صفحات سوريةطيب تيزيني

الموت الكيميائي والمصير التاريخي/ طيب تيزيني

 كم هو مذهل وغير مسبوق أن تعيش سوريا تجربة السلاح الكيميائي. ومن الصعب أن نتصور أن هنالك في سوريا من الناس (السوريين) مَن أشعل سلاحاً كيميائياً، فقتل من الأطفال والنساء والرجال من قتل، وأحرق من أحرق، ودمّر ما دمّر من العمران، والحق أن هذا الذي حدث يضع السوريين والعالم أجمع أمام سؤال، ربما اعتقد البشر أن طرحه أصبح نافلاً، إلا في مواضع التأريخ، لماذا حدث القتل بالسلاح الكيماوي في سوريا، ولم تنشأ عليه ردود فعل محلية أو دولية بمستوى الحدث، كيف ذلك؟! فمن المعروف أن استعمال هذا الحدث إنما يمثل خطاً أحمر حسب القانون والعرف الدوليين. ولكن اتضح أن المصالح الفردية المتفردة يمكن أن تجبّ وتتجاوز كل مبادئ وحقوق الإنسان، مهما سمت وارتقت إلى مستوى القيم الكونية. لقد ظهر السلاح الكيماوي في سوريا مخزَّناً بكثافة، ومدمراً ما أنشأه السوريون من عمران، وقاتلاً لأطفال سوريا ونسائها ورجالها (في الواحد والعشرين من أغسطس من عام 2013 خصوصاً).

وخرج من ينددون بالكيماوي، الذي قتل في ليلة واحدة ألفاً وستمائة إنسان. لقد قال هؤلاء: الكيماوي خط أحمر، وظهر أنه على العكس من ذلك، باب مفتوح، ولكن بكيفية مواربة! ثم حُسم الأمر بأن قيل: إن فتيان الثورة خطفوا أطفالاً من اللاذقية، وألقوا عليهم الكيماوي! بهذه الطريقة، غيّب القاتل، إن أقصى تسويغ لا يمكنه أن يحوّل الزلزال إلى وهم أو إلى حلم أو شبه حلم، لقد عاشت سوريا في أيامنا هذه العار الأكثر إجراماً. إنه تسونامي عصرنا، رغم أنه مرّ مُلوِّحاً للدول العظمى ولدول أخرى بالعار.

وفوق ذلك، أعلن الإعلام الدولي والمحلي، مصاحباً بصور أقمار صناعية ومعززاً بتقارير استخبارية، إن السلاح الكيماوي الذي أطلق في سوريا وأُريد لما تبقى منه أن يدمرها، يواجه مشكلة معقدة، وهي ذات وجهين: الوجه الأول منها يتمثل في أن البعثة الدولية لهذه المهمة لم تجمع من المال ما يكفي لإنجازها. أما الوجه الثاني فيقوم على الاعتقاد بأن النظام ربما يخفي قسماً من الكمية الكلية للسلاح المعْني، الكيماوي والذي يزن من 140 إلى 150 طناً. مما يبقي الحالة تحت خط الخطر.

إذ في هذا يظل الخطر قائماً، سواء كان كبيراً أم صغيراً، فهو خطر ذو نوعية يُبقي على سوريا ملغَّمة وقابلة للاشتعال. وقد ارتاحت أطراف دولية من إعلان النظام عن تسليمه للأسلحة المتبقية، متناسية خطورة الأسلحة التقليدية التي استُعملت قبل ذلك، وأدت إلى تدمير مساحات ليست قليلة من سوريا، إن الواقعتين المذكورتين، فتح النظام السلاح الكيماوي ضد سوريا وقتل 7800 ألفاً من السوريين أولاً، ومحاولة إخفاء قسم مما تبقى من هذا السلاح ثانياً لاستخدامه في مناسبة أو مناسبات أخرى قادمة، إنما يفصحان عن مآرب خفية يمكن العمل على تحقيقها في مثل تلك المناسبات. وهذا بدوره، يمثل إصراراً على إبقاء نظام الفساد والإفساد والاستبداد «أبدياً». وإذا كان الأمر كذلك، فإن على سوريا أن تتماهى مع ذلك النظام الأبدي وتعبيراً وحيداً عنه. في هذا وذاك يصبح النظام المذكور تجسيداً لسوريا، وهذا ما بشّر به كتّاب وسياسيون في سوريا وفي بلدان أخرى، كما هو الحال في لبنان.

إن ذلك يقارب الرؤية الفوكويامية في نهاية التاريخ، فإذا كانت أميركا هي التجسيد الوحيد والأخير لعصر «نهاية التاريخ»، التي تأتي بدورها تعبيراً عن «العولمة» المعيشة، مع الفارق الحاسم بينهما، إن المنظومة العولمية تقوم على ابتلاع الطبيعة والبشر وعلى هضمهم وإخراجهم سلعاً، في حين يقوم النظام السوري على ابتلاع وهضم ما لا يتوافق معه، والمرتكز إلى قانون الفساد والإفساد.

في ذلك وفي سياقه وبمقتضاه يسقط «التاريخ»، ليبقى ما يجسده الآن وغداً، وكذا «مصيره»، أي مصير التاريخ، الذي يتحول إلى نوع من تناوب قيادته، ومن الطريف ما قد نراه تجسيداً لهذا الموقف التناوبي، فالقيادة هنا مفتوحة في توجهاتها وكذلك في تجلياتها، كما هو الحال في الثنائي السلطوي الروسي، تبدأ العملية بالرئيس بوتين، وتنتهي برئيس الوزراء ميدييديف، ثم تبدأ بالرئيس ميدفيديف، لتنتهي برئيس الوزراء بوتين، وهكذا حتى حين تتحول الثنائية إلى ثلاثية وغيرها.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى