صفحات العالم

الممانعة في أزمة «الممانعة»


فواز طرابلسي

تكثر محاولات التمييز بين سياسات «الممانعة» التي ينتهجها النظام السوري وبين الازمة الداخلية التي تسببت في انطلاقة الانتفاضة الشعبية الراهنة. ولعل الوقت قد حان لطرح السؤال عن موقع سياسات «الممانعة» ذاتها من ازمة النظام السوري خصوصا انه يستخدم موقعه الخارجي وادواره الاقليمية اداة رئيسية لهيمنته الداخلية. تستدعي هذه المهمة تعريف «الممانعة» وتحليل سياساتها واستبيان ما تحوّل منها او تحقق او تجاوزته الاحداث او تعدّل او فشل.

ورث الرئيس بشار الاسد سياسة «الممانعة» عن ابيه الرئيس حافظ الاسد التي ردّ بها على انفراد انور السادات في المسار المؤدي الى اتفاقية كامب ديفيد بصياغة استراتيجية تجميع لـ«اوراق» تصلح لحالتي الردع او التفاوض. وقد اقتضى ذلك الامساك بدولتين وثلاثة شعوب: سوريا، لبنان، والفلسطينيين. تم التدخل السوري في الحروب اللبنانية منذ العام ١٩٧٦ بهذا الهدف. ولما أفلت الطرف الفلسطيني الرسمي، بقيادة ياسر عرفات، عن الإمساك، لجأ النظام السوري الى تكتيل تنظيمات «جبهة الرفض». وفي لبنان الواقع تحت الاحتلال الاسرائيلي العام ١٩٨٢، استعيد النفوذ السوري عبر هجوم معاكس بدأ بحرب الجبل عام ١٩٨٣ ومرّ بتبني المقاومة الوطنية فالاسلامية، الى ان انتهى باستدعاء القوات السورية للفصل بين المتقاتلين في بيروت عام ١٩٨٧ والى تجديد الوصاية السورية على لبنان – بتفويض اميركي ودولي وشراكة سعودية منقوصة – كرّسها «اتفاق الطائف» الذي كلّفت القوات السورية بموجبه نزع سلاح الميليشيات وحماية «السلم الاهلي».

على ان سياسة «الممانعة» بمعناها الفعلي تعود الى فترة الاحتلال الاميركي للعراق بما هي ردود على إملاءات اميركية نقلت عن طريق وزير الخارحية كولن باول تطالب الحكم السوري بما يلي: ١) فك التحالف مع ايران، ٢) وقف تصدير الجهاديين الى العراق وايواء القيادات البعثية العراقية على الاراضي السورية، ٣) رفع اليد عن حركة «حماس» في فلسطين، ٤) ورفع اليد عن حزب الله في لبنان.

ردّ الحكم السوري على تلك الإملاءات على اعتبار ان النظام برمته موضوع على لائحة الاسقاط فكان الهجوم المضاد على الجبهات كلها وعلى الاخص منها احتضان العمليات المسلحة العراقية وتغليب النظام الامني في لبنان وما تبع ذلك من تطورات معروفة.

ما حال سياسات «الممانعة» الآن؟

اولا، اختتم الانسحابُ الاميركي العسكري الجزئي من العراق مرحلة كاملة من السياسات السورية تجاه بلاد الرافدين تراجع معها الدور العسكري لصالح الادوار السياسية والاقتصادية والدبلوماسية. مرّر الحكم السوري الانسحاب العسكري الاميركي ومعه الانتخابات العراقية النيابية والرئاسية على امل ان ترعى دمشق عراق ما بعد الانسحاب فتحقق المصالحة بين «الاطياف» العراقية وتكفل حصّة مميّزة للكتل السياسية السنّية في السلطة الجديدة. لذاك الغرض دعمت دمشق اياد علاوي لرئاسة الحكومة الجديدة بالتوافق مع تركيا والعربية السعودية. لكن طهران رجّحت خيار الاحزاب الشيعية والكردية المتمسّكة بنوري المالكي في صفقة ايرانية منفردة مع الادارة الاميركية. يمكن القول انه في حصيلة «الممانعة» على الجبهة العراقية، نجحت دمشق في ردع العدوانية الاميركية ضدها والحفاظ على النظام، الا انها فشلت في انتزاع الحصة المرجوة من النفوذ على السلطة العراقية. والادهى ان ارتدادات المغامرة العراقية أورثت سوريا مشكلة داخلية بسبب المجموعات الجهادية المسلحة العائدة من العراق والتي تشتبك مع قوات الامن في الانتفاضة الجارية.

ثانيا، جرى الالتفاف السوري على الضغط الاميركي لفك التحالف الاستراتيجي مع ايران عن طريق عقد صلات وثيقة ومتوازية مع تركيا والعربية السعودية. حبل شهر العسل السعودي ـ السوري بحل مشترك للازمة اللبنانية عقب ايار ٢٠٠٨ ومؤتمر الدوحة والانتخابات الرئاسية والنيابية. لكنه اجهض سريعا مع سقوط حكومة الحريري وسيادة حالة من العداء الغامض الصامت بين دمشق والرياض. اما العلاقات المتعددة الاوجه والوظائف مع تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية، بما فيها احتضان انقرة المفاوضات غير المباشرة بين اسرائيل وسوريا، فأصيبت بضربة قوية بعد الجريمة الاسرائيلية في حق «اسطول الحرية». وتعرضت العلاقات السورية ـ التركية ذاتها لانتكاسة كبيرة جراء الانتقادات القاسية التي وجهتها القيادة التركية للنظام السوري على إخلاله بوعود يبدو انه قطعها لايلاء تركيا دور الوسيط ـ بالاصالة عن نفسها والوكالة عن اوروبا اميركا ـ في حل الازمة الحالية.

ثالثا، كان الجواب السوري التقليدي على الضغوط الاميركية والدولية لفك الارتباط بحركة «حماس» و«حزب الله» بالدعوة الى اشراك التنظيمين المقاومَين في مفاوضات السلام. لكن بعد سقوط حسني مبارك، والمصالحة الفلسطينية، وعشية الحملة من اجل انتزاع اعتراف الامم المتحدة بالدولة الفلسطينية العتيدة، فقدت سوريا دورها «الممانع» على الجبهة الفلسطينية. تنازلت عن «ورقة» حركة «حماس». وتحوّل خالد مشعل، رئيس المجلس السياسي للحركة وقائد جناح الصقور فيها، الى داعية «اعطاء فرصة للسلام» مع اسرائيل. وتوجّت هذه النقلة باعلان الحكومة السورية الاسبوع الماضي اعترافها الرسمي بالدولة الفلسطينية في حدود حزيران ١٩٦٧، عاصمتها القدس الشرقية.

رابعا، انتهت حقبة من سياسة «الممانعة» السورية مع الانسحاب الاسرائيلي من جنوب لبنان في ايار من العام ٢٠٠٠ (باستثناء مزارع شبعا وتلال كفرشوبا). ذلك ان المفارقة في تحرير الجنوب اللبناني المحتلّ انه افقد سوريا وسيلة الضغط العسكرية الوحيدة على اسرائيل من اجل الانسحاب من الجولان. ما من شك في اهمية الدور الذي لعبته دمشق في دعم المقاومة اللبنانية التي لم يكن لها ان تستمر وتتصاعد لولا الدعم الاستخباري واللوجستي والتغطية الاقليمية والدولية التي امّنتها لها سوريا، بما في ذلك فتحها طريق العبور للاسلحة والذخائر الايرانية. وما من شك ايضا في المصلحة السورية الاكيدة في هذا الدعم على اعتباره البديل عن تحريك جبهة الجولان عسكريا وما تستدعيه من اكلاف عسكرية وبشرية واقتصادية باهظة الثمن. وهكذا بموجب السياسة المسماة «وحدة المسارين السوري واللبناني»، تكرّست مسؤولية دمشق عن «امن واستقرار» الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة. وبعد الاعتراف بلبنانية مزارع شبعا، صارت دمشق مسؤولة ايضا عن قيادة بيروت الى طاولة المفاوضات الاسرائيلية عندما تحين الفرصة لذلك.

شكّل انتصار المقاومة اللبنانية في صدّ عدوان تموز ٢٠٠٦ انتصارا ايضا للسياسة السورية اكان لجهة احباط القرار الاميركي باستئصال «حزب الله» ام لجهة فشل الاداء الاسرائيلي في تنفيذه. وقد اسهم ذاك الانتصار في تعزيز استراتيجية دفاعية اقليمية قائمة على الردع الصاروخي الذي يعوّض التفوّق الجوي الاسرائيلي بالقدرة على ضرب اهداف مدنية وعسكرية في عمق فلسطين المحتلة. وهو انجاز غير مسبوق في التاريخ العسكري والاستراتيجي للصراع العربي الاسرائيلي. على ان هذه النقلة الاستراتيجية نقلت بدورها الجهاز العسكري لحزب الله من الدور المقاوم لتحرير الارض اللبنانية الى قوة دفاع وطنية لبنانية ينضاف اليها موقع ودور في استراتيجية الردع الاقليمية السورية ـ الايرانية.

في الخلاصة، يفيد شعار «لا سلام بدون سوريا» ـ الذي صاغه هنري كيسنجر بعيد حرب تشرين ١٩٧٣ ـ في ايلاء موقع إقليمي ودولي مميّز لسوريا، بل شرعية لنظامها، على افتراض ان ثمة مشروعا للتسوية في المنطقة. اما الآن وقد احتدمت معركة الاعتراف الاممي بدولة فلسطين، وانتقلت اسرائيل بزعامة نتنياهو ـ ليبرمان من تخريب المفاوضات الاسرائيلية ـ الفلسطينية الى التهديد بالارتداد على اتفاقية اوسلو من اساسها، وفيما يغلب في تل ابيب التيار الرافض التنازل عن الجولان ولو لقاء اتفاق سلام يخرج سوريا (ومعها لبنان) من معادلة الصراع العربي ـ الاسرائيلي، ماذا تبقى من استراتيجية «الممانعة» وهي التي لا تزال ملتزمة بفرضية الحلول الثنائية تحت سقف مشروع السلام العربي للملك عبد الله القائم على معادلة «كل الارض في مقابل كل السلام»؟

السؤال مفتوح على الاحتمالات. لكن المفجع في كل هذا ان نظام التعالي على الشعب يمانع في الاعتراف بأزمة «الممانعة» بمثل ما يمانع في الاعتراف بأن شعبه العظيم ـ وشعبه عظيم ـ وقف الى جانبه عندما كان النظام مهددا من الخارج خلال الازمتين العراقية واللبنانية ولم يتحرّك للمطالبة بأبسط حقوقه في العمل والحرية والخبز والكرامة الا بعد زوال الخطر على هاتين الجبهتين.

هذه هي الممانعة التي تضعف مناعة سوريا الوطن والمجتمع وتجعلها عرضة للتدخلات والاملاءات والمؤامرات الخارجية على حساب مصالحها الوطنية وطموحات شعبها.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى