صفحات الناس

الموتى الأحياء/ عـروة مقـداد

حلب

حلب، سوريا – جدران متهاوية وأزقة مغرقة بالعدم توصلك إلى خطوط جبهة، حيث الذكريات تكدَّس كدشم المتاريس. لم يعد الموت هو البطل الأسطوري. لم تعد الدهشة ظاهرة على الجفون القلقة من لقمة العيش والجوع المستشري في الحواري. لقمة عيش أكثر رعباً من قذيفة تأتي من الطرف الآخر للجبهة تسقط فلا يحرك أحد ساكناً.

البراميل وحدها من تؤخر الحياة إلى الأحياء الخلفية. الأسواق تتراجع كما لو أن الموت يتقدم خطوة فينسحب الناس خطوة أخرى نحو الوراء. لا تغريبات ملحمية أو نزوحات جماعية. مراقبة مستمرة لمشاهد الموت المختلفة، فتنشط الملاحظة لتلقط تفاصيل إنسانية غريبة. الموت يصبح فرصة لتأمل ما يحدثه من صدمات مختلفة في ذوات الناس البسطاء. التحليل النفسي آلية يومية يتقاسمها الناس في سهرات الملل الطويل في انتظار الصدفة العبثية التي من الممكن أن تغلق المشهد.

الآخر المتربص على الطرف المقابل لم يعد أيضاً مصدراً للرعب. ثمة أشباح تعبر هائمة تبحث عما تركته من ذكريات وحياة سابقة تلاشت كل تفاصيلها. أرواح تخرج من العدم. تعبر من جهة إلى أخرى بين خطوط القناصين. اللعبة الأولى لم تعد كما كانت، حيث الصدفة هي من تقرر أن تموت برصاصة رجل يجلس وراء طلاقيته ويراقب أي شيء لكي يقتنصه. الدمار يكتنف الجثث المتعفنة والأشباح كما يصفها المقاتلون.

امرأة تعبر من منطقة سليمان الحلبي نحو كرم الجبل بحثاً عن جثة أختها الموجودة في أحد المنازل.. تُروى القصة والأصابع تعصّ على سبطانة الكلاشن كما لو أن برميلاً سقط للتو. ثمة ما يحبس الأنفاس في تلك الرواية، وبالرغم من ضراوة المعارك على جبهة كرم الجبل إلا أن مثل هذه القصص تروى بدهشة وخوف شديدين.

ما الذي دار بخاطر تلك الفتاة حين عبرت بين الجثث الملقاة على جانبي الطريق وهي تدرك أن ثمة قناصاً لا يرحم، يتربع على عرش الطريق، متحكماً بحياة الأحياء، متسلياً بالأموات! إنها تبحث عن جثة، جثة متعفّنة بقيت في أحد المنازل أكثر من مئة يوم. هل كان ذلك البحث أملها في الحياة؟ أم أنها كانت تريد أن تدفن نفسها بالقرب من جثة أختها لتنهي مأساة طويلة.

أسئلة كثير تعبرني وأنا أشاهد المقاتلين يلتفون حولي في عتمة حالكة تجعل من الجبهة قبراً كبيراً يبتلع كل شيء. وجوه مشدودة إليّ لتخبرني، ليس عن هول المعارك أو القصف، إنما عن هول الانسان الذي يشتد غرابة مع كل يوم تزداد فيه هذه المأساة.

يقول أحد العناصر المرابطين على الجبهة: رأيتها تتحرك بهدوء بين الجثث الملقاة. قدماها تتحركان كما لو حفظت الطريق عن ظهر قلب. حاولنا ثنيها عن العبور، لكنها لم تصغِ، عبرت ككائن مخدّر. وصلت إلينا دون أن تنطق بكلمة. ألقت السلام. سألناها عما تبحث وإلى أين تريد الذهاب وكيف استطاعت عبور مناطق النظام والوصول إلينا، ولكنها تحدثت عن شيء واحد: أبحث عن جثة أختي. اعتقدنا أنها انتحارية ومن الممكن أن تفجّر نفسها بنا، فطلبنا منها تفقد ملابسها خوفاً من وجود عبوة ناسفة.

أنظرُ من فتحة طلاقية صغيرة تطل على سليمان الحلبي وأشاهد جمجمة متكلسة بيضاء. يشير إليّ أحدهم أنه بالقرب من تلك الجثة عبرت المرأة. “خلعت المرأة ملابسها كاملة”، يضيف عنصر الجيش الحر، ويقول: صُدمنا عندما فعلت ذلك. أفزعنا مظهرها وجمد الدم في عروقنا.

بقيت عارية وهي تحدق في عيوننا. يصف أحد المقاتلين: كانت خاوية. اعتقدت في البداية أنها فتاة ليل وهي لا تستحي. استغفرت الله ولكنني لم أستطع أن أنسى نظرتها المحمّلة بحزن شديد. استغفرنا الله جميعاً وطلبنا منها أن ترتدي ملابسها. ارتدت ملابسها بهدوء شديد وعبرت من أمامنا إلى الأبنية المقابلة للقناص. الأبنية التي تقع بيننا وبين جيش النظام.. ولم نرَ تلك المرأة إلى الآن.

أكثر من ثلاثة شهور والطفلة ملقاة على ظهرها. تيبّست أطرافها. عبرت جميع العائلة ولكنها سقطت برصاصة قناص. يراقب أبو أحمد الفتاة كل يوم وهي تتحول إلى جزء من المكان. يتذكر القصة جيداً: عبرت عائلة من الطرف الآخر راكضين حانيي الرؤوس. أصابت رصاصة خاصرة أختها الأكبر، لكنها استطاعت الزحف نحونا، أما الطفلة الصغيرة فقد سقطت.

“كل يوم أرى الفتاة وهي تتحنّط. يتيبّس جسمها الغضّ. رأيت كل تحوّلات جسدها”. يشرد كما لو أنه يشاهد جسد الفتاة المتيبس أمامه. تشتد طلقات مدفع 23 في الخارج، وتشتد الظلمة حين يغيب القمر فوق الجبهة. تنقشع الغيمة ويعود القمر لينير أنحاء الجبهة. ترتفع ذرى البيوت وتشكل خطاً فاصلاً بين السماء والدمار الذي يفتح في السواد قصصاً لا نهائية تُروى عن الموت. دخل الهلال الأحمر إلى المنطقة ليخلي بعض الجثث. أمسك أحدهم جسد الفتاة وحين رفعه انفصل رأسها عن جسدها. كان الرأس ينفصل كما لو أن كل ذاكرة المكان تنفصل. فجسد الفتاة شاهدَ كل معارك الجبهة الطاحنة وبقي كما لو أنه شاهد قبر. كما لو أن الجريمة وقعت للتو وترفض أن تغوص في طبقات النسيان. بقي الجسد بيدي متطوع الهلال، أخذها كما لو أنه أخذ جزءاً مني.

ينهي تلك العبارة وقد ضمَّ يديه على صدره، واصفاً شكل المتطوع الذي رفع جسد الفتاة. يعيد الوصف مرة أخرى. رفعها هكذا. ويكرر الحركة. ينظر إلى وجهي ويصمت. ويصمت حولنا بقية المقاتلين. بالرغم من غزارة قذائف الهاون، أشعر بالفزع، فزع لا يشبه الخوف من البراميل المتفجرة وقذائف الهاون التي تسقط بين الحين والآخر. فزع يرسم صورة الفتاة في ملامح المقاتل الشاب الذي يبلغ من العمر العشرين عاماً. يقطع الصمت صوته مرة أخرى. كانت دماء الفتاة مازالت ندية طرية تحت ظهرها. اخترقت الطلقة ظهر الفتاة، فسقطت على ظهرها ووجهها للسماء. كنت أرى عينيها المفتوحتين نحو الأعلى وهما تجفان يوماً بعد يوم. أكثر من شهرين ربما كانت دماء الفتاة تتركز وراء ظهرها. رجف جسدي وأنا أشاهد بقعة الدم التي مازالت حية وكأن الفتاة سقطت للتو.

أمشي بين البيوت المنهارة في مساكن هنانو حيث يسقط كل يوم ما يقارب 20 برميلاً. خلا الحي من سكانه. لا شيء سوى أصوات ارتطام البراميل بالإسفلت الذي يشبه تكسير العظام. نتنقّل على عجل. ألمح رجلاً يتمطّى وسط إحدى النوافذ في مبنى قد انهار نصفه. أتوقف لأدقق النظر. الرجل يعطي النافذة ظهره. يقف بثبات وهو يراقب شيئاً ما.

أطيل التحديق. يظل الرجل واقفاً لا يتحرك وكأنه يتأمل شيئاً ما. أحاول تفحص ما يراقب لكن البرميل الذي يسقط على مقربة منا يجعلنا نتحرك بسرعة. نصعد السيارة وتسرع على الشوارع المحفرة من إثر البراميل، نبتعد وأنا أشاهد الرجل من النافذة ثابتاً لا يهزّه حتى الانفجارات المتوالية التي تسقط على مقربة منه وكأنه شبح معلّق من نافذة تطل على مدينة تغرق بالدمار.

موقع لبنان ناو

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى