مراجعات كتب

“الموت عمل شاق” لخالد خليفة: الأدب يرشحُ دماً/ علاء الدين العالم

 

 

في بلاد “مجنونة تريد أن تعتقل جثة”، وعلى الطريق الممتد بين دمشق والعنابية القرية الواقعة في شمال حلب الشرقي، لا يقدم الروائي السوري خالد خليفة حياة شاقة في روايته وحسب، بل موتاً شاقاً في بلدٍ لم يعد الموت فيه “فعلا يستدعي الانفعال، بل أصبح خلاصاً يثير غيرة الأحياء” وحنقهم على أرض غدا فيها “الموت عملا شاقاً”. يدرك خليفة أن الكتابة عن الآن/هنا السوريّ روائياً ليست بالعمل الهين، لما حمله، ويحمله، الواقع السوري من أحداثٍ وحكايا لم تكن تخطر على بال، فالحرب تساهم في “تناسل الأفعال الغرائبية، وتحول القصص المأساوية إلى حدث عادي”. وذلك ما قدمه خليفة في روايته: “حدثٌ سوريٌ يومي” مسربلٌ بغرائبية فرضها الانفجار السوري على أبنائه.

من العنابية إلى دمشق

لم يرَ “عبد اللطيف السالم”، الأستاذ الآتي من العنابية إلى دمشق، ثورة الشعب السوري ثورةً على النظام وحسب بل “إنها ثورة ضد العالم كله، لا ضد النظام فقط”، اندمج فوراً مع متظاهري بلدة “س” التي قطنها منذ أن أتى إلى دمشق، تاركاً وراءه العنابية خالية في وجدانه إلا من رماد أخته ليلى التي أحرقت نفسها على سطح بيتها ليلة زفافها من رجل لا تريده. مات عبد اللطيف قبل أن يخبر الشهداء “عن رحيل الطاغية وعن الأطفال الذاهبين إلى مدارسهم مرتدين ثيابا نظيفة، رؤوسهم مرفوعة وعيونهم مليئة ثقة بالمستقبل”، وأوصى ابنه “بلبل” أن يدفنه بجوار أخته ليلى في العنابية، وصيةً ستدفع بأبناء عبد اللطيف الثلاثة “حسين، بلبل وفاطمة” إلى رحلة في المجهول، رحلة يسترجع فيها خليفة مخاض الثورة السورية العسير، ليس في وصف فضاءات الرواية المتعددة فقط إنما عبر الإبحار في أغوار الشخصيات الثلاث وجثتهم/قضيتهم، إبحاراً بمثابة إجابات ممكنة عن لماذا كل هذا الألم؟

على الطريق ينسابُ السرد، جدوله وعرٌ، وطريقه حتى النهاية يعج بالموت وطالبيه. ينطلق الأخوة الثلاثة من دمشق نحو العنابية، كأنهم سهمٌ من الحياة ينطلق في العدم، الطريق تملأه الحواجز، وجثة أبيهم ومكان ولادتهم المسجل على الهوية تهمتان دسمتان لكل عناصر البطش الممتدة على الطريق، أولها حواجز النظام ومليشياتٍ طائفية أغلب عناصرها “عاطلون من العمل أو أصحاب سوابق، ترك لهم العنان لإهانة واعتقال وقتل أي شخص، يثيرون الرعب حتى في نفوس المؤيدين وأنصار النظام”. وآخرها حواجز “التنظيمات المتطرفة” التي صارت علماً في الرعب والخوف.

حول جثة الأب

أعادت جثة الأب لم شمل الأبناء، استحالوا بقربها عائلة كما كانوا سابقاً، إلا أن دفنها بالعنابية مهمة في غاية الصعوبة في بلاد مقطعة بالموت، و”أصبحت الجثة وسيلتهم لإنقاذ أنفسهم، تثير التعاطف أحياناً، وتبرر وجودهم معا وعلى هذا الطريق في مثل هذا الوقت، كانت فرصة حقيقية لاختبار مستقبل علاقتهم كأفراد عائلة” عائلة عاشت في هناءة واهمة، هناءة لطالما سعى البعث إلى تصويرها على أنها السعادة المنشودة لأي عائلة سورية، هناءة هشة تهاوت أمام قسوة الزمن المعيش، وتفتت الأبناء كل وراء أحلامه وطموحاته التي لم تُحقق أياً منها، فبلبل خريج الفلسفة غدا موظفاً في إحدى المؤسسات الحكومية لا هم له إلا أن يتركه الجميع بسلام في حضرة الموت اليومي في هذه المدينة. بقي وحيداً بعد أن انفصل عن زوجته التي كانت الحياة لديها تختصر في ثلاث لحظات وحسب “يوم الولادة، يوم الزواج، ويوم الموت، وما بينهما برزخ يجب عبوره بأقل قدر من المشاكل”. ربما لم تأتِ وحدته من الانفصال عن زوجته، بل اختبر هذه الوحدة حينما عجز عن الزواج من حبه الأول “لميا” صديقة شبابه ودراسته، لم يلتقط “باقة الورد التي تطفو على النهر”، جرف النهر/ الزمن لميا، بينما وقف بلبل خائر القوى أمام اختلاف الأديان بينه وبين حبيبته.

ضياع في متاهات الحرب

لا يتوقف نزيف الألم على امتداد الطريق، جثة الأب تنز قيحاً كلما امتدت الرحلة، والطريق يزداد وعورة، وذاكرة الأبناء تنز ذكرياتٍ محملة بالخوف، ومسحوقة تحت أقدام نظام يطالب أغلب مؤيديه بـ”حرق البلاد من شمالها إلى جنوبها، يهللون للقتل والذبح، وكأن لديهم ثقة عارمة بالنصر، هذا الأمل انتهى بعد أربع سنوات لكنهم ما زالوا يطالبون بحرق المدن وهدمها على رؤوس ساكنيها”. يشعر بلبل أنه بدفنه لأبيه ستصبح لحياته معنى بعدما ضاع في يوميات حارته الموالية للنظام الكائنة على أطراف دمشق، هناك حيث تُطرَد عائلات من “مخيم اليرموك” في مشهدٍ “يدمي القلب، منظر نساء الحارة الفقيرات يثير الغثيان، وهن يحرضن أبناءهن على رجم النازحين بالحجارة، يشتمن الخونة الذين تخلوا عن نظام آواهم ورباهم وعلمهم في مدارسه”.  ضاع بلبل في متاهات الحرب السورية، انسحب بوجَل، بعد أن كان قد تلذذ بمذاق الحرية في مظاهرات ريف دمشق حيث “كان يشعر ببهجة عارمة، فلحظة دفن الخوف تشبه متعة أول لذة جنسية، حاول استعادة تلك اللحظة مراراً، لم يستطع نسيانها، كما لم يستطع استعادتها أو محاولة الرجوع إليها، كانت لذة لمرة واحدة لم تكتمل”. لم يعد يعرف بعد كل ما جرى في السنوات الأربع ماذا سيفعل هو ــ وكل السوريين ــ بـ”نصر يرشح دماً”؟! كل ما يعنيه أن ينفذ وصية أبيه. حسين، الأخ الأكبر، لم يكن معنياً بالأمر بذات القدر الذي عنى بلبل، سيان لديه مكان دفن أبيه، لكن في منتصف الطريق يتورط في الوصية أكثر وأكثر، تستحيل جثة الأب إلى قضية، كما الثورة، الجميع معني بها شاء أم أبى. بين الاثنين، تقف فاطمة، أنثى مسحوقة تحت أقدام ذكور متتالية في عائلة محافظة، تصاب بالخرس في النهاية، فالصمت الأبدي أبلغ تعليق لما رأته في رحلتهم من دمشق إلى العنابية. وكأن ما حصل مع الأبناء في طريقهم ثمن كان عليهم أن يدفعوه، ليس عن ذواتهم وحسب، بل عن أجيال متعاقبة، جيل آبائهم المهزوم، جيلهم المنكوب، الجميع يدفع ثمن سنوات الخنوع والذل، فـ”الحياة في أزمنة العار والصمت الذي عاشوه سنوات طويلة يجري الآن دفع ثمنها، الجميع سيدفعون الثمن، الجلاد والضحية، تصحيح خطأ الحياة المنافقة قد يكون ثقيلا إلا أنه لا بد منه في النهاية” حتى جثة الأب ستدفع الثمن، في نهاية الرحلة ستصاب بالتعفن، والتقرحات التي كانت تنز قيحاً صارت بعد ثلاثة أيام تنز دوداً، صورة قاسية أخرى ما يفتأ خليفة يورد مثيلاً لها في طريق الأخوة وفي ذواكرهم، فأباهم الذي اختبر في حصار النظام للبلدة التي استقر فيها أن “الاختيار في الحصار ترف”، لم تعد جثته تعني لأبنائه شيئاً “يستطيعون تقديمها لجوقة كلاب جائعة، دون أي إحساس بالندم، أو رميها على قارعة الطريق دون تكليف أنفسهم برميها في حفرة لستر ندوبها”. لن يحصل ذلك، سيصل الأبناء إلى العنابية، وستدفن جثة الأب، لكن ليس بالقرب من قبر أخته كما أوصى، بل في مكان قصي من المقبرة ومن الذاكرة.

ليست رواية “الموت عمل شاق” حكاية طريق وعر وحسب، وليست حمالة عوالم مفعمة بالألم والبؤس يطفح فيها العدم فقط، بل هي رواية موت وحياة معاً، وهي قبل كل ذلك، دعوة للتفكير في المآل، دعوة للتفكير في بلادٍ كان فيها التفكير لعشرات السنوات “جريمة تستوجب المساءلة”، جريمةً اقترفتها الرواية حتى سال من على جنباتها الدمُ.

ضفة ثالثة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى