راتب شعبوصفحات مميزة

المناطق الآمنة تكثيف الاستبداد/ راتب شعبو

في سياق الصراع العسكري المزمن والمتنقل والمجنون في سوريا، تتسرب إلى المنطقة الآمنة عناصر جديدة تغيّر في ملامحها، وتتسرب مع الوافدين الجدد ومروياتهم ومع الأخبار والصور المنقولة من المناطق غير الآمنة. تترسخ هذه الملامح كلما بدا أفق التغيير السياسي بعيداً أو مغلقاً. المنطقة الآمنة بيئة مستجدة تنعكس على صفحة “أمانها” كل شرور الصراعات الوحشية التي تدور رحاها في المناطق غير الآمنة. هذه الشرور تنعكس فيها بصورة آمنة، أي تتحول إلى شرور مخفّفة، تضمن التقليل من احتمالات زهق الروح. حين يقال منطقة آمنة، يقصد منها أن قاطنيها أقل عرضة للموت من بقية المناطق من دون أي شيء آخر. يصبح قاطنو المنطقة الآمنة، الوافدون منهم والأصليون، جاهزين نفسياً لكل ما هو دون الموت. يتراجع الشعور بالكرامة والإنسانية إلى خلفية المشهد، لتبرز في الواجهة ضرورات البقاء، بما يتناقض مع المزاج العام الذي عمّ سوريا في بداية انطلاق ما سمِّي ثورة الكرامة. الحقيقة أن قابلية قاطني المنطقة الآمنة للموت تنضج ببطء وثبات تحت سطح قبولهم بكل ما هو أقل من الموت.

المنطقة الآمنة تجعل كل قاطنيها لاجئين، بمن فيهم قاطنوها الأصليون. فالجميع هنا تحت سقف متدنٍّ من الحقوق والضمانات. الجميع محكوم بحدود جغرافية قسرية يحدّها انعدام الأمان. الجميع لاجئون وإن يكن بمراتب متفاوتة، ربما يحتل فيها القاطنون الأصليون الرتبة الأكثر راحة، لكنهم يبقون أقرب إلى اللاجئين منهم إلى المواطنين. الجميع يعيشون قلقاً دائماً تحت تهديد خروج منطقتهم من دائرة الأمان إلى دائرة النار، ما يجعلهم من ناحية “الأمان” أقل منزلة من اللاجئين إلى الدول الأخرى، ذلك أن هؤلاء أكثر اطمئناناً لحياتهم.

المنطقة الآمنة تجذب إليها من الناس، الأكثر فقراً واستسلاماً، فتراها ممتلئة بقاطنين كاملي الاستعداد للخضوع وهم مكتفون وراضون بغنيمة البقاء على قيد الحياة. يعزز اكتفاءهم ورضاهم ما يرونه من موت يومي رهيب في المناطق الأخرى من البلد. القتل المستشري في المناطق غير الآمنة يجرّد أهل المنطقة الآمنة، الأصليين والوافدين، من حقوقهم القانونية، كما لو أنهم يقايضون حقوقهم بحياتهم. أيّ مجال يبقى للكلام عن حقوق حين يكون الناس في المناطق المنكوبة، “غير الآمنة”، على هذه الحال من الموت، موت يتوسل كل وسيلة بما في ذلك الجوع والبرد واليأس، لكي لا نذكر الوسائل المصنوعة خصيصاً للقتل الفردي أو الجماعي؟

لكن لصالح مَن يخلع قاطنو المنطقة الآمنة حقوقهم؟ مَن هو الطرف الذي يقايضونه حقوقهم بحياتهم؟ مَن هو الطرف الذي يستطيع أن يحيل حياة الناس سلعة يشتري بها منهم حريتهم وكرامتهم؟ إنه ببساطة الطرف الذي يستطيع قتلهم. فقط مَن يستطيع قتلك هو مَن يمكنه أن يقايضك على حياتك. وحين يضطر المرء إلى مقايضة حقوقه بحياته، فإنه يتجرد من حق الحياة نفسه، ويكفّ عن كونه إنساناً يتمتع بـ”حقوق الإنسان” وفي مقدمها الحق في الحياة. إنه يتحول إلى محمي، وتتحول رغبته في الحياة وتعلقه بها، إلى قيد يربطه إلى الطرف القادر في كل لحظة على قتله. للقتل في سوريا اليوم، أشقاء لا يقلّون رهبة ومهابة مثل الاعتقال أو الخطف. فالقاطن في المنطقة الآمنة جاهز لكل ما يجعله في منأى من هذا الخطر المقيم. أي إنه جاهز للمذلة ونكران الضمير. وتزداد جاهزيته هذه مع تزايد انسداد الآفاق في التغيير.

هذه الحال التي آلت إليها المنطقة الآمنة كانت على حساب السلطة العمومية كما هي على حساب القاطنين. فالكلام عن سلطة عمومية أو عن دولة، يتضمن على الأقل كلاماً عن حقوق ما للأفراد. ولكن حين يقايض القاطنون حقوقهم بحياتهم، فإنهم بذلك إنما ينعون السلطة العمومية ويدفنونها. ما يجري في المنطقة الآمنة هو استيلاء جهات خاصة، تحت اسم الضرورات “الوطنية”، على السلطة العمومية، وهو ما يمكن تسميته “خصخصة السلطة العمومية”، ثم تعميم هذه الخصخصة مع المحافظة على واجهة شكلية أو ديكورية اسمها “الدولة”.

في المحصلة يتحول قاطنو المنطقة الآمنة إلى مادة خام لتسلط أسياد استولوا على وظيفة الدولة فعلياً وراحوا يمارسونها محولين بذلك الدولة المغتَصَبة إلى “شبّيح” عام.

المنطقة الآمنة بذلك تساوي تكثيف الاستبداد.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى