أيمن الشوفيصفحات الناس

النازحون” سائحو سوريا خلال الحرب/ أيمن الشوفي *

 

 

“المرجة” ساحة لا تستدرج بشراً إليها، لكنها تستخرجهم من العروق الرخوة للفنادق الرخيصة ذات النجمة أو النجمتين، التي تحيطها كسوار. بعد الظهر ينزلق الرجال والنساء، ممّن تجاوزوا الستين، إلى وسطها متفادين»الإفريز» الرخامي الذي يحيطها كسوارٍ آخر محكم الإغلاق إلا من فتحات قليلة. نادراً ما يعاينون النُصب البرونزيّ للفنان الإيطالي «بابلو روسيني» الذي يتوسطها منذ العام 1907 حين دخلت دمشق عصر التلغراف، وعصر خط الحديد الحجازي. ولا يسألون حتى عن المجسّم المصغّر لجامع «يلدز» التركي وهو يعلو الساحة كسقف. هؤلاء يتحدثون عن أسقف منازلهم التي فقدوها في الحجر الأسود أو حمص وحلب، وعن أبنائهم مجهولي المصائر. يحكون عن الألف ليرة التي يدفعونها للفندق كل يوم، لقاء إيوائهم. مساءً يأفلون عائدين إلى غرفهم، يصعدون أدراجاً متصلّبة كشرايينهم، تاركين أطفالهم في الأسفل يقلّبون أوجه الرزق، أو ينتظرون مساعي جمعية خيريّة تكدُّ على حاجاتهم. ليعودوا إلى الساحة في الصباح التالي أو بعد الظهر. لا برامجَ سياحية عندهم غير تلك، سياحتهم إلى دمشق زمن الحرب لا تشبه سياحة أخرى، وما تكسبه الفنادق منهم ليس إلاّ عرقهم في ظهيرة يوم طويل.

ألف ليلة فندقية وليلة

قد تُخطئ وزارة السياحة السورية وهي تحسب إقامة اللاجئين في فنادق المرجة أو في غيرها، على أنها ليال فندقية. تماماً كما كانت تخطئ وهي تحسب القادمين من المحافظات الشرقية أو الشمالية، نزلاء فنادق المرجة وسواها، على أنهم سواح محلّيون، وهم بالكاد ينوون زيارة طبيب في بوابة الصالحية أو يهمّون لإنجاز معاملة حكومية في العاصمة.

خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام 2011، وثّقت وزارة السياحة بقلق انخفاض عدد الليالي الفندقية إلى 364 ألف ليلة، مقارنةً مع 443 ألف ليلة خلال الفترة ذاتها من العام 2010. ثمّ، وحسب أرقامها، فلم تزد حركة القدوم السياحي عام 2012 عن 40 ألف سائح أغلبهم سوريون مقارنةً مع 4.2 مليون سائح عام 2010.

دراما التدحرج هذه أودت بها إلى مطرح كارثيّ. فنسبة إشغال الفنادق السورية هبطت من متوسط 90 في المئة عام 2010، إلى ما دون 15 في المئة عام 2012، وشفع لبلوغ هذا الرقم انخفاضُ حركة التدفق السياحي بمقدار 95 في المئة.

لكن، ومنذ منتصف العام 2012، بدأت أفواج النازحين/ السائحين بالقدوم من حمص. الأسرّة المرتّبة على عجل والكاسدة كانت بانتظارهم في فنادق «المرجة»، وفي غيرها. ومنذ شهر تشرين الأول/ أكتوبر من العام نفسه، لحقت بهم وفود النازحين/ السائحين من حلب، ليعيدوا معاً تسمين الليالي الفندقية الناحلة في دمشق، عاصمة نزوحهم الكئيب.

أمّا الفنادق التي كانت تتباهى بحجوزات كاملة تغذّيها العقود السنويّة للحجّاج الإيرانيين في زياراتهم للمقامات الشيعية، فصارت تُعاني خواء في الإشغال الفندقي مقداره النصف، سرعان ما ملأته بأجساد النازحين السوريين الوفيرة بعدما نصّبتهم سواحاً، وإن بأجورٍ أقل مما اعتادته قبلاً.

فنادق الأربع والخمس نجوم لم تغنم بالإنتعاش الذي حظيت به نجوم الفنادق البسيطة. الميسورون من المحافظات المنكوبة أقاموا فيها فترات قصيرة، ريثما يرتّبون انتقالهم إلى خارج حدود الحرب والموت، إلى لبنان أو مصر أو الأردن. بقي قضاء ليلة فندقية غير منقوصة الخدمات بحدود 2500 ليرة في فندق سقفه أربع نجوم.

قبل الخسارة قلّة البصيرة

الإقتصاد السوري المنهك من متوالية الخسارة منذ ثلاثة أعوام، ترك قطاع السياحة عالقاً في قاعه بعدما دوّن حتى نهاية شهر آب/أغسطس من العام 2013 نحو 330 مليار ليرة خسائر. وإلى جانبها توقفت 370 منشأة، بعمالتها البالغة ربع مليون شغيل في قطاعات النقل السياحي والمطاعم والفنادق، كما نفد رصيد السياحة الدينية التي كانت تدّر قرابة 100 مليار ليرة سنوياً.

لكن هل كانت مساهمة قطاع السياحة في سورية قبل حراك آذار/مارس 2011 وما لحقه من نزاع مسلّح، كما تقتضيها مقومات الجذب السياحي؟ وهل كانت الجهات الوصائيّة عليه توليه من الاهتمام ما يستحقّ؟

دعونا نراجع أفضل رقم حققه قطاع السياحة في مساهمته في الناتج المحلّي الإجمالي وهو 14 في المئة في العام 2010، بينما كان من السهل إيصاله إلى ربع الناتج المحلّي الإجمالي. إذ يبلغ إرث سوريا من المواقع الأثرية قرابة 14 ألف موقع، إلى جوار 65 قلعة أثرية، هذا من دون البحث بعد في تنوّع خيارات السياحة الطبيعية والبيئيّة والدينيّة.

أخيراً، تفحّصت وزارة السياحة السورية غياب السائح السوري عن توجّهاتها في ما مضى، وما استتبعه من انخفاض في حصيلة السياحة الداخلية. فعلت ذلك خلال ملتقى الاستثمار السياحي الداخلي الذي نظّمته في أيار/ مايو من هذا العام، وعرضت فيه للإستثمار 24 موقعاً، كلفة الصغير منها يبدأ بنحو 10 مليون ليرة. أما المشاريع المتوسطة فتتراوح كلفتها بين 75 و300 مليون ليرة.

فطنتها المتأخرة للأدوار المغْفلة عن السياحة الداخلية كانت قد بدأت فعلياً عام 2011 في ملتقى الاستثمار السياحي السابع، الذي نظّمته مطلع شهر كانون الأول/ ديسمبر. وكانت أوضاع البلد تجعل ذلك غير مناسب واقعياً ، ولكن استعراضه يسمح بتفحص منطق السلطة ومعاني أعطابه. حينها، اقترحت إستثمار25 مشروعاً تصنيفها نجمتان وثلاث نجوم تخصُّ الاصطياف الشاطئي وسياحة المدن الترفيهية، وتستهدف معالجة السياحة الداخلية من وجهات عديدة. ولقد أفردت نظرياً لهذه الغاية أكثر من نصف عدد المشاريع الكلّي المطروح للاستثمار وقتها، والبالغ 40 مشروعاً.

لكن العام 2009 وحده كشف نفور السوريين الحادّ من السياحة الشاطئية في بلادهم، بعدما ابتلعت الاستثمارات السياحية الفارهة كل الشواطئ الشعبية تقريباً في اللاذقية وطرطوس. وباتت الخدمات باهظة الكلفة مقارنةً مع رداءة مستواها، وصار الراغبون في البحر صيفاً يتهافتون على برامج الشركات السياحية إلى الشواطئ التركية، أو يقصدونها أفراداً، بعدما ألغى البلدَان تأشيرات الدخول المسبقة بينهما.

كما أنّ محدودية عدد الأسرّة الفندقية، ومثلها العدد القليل من فنادق الاربع أو الخمس نجوم في سوريا هي من أسبابِ ضعف مساهمة السياحة في الناتج المحلي الإجمالي، إذ غالباً ما تُعطّل قنوات الفساد، ومافيات السلطة هذا النوع من المشاريع حتى تدخله شريكاً. لقد احتاج فندق «فور سيزنز» في دمشق إلى معجزةً كي يبصر النور.

يكفي أن ندقّق هنا في المعدل الوسطي لنموّ الاستثمارات السياحية قيد الإنشاء بين العامين 2004 و2008 لنجد أنه يبلغ 167.95 في المئة مقابل 8.45 في المئة كمعدّل للنموّ الوسطي السنوي للاستثمارات السياحية الموضوعة في الخدمة خلال الفترة نفسها. هذا التفاوت الحادّ بين المؤشرين، وإن احتوى لمضامينَ تضخّمية على المدى القصير والمتوسط، لكنه وفي آن يُسجّل على الدولة، ببنيتها التشريعية والسلطوية، مآخذ لا يمكن تبريرها في إدارة اقتصاد بلادها.

كما أن مركزية الاستثمار في قطاع السياحة تبدو منهكة للمدخلات المحتملة، التي يفوّتها هذا القطاع على الخزينة العامة. فدمشق وريفها يستأثران بنصف الاستثمارات السياحية الموضوعة في الخدمة، بقيمة 96.3 مليار ليرة، والنصف الآخر تتقاسمه باقي المحافظات في سوريا. يأتي أقلّها في المحافظات الجنوبية الثلاث، القنيطرة ودرعا والسويداء، حيث لا يتجاوز نصيبها من تلك الاستثمارات 1.73 في المئة أي ما قيمته 3.4 مليار ليرة، على الرغم ممّا تحوزه تلك الجغرافيا من عوامل جذب سياحي.

في العام 2011، صنفت مجلة «لاكشري ترافل» الأميركية (وهي مجلة سفر رقمية تنشر على الانترنت) سوريا من بين أفضل 11 مقصداً سياحياً عالمياً، كما صنّفتها مؤسسة «لونلي بلانيت» العالمية وموقع «لوغتا» كأحد المقاصد السياحية الأكثر جذباً. لكن التقرير السنوي الصادر عن المجلس العالمي للسياحة والسفر عام 2011، والذي تناول مؤشرات هذا القطاع في 181 دولة جعل سوريا في الترتيب 54 على مؤشر العمالة في قطاع السياحة والسفر، وفي الترتيب 57 على مؤشر نسبة مساهمة السياحة في الناتج المحلي الإجمالي.

العودة إلى «المرجة» مجدداً

«المرجة» ساحةٌ تستدرج تاريخاً، تستخرجه من مشانق جمال السفاح في العام 1915، ومن المشانق الفرنسية للثوار بعد العام 1925، ومن أول رحلة «تراموي» سيّرته، ومن أول «أوتوموبيل» عبر فيها، وأوّل قاطرةٍ لشركة «نِيرن» غادرتها، وأول فيلمٍ تعرضه سينما «زهرة دمشق» العام 1918، إلى عرض في سينما «كوزموغراف»، وصولاً إلى أول فنجان قهوةٍ احتساه عابر سبيل في مقهى «ديمتري»، وأول «نرجيلة» قدّمها مقهى علي باشا وأول مسرحية على خشبة مسرح زهرة دمشق ذاك، وحريق مسرح «القوتلي» العام 1928، وأول فندقٍ تأمّم اسمه بفعل المدّ الناصري العام 1956، وصار فندق «الوحدة العربية»، وكذلك أول حزب واحد بعد العام 1963، وأول قائد واحد بعد العام 1973، إلى أول بائع سجائر مهرّبة عيّنه عنصر أمن، إلى تفجيري نيسان/أبريل، وحزيران/يوليو من العام 2013، إلى أول نازح خسر بيته في حمص، وباع مصاغ زوجته في دمشق ليستأجر غرفةً في فندق شعبي علّه يصير سائحاً، لمرّة واحدة في حياته على الأقل.

 

* صحافي من سوريا

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى