صفحات العالم

الموتى خطرون!


فالح عبدالجبار

مصائر الموتى في الثورات عجائبية، في الفعل، وفي الأثر، في المسميات وفي الأعداد. كذلك شأن تمثلاتها في الإعلام كما في السياسة.

ابتداءً، المستبد يربأ بالأحياء، فهم مجرد أرقام، رقيق أو إماء (أو عبيد وجواري)، وحين يسفح دماءهم على جبهات الحرب في مغامرة عسكرية، يلقي على قبورهم النياشين، ويغدق عليهم الألقاب: أبطال، أو شهداء. الأبطال تشاد لهم الأنصاب والتماثيل، والشهداء يتلقون الأدعية والابتهالات. وهم «أكرم منا جميعاً» (وفق شعار ذاع في العراق وسورية) لأن الكرم مع الأموات لا يكلف شيئاً. وحساب التكلفة ضروري لنهابي ثروة الأمم.

أما حين يسفح المستبد الدماء في الأحياء والحواري، على جبهات الاحتجاج، فإنه يفتح صفحات قاموس الهجاء العربي، القديم والمحدث، وهاهم ماثلون: «عصابات» و «إرهابيون»، أو بلغة القذافي المقذعة «جرذان» و «جراثيم» أو أيضاً «منافقون» و «كفار» و «ملاحدة» و «شياطين». قاموس القذف والتشهير يتسع كل يوم، ولم يعد بالوسع اللحاق به.

لكن الأوصاف والنعوت مجرد موتيف صغير في سوح الوغى العربية، فهناك جناح آخر: الأعداد. ما الضير في وقوع عشرات أو مئات القتلى إن كان الأمر يتعلق بـ «الأمة»، فهي بالملايين، والمئات كمٌ مهمل، في الرياضيات المجردة، أم في السياسة المحسوسة. بعض المستبدين يخجل من الأرقام إن زادت عن الآلاف. هكذا سمعنا تصريحات رسمية عربية في موسكو من أن عدد قتلى «المتمردين» لا يزيد على سبعمئة. ثمة في اختيار هذا الرقم (الزائف طبعاً) حرج أو وجل من بلوغ الرقم الألف. فالجلادون، بعد هذا وذاك، يشعرون هم أيضاً ببعض من حياء. بل إن هذا الحياء يدفع إلى القول بأن خسائر الحكومة هي أيضاً سبعمئة قتيل، بمعنى أن ثمة تعادلاً بين خسائر الطرفين، والتعادل، في جذره اللغوي، كما في باطنه السياسي، إيحاء بالعدالة. الفرق الرياضية المتعادلة تلجأ إلى تمديد وقت اللعب، وإلى ضربات ترجيح، أو أحياناً، إلى قرعة، لحسم التكافؤ. فأية وسيلة نلتمس في معركة التعادل بين المعارضة والسلطة. أي تحكيم، وأي حكام؟

في العراق (قديماً وحديثاً) لا نجد أثراً لمثل هذا الحرج إزاء الأرقام. يذكر في أوساط السياسيين أن علي حسن المجيد، ابن عم الرئيس العراقي المخلوع والمشنوق، احتج على اتهام الأكراد له بإبادة خمسين ألفاً خلال حملة الأنفال (عام 1988)، معترضاً على المبالغة في الأرقام، فالعدد الصحيح، كما نقل عنه، كان ثلاثين ألفاً! لعل هذه من الطرائف الكثيرة التي تحمل ملامح الكوميديا السوداء. ولكن، كما قال الشاعر بلند الحيدري، ذات مرة، «عشرون ألف قتيل؟ خبر عتيق». وهو قول ينطبق على هيروشيما (كما أراده الشاعر) انطباقه على المدن العربية الثائرة، المتمردة، العاصية.

ففي ليبيا يقدر عدد القتلى بحوالى خمسين ألفاً ولا نعرف بعد كم سيكون عدد القتلى في امتداد ربيع العرب، فالعدّاد يعمل (وقبل ثلاثة عقود، قدم الإيرانيون ثمانين ألف قتيل، نصفهم في يوم الجمعة الحزينة. لا تزال مقبرة الزهراء في طهران شاخصة بغابة من شواهد القبور).

في الـــتاريخ، وـــلد المستـــبد لحفظ الأمن، وقـــوامه الحيــاة والأملاك. ولم يكن فقهاء الماضي مخطئين كثيراً في المقولة الشهيرة: سلطان غشوم ولا فتنة تدوم. فالفتنة أي الاضطراب والاحتراب، تدمر حق الحياة وحق التملك، لذلك فإن الحاكم الجائر يحظى بالقبول لأنه يحمي حق الحياة وحق التملك، وما عدا ذلك يعد هفوة مغتفرة…

أما في الحاضر، فقد ولد المستبد وهو مالك الأمة، حياة أفرادها، وثروتهم الجمعية. وليست وظيفته حفظ الحياة بل تبديدها، ولا صون الثروة، بل نهبها. فتحولت الأمم إلى كدس من إماء، ما دعا شاعراً عراقياً (فوزي كريم) إلى أن يندب حالنا: بين أمّة (بتشديد الميم) وأمَة (بفتح الميم) شدة مبهمة! لم تعد الفتنة ثمرة انفلات الجماعة، كي تنشد سلطاناً غشوماً يحمي الحياة، بل بات السلطان الغشوم هو الفتنة الفاتكة الدائمة، التي ينبغي أن تزول.

وللأموات رأي وفعل في ذلك. لا أتذكر من قال: «الأموات خطرون» أو «الأموات أخطر من الأحياء». فهم تذكرة بهشاشة الوجود، البقاء على قيد الحياة، في ظل الديكتاتوريات العاتية، يغدو محض مصادفة. فما هو جوهري يصير عرضياً، عابراً، نحن جميعاً مائتون لا محالة. ولكن ما من كائن في الخليقة يرتضي هذا النزول إلى درك ما هو عارض، مجرداً من أي معنى، شأن حياة الديدان، والهوام، والسلاحف.

الأموات خطرون! وهم يمدون أيديهم من وراء القبور، من مدافن زجاجية، أو مقابر من رخام، ليمسكوا بتلابيب الأحياء، فلكل قتيل حبيب، أو حبيبة، أم ثكلى، أب مفجوع، إخوة أو أشقاء، أبناء عمومة أو خؤولة، أو أهل قرية أو ضيعة. فهو جزء من نسيج قرابة هو الأقدم عمراً في هذه المعمورة. أشقاؤنا السوريون، يسمون ذلك (المجتمع الأهلي)، الحاضر في القرى والبلدات الصغيرة، نسيجاً جمعياً يعطي للحياة كما للموت معنى.

ولكل قتيل شبكة أخرى من الأواصر المتشابكة تمتد من مقاعد الدراسة، إلى مكاتب العمل، إلى زمر الأصدقاء، ورفاق المهنة، وأقران الفكر، وهو ما يسميه المثقفون السوريون (المجتمع المدني). لكل قتيل حاضنة أهلية وأخرى مدنية، تنسج روابط لا فصام لها بين صمت الأموات وصخب الأحياء.

الأموات خطرون. المتمرد المصلوب أكثر قداسة من الممتثل المائت. هذه ألفباء حكاية التمرد في التاريخ. والحالمون بوأد العصيان والتمرد على الاستبداد بتوسيع المقابر، إنما يزيدون التمرد ذاته قداسة، ويهتكون عري الدنس الرسمي.

الموتى خطرون! لأنهم شهادة على انتهاك أقدس الحقوق وأقدمها، حق الحياة. فهذا الحق ماثل في قواعد السلوك وسط الأقوام المتوحشة، وقائم في العرف القبلي (هل نسينا داحس والغبراء؟)، ومفصل في دساتير الأمم، والقانون الإنساني (اقرأوا ميثاق الأمم المتحدة) بالمعيار القبلي، ينبغي شنق المستبد ألف ألف مرة، بعدد ضحاياه وبمعيار الشريعة (العين بالعين والسن بالسن، والجروح قصاص)، ينبغي قلع حنجرته، وتمزيق أحشائه، وتهشيم عظامه، ألف ألف مرة. لكن المعايير القانونية الحديثة لا تتيح سوى المحاكمة، فعقاب واحد.

غير أن الكف عن الكذب والتماس محكمة دولية لهؤلاء الجناة، يقضيان أن يعود العرب إلى أعراف القبيلة، أو معايير الشريعة، أو منطوق القانون الدولي. واحد من هذه يكفي.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى