قميص طويل يصل إلى الكاحلين، يشبه “البوركيني” الذي قد تواجه النساء المسلمات اللوم في وقتنا الحالي إذا قررن ارتداءه والذهاب للسباحة على أي من الشواطئ الفرنسية، الأمر الذي يدعو إلى كثير من التساؤل حول الاعتبارات التي يضعها الفرد للحكم على الآخر.

رداء الأديان

إن الإنسان الأول الذي عاش عاريًا لقرون طويلة، ساعدته قدرته في السير على قدمين إلى زيادة إحساسه بأهمية أعضاء جسده، فعمل على إبرازها أو إخفائها تباهيًا أو خجلاً، لم يضع في اعتباره مفاهيم “العيب” و”الحرام” و”الحلال”، إلا في أطوار متقدمة من الحياة البشرية، تحديدًا مع ظهور الحضارة الإغريقية التي دعا فلاسفتها إلى ضرورة التحلي بالأخلاق والاحتشام، ثم جاءت الديانة اليهودية معتمدة على أسس تلك الحضارة لبناء مفهومها حول العفة،. وتتعرض الكاتبة الهولندية إلى كثير من الشطط في ما ذهبت إليه تلك الحضارة والأديان السماوية الثلاثة بشأن قواعد الملابس. غير أن الديانة اليهودية تبدو هي الأكثر تشددًا –حتى اليوم- في مسألة تحديد رداء المرأة “العفيفة” مقارنة بغيرها من الأديان، وقد وصلت المغالاة بالمتشددين اليهود ليس إلى فرض نقاب على النساء –وصف علمانيو إسرائيل من يرتدينه بـ”أمهات طالبان”- فحسب، وإنما دفعت منظمة متعصبة في إسرائيل لابتكار نظارات خاصة باسم (بلا جنس لكنها نظارات No Sex but Specs)، يوجد عليها ملصقان شبه شفافين “ينقذنا الرجال المتدينين من أي خطر في الشوارع بتشويش الرؤية في ما بعد 10 أقدام، وبهذه الطريقة يقل كثيراً احتمال إغواء المؤمنين من قِبل النساء “العاريات”.

وبشكل عام، لا اختلافات كبيرة في تصور الأديان المختلفة عن مسألتي الاحتشام والعفة، غير أن الملفت في ما عرضته صاحبة “آكلوا الأرواح” بخصوص علاقة الأديان السماوية الثلاثة بالملابس، هو نشأة الأَردية الدينية نفسها، حيث تشير شيبر إلى أن الرجال اليهود بدأوا بارتداء الطواقي بعد وقت طويل من زمن التوراة، وتحديداً في العصور الوسطى، عندما أصدر الحاخام إسرائيل برونا Israel Bruna “بياناً شرعياً يعلن أن رؤوس الرجال الحاسرة هي انتهاك للقانون الديني”، كرد فعل ضد العادة المسيحية للرجال أن يكشفوا رؤوسهم من أجل الصلاة، “بدلاً من تغطية أنفسهم بتواضع واحترام أمام الإله”. غير أن “الكيباه” الطاقية اليهودية” أو “اليارمولكه” التي تعرف كزي رسمي للمتدينين اليهود قد تمت استعارتها أساسًا من التراث المسيحي، حيث جاءت (كلمة يارمولكه yarmulke) من قلنسوة كنسية كانت تُلبَس في كنائس العصور الوسطى، كذلك فإن الحجاب الإسلامي قد تم استيراده إلى الثقافة العربية من سوريا خلال القرن السابع، حيث تبنى المسلمون الذين غزوا البلاد شكل غطاء الرأس الذي كانت تلبسه المسيحيات!

الرجل يترك الساحة

يؤكد “المكشوف والمحجوب” أن هناك معيارين يحددان رسالة الملابس: العفة والتراتبية، وأن الأديان والقواعد السياسية والاجتماعية كلها رأت المرأة “عورة” دائمة بحاجة إلى ستر، فيما لم توجه لعري الرجل أي اتهام بالإغواء، وكانت تلك النظرة لتتغير مع تطور الزمن، لولا اندلاع حدث غاية في الأهمية ساعد –دون قصد- في الحفاظ على تلك التراتبية، فقد أدى قيام الثورة الفرنسية وما تبعها من أحداث إلى ازدراء ملابس ذلك العصر كله والتي اشتهرت بارتداء الرجل للحلي والشعر المستعار والملابس الملونة، حيث: “تنازل الرجال عن حقهم في كل أشكال الزينة الأزهى والأكثر بهجة وتفصيلا وتنوعا، تاركين ذلك كله لاستخدام النساء، وبذلك جعلوا من تفصيل أزيائهم أكثر الفنون صرامة وتقشفا”.

ربما لو لم يختر الرجال هذا التخلي بمحض إرادتهم وقتها، لاتخذت علاقة البشر، ذكوراً وإناثاً اليوم صورة أكثر مساواة وتحررًا بشأن مفهومهما عن الاحتشام والسفور، وربما لم تكن المرأة لتواجه وحدها كل هذا التعنت باعتبارها المسؤول الأوحد عن الإغواء، أو ربما كانت لتظهر مطالبات أخرى بتغطية الرجال أيضًا.

  • صدرت الطبعة العربية، عن دار صفصافة بالقاهرة، بترجمة الشاعر المصري عبدالرحيم يوسف.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى