أكرم البنيصفحات سورية

الموقف التركي من الثورة السورية!


أكرم البني

بين تصعيد لفظي وصمت مريب تنوس السياسة التركية من الأحداث السورية، وثمة إحساس لدى غالبية الناس بأن هذا الجار الأقرب لهمومهم ومشكلاتهم قد خذلهم، بل إن العبارات مثل: «نفد صبرنا»، و«لن نقف مكتوفي الأيدي»، أو «لن نسمح باستمرار القتل اليومي».. التي يكررها غير مسؤول تركي صارت تقابل هنا بابتسامات مفعمة بالمرارة!

وبسقف «عملي» يبدو أن أنقرة لا يمكنها تجاوزه، أو لا تريد، تصطدم طموحات الحراك الثوري وتكرس خيبة أمله بأن تكون تركيا السند الأول الداعم له، وأن تكون أراضيها محطة لتدخل أممي ودور يحمي المدنيين ويمكن الشعب المنتفض من مواجهة جبروت آلة القمع السلطوي!

هذا السقف لم يتجاوز في محصلته العامة، الدعم اللفظي للثورة السورية والإدانات المتعددة الوجوه للعنف السلطوي المفرط، وهو الدعم الذي يترافق عادة، وللأسف، مع تصعيد مواز في المواقف العربية والغربية، ونضيف توفير أماكن مؤقتة أو مخيمات لإيواء آلاف اللاجئين وإقامة بعض المشافي الميدانية لاستقبال الجرحى، وأيضا الدعم الذي يقدم للمعارضة السورية على اختلاف تياراتها ومكوناتها، كإيواء بعض الضباط والعسكريين الفارين، ومنح المعارضة السورية فسحة من النشاط السياسي والإعلامي وحق إقامة المؤتمرات والاجتماعات على الأراضي التركية!

ثمة مخاوف وحسابات مصالح تلجم دخول تركيا في صراع مكشوف ومفتوح مع النظام السوري؛ أولها: تقدير خطورة الانجرار في حال الاحتكام إلى الخيار العسكري ضد القوات السورية، إلى اشتباك مع إيران أو مع حلفائها في العراق ولبنان وما يستتبع ذلك من تداعيات قد تضع القطار التركي على سكة لا يريدها، وربما تستنزف قواه وتهدد طموحاته، وبخاصة في حال طال زمن المعركة واتخذت مسارات متعددة. ثانيها: التخوف من انتقال الصراعات الأهلية بعد انفلاتها في سوريا إلى الداخل التركي، بفعل مكونات عرقية وثقافية متداخلة بين البلدين الجارين وعبر حدود طويلة تزيد على 800 كيلومتر. ثالثها: التحسب من أن يستثمر حزب العمال الكردستاني المعارض فرصة الصراع المفتوح بين الطرفين كي يزيد نشاطه ويصعد عملياته ضد أنقرة، مما قد يربكها ويشغلها ويزعزع الاستقرار هناك. رابعها: الخشية من التورط في أزمة مرشحة لمزيد من الاحتدام والتفاقم، ويرجح أن تطول كثيرا، خصوصا أن أمامها نظامين صمدا لفترة طويلة في مواجهة انتفاضة شعبية عارمة وهما أضعف بكثير من النظام السوري، ليبيا واليمن!

إن تنامي النزعة العثمانية عند قطاع مهم من النخبة السياسية، والصعوبات التي لا تزال تقف أمام انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، دفعت سياسة أنقرة موضوعيا نحو تمكين نفوذها في المشرق العربي لتغازل حنينها إلى ماضيها الإمبراطوري وتعوض أي انتكاسة يمكن أن تصيبها على المسار الغربي، لكن طموح الحكومة التركية ورغبتها في الإفادة من الثورة السورية بما يعزز وزنها ودورها الإقليميين يجب أن لا يفضيا في حساباتها إلى أي خسارة!

نعم هي سياسة براغماتية فاقعة لا تخفى على أحد لتعزيز النفوذ الإقليمي تحكمها حسابات الثمن والتكلفة لقاء المبادئ والقيم، وثمة أدلة كثيرة تؤكد هذه الحقيقة، منها ليس فقط الفجوة الكبيرة بين التصريحات النارية وضعف الفعل الملموس، بل موجة التصعيد ضد النظام السوري التي سبقت الانتخابات البرلمانية التركية، التي بدت لكل ذي عين كأنها جزء من المعركة الانتخابية لكسب مزيد من الأصوات المتعاطفة مع معاناة الشعب السوري لصالح حزب العدالة والتنمية، ومنها أيضا تأخر انضمام أنقرة إلى الدول الملتزمة بالعقوبات الاقتصادية التي أقرت ضد النظام السوري، ومنها ترددها اللافت – ولنقل ضعف حماسها – لمبادرة الجامعة العربية ولدعم وإنجاح بعثة المراقبين!

ما سبق يفسر، وإن كان لا يبرر، الموقف التركي من الأحداث السورية، ويوضح لماذا لا تزال السياسة التركية متحسبة في مواقفها ومترددة في دفع الأمور إلى نهايتها. هل تبحث عن أوسع غطاء عربي وعالمي يضمن لها أقل الخسائر قبل أن تتخذ قرارا قاطعا ونهائيا من الحكم السوري. وهل يشكل مؤتمر «أصدقاء سوريا» هذا الغطاء، أم تحتاج في حساباتها وتخوفاتها إلى أكثر من ذلك، إلى قرار أممي واضح من مجلس الأمن يضمن حياد السياسة الروسية، ويحاصر التدخل الإيراني في حماية الحليف السوري، ويستند إلى دعم عربي قاطع وحاسم؟!

ربما تأمل أنقرة قطف ثمار الثورة السورية من دون أن تقدم سوى الحد الأدنى من التضحية، لكن ليس من المبالغة القول بأنها تواجه اليوم مأزقا بالغ التعقيد ويبدو أنها بدأت تخسر ما راكمته مواقفها الجريئة الداعمة للقضية الفلسطينية من شعبية عربية عموما وسورية خصوصا، ولكونها نموذجا للتنمية الناجحة ولضمان حقوق الناس وحرياتهم يحتذى به لبناء العمارة الإسلامية الديمقراطية، والأهم أن خسارة أنقرة في المنطقة العربية جراء ترددها وسقفها المحدود في دعم الثورة السورية ستكون كبيرة، فالأتراك هم خير من يعرف أن على نتائج هذه الثورة سيترتب الكثير وأهمه إعادة رسم المنطقة ومناطق النفوذ والمصالح الاصطفافات.

لكن موقف حكومة أردوغان لا يمكن أن يبقى تحت هذا السقف، فعلى الرغم من كل التعقيدات التي تحيط بالثورة السورية، لن تستطيع أن تتهرب طويلا من ردود الفعل المتنامية لدى الرأي العام العربي والتركي من الأحداث السورية. فاستمرار سياسة القمع المعمم والعنف المفرط وتصاعد حدة الضغط والاستياء الشعبيين، سيؤدي بلا شك إلى تطور حثيث في سياسة أنقرة. فهل تحمل الأيام القادمة مواقف جديدة للقيادة التركية تعيد بناء الثقة بينها وبين الشعوب العربية؟ أم ربما تتعزز خسارتها إما بموقف خاطئ، أو باتخاذ موقف صحيح لكن ربما في التوقيت الخاطئ؟!

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى