صفحات الناسعارف حمزة

النازحون السوريّون في تركيا: مرحّب بهم دائماً في الأشغال الشّاقة/ عارف حمزة

تُعتبر تركيا قارة، وليست دولة فقط، بالنسبة لنا نحن السورييّن؛ فهي كبيرة وشاسعة، وقد يصادف وجود فصلين، في وقت واحد، ولكن في مكانين يبعدان عن بعضهما أكثر من أربع وعشرين ساعة، نقضيها في الحافلات الحديثة والجميلة، المزوّدة بخدمة الأنترنت، والأفلام وبرامج الأطفال والحفلات والأغاني والموسيقى، طوال الرحلة الماراثونيّة الممتعة. وأصبحت كلّها تعاني من تعدّد هندسة الأبنية الحديثة والشاهقة، والخدمات المتطوّرة، والنظافة والجمال، كتدريب متواصل لدخول سباق الاتحاد الأوروبيّ الشاق والطويل، بعدما ظلّت تدير ظهرها للمناطق الجنوب شرقيّة منها، على طول حدودها مع سوريّا، حيث ما زالت مناطق الأغلبيّة الكرديّة تتابع حياتها البطيئة في القرن الماضي.

وعلى طول تلك الحدود، البالغة 822 كيلومتراً، دخل أكثر من سبعمائة ألف نازح سوريّ، يعيش مائتا ألف منهم في المخيمات، ومراكز الإيواء المؤقتة التركيّة التي يبلغ عددها 21 مخيّماً كلّها من الخيم العاديّة، ما عدا مخيّم كلّس ذي البيوت المسبقة الصنع، هرباً من الحرب الدائرة في الريف السوريّ الموازي للمناطق التركيّة.

المعاملة من الحكومة التركيّة أكثر من جيّدة بمجرّد دخول النازح السوريّ الأراضي التركيّة؛ حيث يمكنه الذهاب إلى المخيّم، أو أن يعيش خارجه مع تمديد للإقامة بشكل سهل جداً، ويوجد ضمان صحّي في كثير من المدن التركيّة، وليس كلّها؛ حيث تنعدم تلك الخدمات، أو تقلّ، في المناطق السياحيّة مثل استانبول ومرسين وأنتاليا…. بينما تزداد بشكل كامل في المدن الحدوديّة.

المعاملة تلك تكون سيّئة جداً قبل اجتياز الحدود التركيّة أو أثناءها، حيث يجري الكثير منها بشكل غير شرعيّ؛ بسبب إغلاق النقاط الحدوديّة بين البلدين، حيث بنت الحكومة جداراً بارتفاع مترين على طول الحدود الفاصلة بين مدينتي نصيبين التركيّة والقامشلي السوريّة، وحيث تمّ إعطاء الأوامر لجنود الحدود بإمكانيّة إطلاق النار على الأشخاص العابرين بشكل غير شرعيّ مباشرة، بدل إطلاقه في الهواء في الفترة السابقة. وقد تعرّض الكثير من النازحين المهاجرين للضرب المبرّح والإهانات قبل إعادتهم إلى داخل الحدود السوريّة.

صار هناك أكثر من خمسين مدرسة للطلاب السورييّن الذين تجاوز عددهم ستين ألف طالب، في كافة المراحل الدراسيّة، القليل منها مجانيّ تقدّمه الحكومة التركيّة سواء في المخيّمات أو خارجها، والكثير منها غير مجانيّ كمشاريع قدّمها رجال أعمال سورييّن أو هيئات سورية؛ حيث يبلغ أقل قسط دراسيّ فيها 75 دولاراً في الشهر.

في تركيّا فقط يستطيع الأطباء السوريون، والممرضون والعاملون في القطاع الصحيّ، الحصول على ترخيص بعملهم من دون تعديل لشهاداتهم، ولكن بالعمل في المخيّمات فقط. بينما القطاعات الأخرى لا تستطيع العمل من دون تعديل تلك الشهادات التي يحملونها، وتعلم اللغة التركيّة لمدة عام كامل، ودفع ضرائب كبيرة كأيّ أجنبيّ على الأراضي التركيّة.

أذهب إلى العمل ككلب صيد

مشكلة السوريّ مع العمل هو عدم إجادته للغة التركيّة، والأتراك لا يحبّون الحديث سوى بلغتهم الأم؛ ففي المناطق ذات الغالبيّة التركيّة، شمال البلاد وغربها، لا يعرف المواطن التركيّ لا العربيّة ولا الكرديّة، وفوق ذلك لا يعترف باللغتين الإنكليزيّة والفرنسيّة! وكنتُ أسأل نفسي: ألا يتعلم الأتراك اللغات الأجنبيّة أثناء دراستهم؟ ألا يذهبون لبلدن أخرى؟ ولكن تبيّن لي في ما بعد أنّ التركيّ الذي يعرف لغة أجنبيّة، يتظاهر بعدم معرفته بها، متمسّكاً بلغته تلك، مطالباً الآخر بتعلّم التركيّة “كونها لغة عالميّة أيضاً”. هكذا يقولون لنا نحن الغرباء المؤقتون في بلادهم الجميلة. لذلك تجد العامل السوريّ، في المطاعم والمحال والمولات والبسطات، يتعامل بالإشارات والآلة الحاسبة، ولكن رويداً رويداً يدخل في “مود” اللغة القوميّة الخالدة لدى الأتراك. وخلال فترة قصيرة تراه تعلّم مفردات كثيرة؛ كون اللغة التركيّة سهلة التعلّم لاحتوائها على الكثير من المفردات العربيّة والكرديّة والفارسيّة، ولأنّها ليست بحاجة لقواعد صارمة كباقي اللغات.

على العامل السوريّ الاستيقاظ في السادسة صباحاً، إذا كان مكان إقامته بعيداً عن مكان عمله، ليكون في عمله الساعة الثامنة صباحاً. ويكمل عمله حتى الثامنة مساء، أو السابعة مساء على أقل تقدير. أي أنه يعمل لمدة 12 ساعة، تتخللها ساعة ونصف كاستراحة غذاء، مقابل أجر يومي يقل عن خمسة عشر دولاراً في اليوم.

“خبات” يعمل في مطعم كبير في منطقة مرموقة من مدينة “مرسين”، وتعاقد مع ربّ عمله التركيّ أن يتقاضى 15 دولاراً عن عمله كعامل صالة لمدة 12 ساعة في اليوم. ولكنّ ربّ العمل يشغّله لساعات أطول، قد تصل إلى 15 ساعة وبالأجر ذاته. كما أنّ زميله لم يأخذ عطلة عمل، ولو ليوم واحد، منذ أكثر من أربعة أشهر.

“أنا لا أستطيع أن أطالب بحقوقي، أو أن أترك العمل لدى شخص يظلّ يوبّخني، ويعاملني كمجرم، رغم أنّني كنت أدرس في السنة الرابعة لكليّة الحقوق قبل أن أنزح”. يقول خبات. “لقد قضيت وقتاً طويلاً كي أحصل على هذا العمل، ولا يمكن تركه بسهولة. أنا متعب. ولا أستطيع النوم بسهولة؛ كلّما راجعت شريط يومي المليء بالتوبيخ والإنذارات بالطرد وساعات العمل الإضافيّة التي أعملها مجّاناً لديه”. “في كلّ صباح أذهب إلى العمل بعينين متورّمتين ومحمرّتين كعيني كلب صيد يوقظوه في الفجر ليذهب في رحلة الصيد الطويلة والشّاقة”. يقول خبات.

“نارين” تعمل في معمل لصناعة الألبسة في مدينة استانبول. “مديري في العمل يراقبنا من مكتبه من خلال الكاميرات، وإذا استندتُ بيدي، أو كوعي، كي يستريح ظهري قليلاً بسبب الوقوف لساعات متواصلة، سرعان ما يأتي أحد المسؤولين عن مراقبة العمّال، لينبّهني بعدم فعل ذلك!”.

“لا يجوز لنا الجلوس أثناء العمل، رغم أنّ العمل الذي نقوم به نستطيع إنجازه ونحن جالسون”. تقول نارين التي كانت طالبة في السنة الثانية من كلية التربية، والتي تقضي 12 ساعة في العمل، وساعتين للوصول إلى مكان عملها والعودة منه. وكلّ ذلك مقابل أجر مقداره 750 ليرة تركيّة، أي ما يعادل 350 دولاراً في الشهر، أي أقلّ من 12 دولاراً في اليوم.

“أنا لم أشاهد شيئاً من معالم استانبول الجميلة طوال فترة إقامتي الماضية، ويوم العطلة الوحيد أقضيه في النوم المتواصل”. ثمّ تضيف نارين “أنا أقضي عقوبتي في الأشغال الشاقة!”.

أرباب العمل الأتراك يشغّلون العمال السورييّن بنصف الأجر الذي كانوا يدفعونه للعمّال الأتراك، وأقل من ذلك في مرّات كثيرة، كما أنهم تخلّصوا من الضرائب، مهما كانت ضئيلة، لعدم تسجيلهم هؤلاء العمال، وعدم دفع التأمينات عنهم. وكذلك أوقفوا التعامل مع الحافلات التي كانت تقلّ العمّال الأتراك، فصار العمّال السوريّون يذهبون ويعودون من عملهم على حسابهم الشخصيّ.

“لقد تعلمتُ العمل بصمت، وتحمّل كل الإهانات، بعد طردي من العمل في ثلاث مرّات سابقة، لأنّني اعترضت على زيادة ساعات العمل دون أجر، أو على توبيخي من دون ارتكاب خطأ من قبلي. عندي عائلة كبيرة وعليهم أن لا يموتوا من الجوع. أنا أعمل، بالإضافة لعمل ابني وابنتي، كي نستطيع العيش في الحدود الدنيا؛ نحن نعيش فقط. لا ندّخرُ شيئاً!”. يقول لي عبد القادر مبتسماً. كان أستاذاً للرياضيّات قبل أن ينزح مع عائلته من حلب. “العساكر على حاجز للجيش النظاميّ أخذوا كل مصاغ زوجتي، كي لا يلفّقوا أيّ تهمة لي ويلقوا القبض عليّ، أو يُعيدونا إلى حلب”. “نحن نجونا. وما زلنا نعيش. بينما مات من عائلتنا سبعة عشر شخصاً لحد الآن”.

لا تحرّشات جنسيّة

كثير من المعاناة سمعناها على لسان الكثيرين. لا سياحة للنازحين في بلد سياحيّ، سوى للذين استطاعوا أن يهرّبوا أموالهم إلى خارج البلاد قبل أن يخرجوا؛ وهذا ما نشاهده عند أناس يركبون سيّارات البورش ويتملّكون شققاً وشاليهات غالية الثمن. “هؤلاء كانوا شبّيحة في الداخل، ونهبوا الكثير من أموال البلد خلال فسادهم الطويل”. تقول فاطمة الحاصلة على ماجستير في الأدب الفرنسي، والتي هربت من البلاد بعد اعتقالها لفترة قصيرة، بسبب مشاركتها في أعمال الإغاثة.

فاطمة لا تعمل في اختصاصها ولا شهادتها. هي تعمل في فندق كبير في استانبول. “الشيء الجيّد أن أرباب العمل لا يتحرّشون جنسيّاً بالسوريّات العاملات لديهم. ليس بسبب التديّن؛ بل كذلك لأنّهم يخافون من انتقام الأهل، والفضيحة الإعلاميّة والقضائيّة لرجل من رجال الأعمال له سمعته وتجارته الكبيرة والمتزايدة. لي صديقات كثر نزحوا ويعملن هنا في تركيّا، لم أسمع من أيّ واحدة منهنّ عن حوادث تحرّش. ولكن هناك تزويج لبعض الشابّات، غير المتعلّمات، خصوصاً لرجال أتراك كبار في السنّ عادة”.

هذه المهن التي تحدثنا عنها هي حظوظ حصل عليها أصحابها؛ فالكثير من النازحين يعملون في الأشغال الشاقة بالفعل؛ كأعمال البناء والحفريّات وقيادة الشاحنات وشقّ الطرقات وقطف المحاصيل الزراعيّة، حيث يعيشون ظروفاً بيئيّة صعبة وغير آمنة، خصوصاً مع عدم وجود تأمين صحيّ لهم أو تأمين تقاعديّ أو رواتب جيّدة. وفي الوقت نفسه هناك الكثير منهم لا يجد عملاً أبداً فيتعرّضون للطرد من البيوت التي لا يستطيعون دفع إيجاراتها المرتفعة.

تركيّا هي من أفضل الدول المجاورة في معاملتها مع اللاجئين السورييّن الذين نزحوا إليها؛ في دعمها الماديّ الكبير، وتخصيص الكثير من المخيمات ومشاريع الإيواء والمعالجة، ولكن لا بدّ أن تجري تلك النواقص في غفلة عن الحكومة، أو بسبب قوانينها الصارمة، والتي تجعل الأتراك يعملون، مثلاً، من الساعة الثامنة صباحاً حتى الخامسة مساء، يتخللها ساعة ونصف من الراحة، فلا ندري لماذا يجب على السوريين أن يعملوا من الثامنة صباحاً وحتى الحادية عشر ليلاً في كثير من الأحيان، وبأجور تصل إلى نصف ما يتقاضاه الأتراك. هي أشغال شاقة بالفعل، ولكن من دون ضرب أو تعذيب أو استغلال جنسيّ أو إهانات عنصريّة.

مرسين

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى