صفحات المستقبل

الموت في زمن فيسبوك/ رولا الحسين

 

 

موتوا كي نرثيكم. موتوا فلدينا صور تجمعنا بكم ونبدو فيها جميلين. لا تستعجلوا، لكن على الأقل لا تتأخَّروا؛ فلدينا حاجة فعليّة لافتعال صداقة عميقة معكم عندما ترحلون بحيث لا تتمكَّنوا من نكرانها. موتوا لأنَّه مضى وقت طويل قبل أن يشعر أحدهم تجاهنا بالأسى، نحن أصدقاء الموتى المقربون. موتوا كي يصبح لدينا عذر مشروع لنصبح ضحايا؛ لأننا عندما نموت لن نتمكن من رؤية حزنكم علينا. موتوا هذه فرصتنا الآن لنحزن عليكم؛ فتحزنوا علينا.

عندما تموتون، أو يموت أحدكم، وقد أصبحت أسباب واحتمالات موتكم وموتنا كثيرة، سنشعر بطعنة في الصدر، لن تصيب القلب بالضرورة، وإنما مؤكد في الصَّدر، بغضّْ النَّظر عن حجم أو عمق معرفتنا بالميِّت.

يكفي لنا أن نرى صورة على فيسبوك، أو نقرأ “حالة” تعلن حدث الموت، فنبدأ بالتهام الخبر ببطئ ونُدخل معلوماته في كلِّ حواسنا كوجبة طال انتظارها تُجدِّد شبعنا. عندما تموتون، سنستقصي كل المعلومات التي تنقصنا. فنتمنى أن يكون لدينا إمكانية الدخول إلى صفحتكم لنعرف كل ما يجعلنا نشعر أنَّنا قريبون منكم وتجمعنا الكثير من الصفات ولدينا معكم الكثير من الأمور المشتركة والأصدقاء.

نتابع ذهول أصدقائكم وأصدقائنا وننتظر من أحد منهم “سكوب” يفيدنا بجديدٍ يُشبع فضولنا: كيف رحلتم؟ أين؟ متى؟ ماذا كنتم تفعلون؟ هل انتحرتم؟ هل كنتم تعيسين قبل موتكم؟

يسمح لنا الآن فيسبوك أن نسأل كل هذه الأسئلة وأن نحلِّل ظروف وأسباب موت من مات، قريبًا كان أو بعيدًا، بما نملكه أو نتخيل أنَّنا نملكه من معلومات وأن نعبِّر عن فجاعة خساراتنا. وما كان قبل سنوات محصورًا بنقاشات حارقة وتساؤلات حائرة بين مجموعة صغيرة من الأصدقاء والمقرَّبين أصبح اليوم حقًا للجميع وعلى مساحات كبيرة من جدران صفحاتنا.

التَّعبير عن الحزن صار متاحًا للجميع. الخسارة أصبحت إعلانًا، والبوح لم يعد صعبًا، ولم يعد هول الفاجعة محصورًا بالمفجوعين المتوَقَّعين من أهلٍ وأقاربٍ. كأنَّ المساحة التي أوجدها فيسبوك تحوَّلت إلى مكان يقدِّم علاجًا جماعيًّا أو  group therapy يتيح لنا جميعًا التَّعبير عن آلامنا في أيِّ مناسبة وإن كانت لا تخصُّ ألمنا الحقيقي.

تبنِّي الفاجعة وعرْض رأينا بالرَّاحلين ولحظات جمعتنا بهم وصور ومحادثات كانت قبل رحيلهم محادثات خاصَّة، التَّحدُّث عنهم وعمَّا نعرف عن مميِّزاتهم وأثر فقدانهم في قلوبنا ويوميَّاتنا جعل من هذه المساحة وهذه الخسارة فرصة للتحدُّث عن أنفسنا من خلال مَن رحلوا. لقد لبَّى القيِّمون على موقع فيسبوك رغبتنا نحن المستخدمين عندما أزالوا كلمة “is” التي كانت تلي أسماءنا أعلى صفحاتنا لكي نتمكَّن من التَّعبير أكثر دون قيود هذه الكلمة التي كانت تحدُّ من حالات تعبيرنا.

لم يتوقف الموقع عن خلق تطبيقات ورموز تساهم في إبراز ومشاركة مشاعرنافأضاف وجوهاً صفراء بتعابير متنوِّعة إلى جانب خنصر الإعجاب الأزرق الشَّهير: الوجه المبتسم، الوجه الغاضب، الوجه الحزين، الوجه المنبهر. وعند كل مناسبة يُقدِّر القيِّمون على الموقع أنَّها قد تكون جامعة على صعيد وطني أو إنساني يعرض علينا إضافة “فيلتر” على صورنا نعلن فيه انتماءً أو تضامنًا ما، أو يجد لنا طريقة لإبلاغ عائلاتنا وأصدقائنا أنَّنا بخير عندما تقع كارثة ما فنسارع أينما كنّا لطمأنة الجماهير أنَّنا بخير ونجونا بأعجوبة، وأننا كنّا على وشك أن نكون ضحايا وهو أمر بحدِّ ذاته كفيل بأن يجعلنا ضحايا، فقد كنّا قبل قليل على مقربة مِمَّن أصبحوا ضحايا الآن. تعاطفوا معنا قليلَا قبيل تعاطفكم مع  من رحلوا فعلًا. فنحن أيضا نستحق التعاطف وبحاجة له.

يختلف مستوى وأسلوب التعبير بيننا، نحن من نعيش ونتابع ونتواصل ساعات طويلة على وسائل التواصل الاجتماعي. بعضنا سريع ولكنه مقل في استخدام المفردات والأدوات المتوفرة، بعضنا متمهِّل ويدرس مشاعره قبل عرضها، بعضنا يستخدم كل المتاح من صورة البروفايل وصورة الغلاف وكتابة حالة ثم التواصل مع من رحل على صفحته ثم عرض لما دار بينهما من محادثات، بعضنا يحزن لوحده لأن الفقدان عام والحزن خاص ويستخدم أقل وأكثف كلماته كي يقول للآخرين بطريقته أنه ليس بعيدًا. بعضنا يقرِّر أن يتحدث مباشرة مع من رحل، عتاب وتذكير ووعد بلقاء قريب، بعضنا يتحدث مع الله ويسأله عن سبب اختياره لمن اختارهم ولا ينفع  تذكير هذا “البعض” أن الله لا يملك حسابًا على الفيسبوك، أو أن من رحل لا يمكنه استخدام الإنترنت.

في حالات الانتحار، وقع الصدمة يكون مختلفًا. ويضاف إلى التَّعبير عن الخسارة الحاجة إلى تحليل الأسباب من دون اعتبار خصوصية الاسباب التي لا تكون في معظم الأحيان مبنية على معطيات متينة، إنّما وسيلة إضافية لإعلان معرفة أعمق بالمنتحر، وأحيانًا لاستعراض قدرات التحليل أو نقد فعل الانتحار الذي يتحول الى شأن عام.

ونظرًا لقدرة الفيسبوك على نشر المعلومات بين شبكة معارف كبيرة، صارت مشاركة ورقة النَّعي التي تتضمَّن خبر الوفاة وموعد الدَّفن وأقارب الرَّاحل على صفحة أهل المتوفِّي أمرًا معتمدًا، لتتحوَّل بعيد لحظات التَّعليقات على هذا الخبر وعلى صفحة الرَّاحل إلى تعليقات معزِّية ومواسية ومستفسرة ومستغربة. مؤخرًا عُرضت صور في مناسبات دفنٍ مختلفة لأشخاص يتصورون مع الميت وهو في تابوته قبيل دفنه.

إحدى الصُّور جمعت عائلة كاملة متشحة بالسواد يتوسطهم المتوفي في تابوته وهم ينظرون مبتسمين إلى الكاميرا. وقبلها وبموازاة كثرة أخبار الموت القادمة من الثورات المجاورة انتشرت صور للقبور مزيِّنةً أغلفة صفحات أقاربهم. هذه الصور والبوستات والرسائل تُظهر الطريقة التي نرغب بتذكر الذين رحلوا. بعضنا يريد أن يتذكر حياتهم وبعضنا ينسى كل تلك الحياة ولا يتذكر إلا موتهم.

التعامل مع الموت وخَبرِه مُربك من دون أن نُدرك دائمًا إرباكه لنا وإن اختلف مستواه بيننا. وتعبيرنا المتنوع بين الحزن، التعاطف وطلب التعاطف، التحليل والّلوم، لفت النَّظر يحملُ طرقًا متنوعةً في التَّعامل مع الموت وتدريب على المشاركة التي ليست دائمًا تحمل معاني مجانية في حين وبكثير من الأحوال تخفِّف من وطأة الخسارات. وكأن الخسارة عندما تتم مشاركتها في العلن تصبح حصتنا منها أقل وإن كنّا نطلب بشكل غير مباشر أن نحتكر الخسارة، أن نحتكر التعاطف.

نحنُ الذين لم نزل أحياء حتى اللحظة، ربّما تكون طريقة تعبيرنا عن خساراتنا البعيدة منها والقريبة هي رسالة مبطفنة أو “دفعة على الحساب” نمررها للآخرين علّهم إذا بقيوا بَعدنا، ورحلنا قبلهم يودّعوننا ويستعرضون حياتنا كما فعلنا مع من رحل. كوسيلة ما لنستمر وقتًا أطول ولو بقليل بعد أن نرحل.

جدل

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى