صفحات الناسفاروق حجّي مصطفى

النازحون من كوباني: عين على مدينتهم والأخرى على الشتاء/ فاروق حجي مصطفى

 

 

ما إن تطأ قدماك أرض سروج، وهي منطقة حدودية تركية غالبية سكانها من الكرد، وهم ذوو صلات قربى مع أقرانهم في كوباني (التي كادت شهرتها تفوق شهرة سورية بعد هجوم «داعش» عليها) حتى تصادف الكثير من أهالي كوباني وهم يترقبون حالها بعيون متحسرة على بعد بضعة كيلومترات، ويشاهدون بأعينهم كل كارثة تحل بها، من الغبار المتصاعد فور قصف الطيران الحربي العائد للتحالف الدولي (الغرب والعرب)، ويسمعون أصوات التفجيرات وقذائف الهاون التي تعيش كوباني تحت رحمتها، فضلاً عن مشاهدتهم سيارات الإسعاف وهي تنقل جرحى المقاتلين والمدنيين الـــكرد في المعاـــرك المحتدمة حول بقاء أو مدينــة الكرد فنائها.

سرعان ما تجد الكوبانيين، وهم مصطفون في ساحة سروج المثقلة بقصة الإخوة اللاجئين من قرينتها على الطرف الآخر من الحدود. «ساحة سروج أيضاً جزء من تاريخنا نحن الكوبانيين» تقول فتاة مارة بجانبنا وهي تنقل صحن الطعام الذي توزعه بلدية سروج على اللاجئين الكوبانيين.

مرت 3 أشهر وأهل كوباني ما زالوا يتجمعون يومياً في ساحة «سروج»، يسردون قصص مدينتهم معاً، أحدهم يحكي قصة تقدم الكرد في الأحياء الشرقية والجنوبية، وآخر يسرد تفاصيل تحرير «تل شعير» – قرية على مرمى حجر من كوباني – وكيف أضحى عناصر «داعش» تحت مرمى سلاح القوات الكردية والجيش الحر، وآخر يتحدث بفخر عن سيرة المقاتلات الكرديات وهن يحملن السلاح ويحلمن بتحرير كوباني بأيديهن، وكيف تأخذ قصة انخراطهن في المقاومة حيزاً واسعاً في وسائل الإعلام.

يقول مسؤول في أحد الأحزاب الكردية: «حديث مقاتلاتنا طغى على كل مأساة» نسأله، أية مأساة؟ «مأساة طوفان لجوئنا بهذا الكم الفظيع إلى سروج، ومأساة قوانا السياسية التي لم تتفق بعد على صيغة خطابية أو عملياتية واحدة. من حظ قادتنا السياسيين أن الإعلام يهتم بمأساتنا الإنسانية وليس بعوراتنا السياسية. الناس ينقذوننا مرة أخرى ويصبحون حاجزاً بين كاميرا الصحافي وحالة البؤس السياسي التي نعيشها نحن الأحزاب»، يردف المسؤول الذي لم يبق لديه ما يعمله غير مساعدة الناس إغاثياً!

بموازاة كل هذه القصص، تجد مجلساً، يتحدثون فيه عن عذاباتهم في ملاجئهم الإجبارية، بدءاً من إلزامهم إخراج البطاقات الصحية (كمْلك بالتركية)، وليس انتهاء بصعوبة البقاء في المخيمات، وهم يعيشون في الشتاء التركي القارس عدا عن أنهم – الكوبانيون – لا يتقبلون بسهولة السكن في المخيمات، وهذا ما دفع غالبيتهم إلى استئجار بيوت في مدن كعينتاب وأورفا وميرسين وأضنة وإنطاكيا بكلف إيجار عالية يضطرون لاستقراضها في كثير من الأحيان، آملين أن لا تطول المعركة وأن يعودوا إلى مدينتهم.

تجدر الإشارة إلى أن المخيمات التي تؤوي الكوبانيين وعددها (8) مخيمات تقع على مقربة من حدود كوباني في «سروج» و «علي كور»، أقامتها البلدية وكرد تركيا والبارزانيون أيضاً، وأهمها: مخيم «كوباني» الذي يؤوى 3000 لاجئ، و «روج آفا» 2800 لاجئ، ومخيم «جمعية البارزاني الخيرية» و «آرين ميرخان» الذي أخذ اسم المقاتلة الكردية التي نفذت عملية استشهادية في وجه قافلة لـ «داعش» في طريقها إلى «مشتنور» الهضبة التي تحتضن كوباني، ويقيم فيه حوالى 4000 لاجئ، ومخيم «قدر» الذي أخذ اسم فتاة تركت الجامعة واختارت أن تقاتل في كوباني، وقتلت على الحدود قبل أن تصل إلى أرض المعركة ويقيم فيه حوالى 5000 لاجئ، ومخيم «صبحي آغرناس» 2000 لاجئ، إضافة إلى مخيمين تابعين للحكومة التركية ومخيم قيد التجهيز بسعة 5000 لاجئ باسم «نجدت»، لتقيم البقية من أهل كوباني التي يُقدّر عددها بنحو 400 ألف إلى 500 ألف بالإيجار تحت وطأة ظروف مالية صعبة في المدن التركية، في حين اختار قسم آخر أن يلجأ إلى كردستان العراق.

لم يحدث مثيله عبر التاريخ…

لا تستغرب وأنت تتجول بين أناس يجوبون شوارع المدن الكردية في تركيا، أنك قادر على تمييز الكوبانيين من كرد تركيا، فعلامات الحزن وبؤس الحياة لا تفارق وجوههم، فضلاً عن مفردة «كوباني» التي سرعان ما يتلفظونها في أي حديث لهم، يقول وليد إيبو – محام عاش تجربة اللجوء مرتين – كانت المرة الأولى قبل عام ونصف حين انتقل من حلب إلى كوباني، وما إن استقر وأسس لنفسه منزلاً في كوباني حتى داهمه «داعش»: «لا أستطع نسيان ما جرى معنا في كوباني، أحاول أن أتلهى مراراً بأحاديث قد تبعدني عن الصدمة، ولكن سرعان ما أعود وألفظ كوباني». يتابع: «أعتقد حتى لو عدنا إلى كوباني، فإن الحديث عن كارثتها سيكون في الصدارة… ما جرى في كوباني كارثة»، ويضيف: «قرأت التاريخ… وقرأت عن الثورات، ما حصل معنا يفوق كل التصورات… مدينة بالكامل تفرغ من سكانها… مدينة كاملة ترفض داعش، هذا ما لم أقرأه وما لم أسمعه عن أي مدينة في سورية!».

يشاطر آزاد محمود – وهو طالب جامعي يدرس في حمص لجأ مع أهله إلى سروج بينما كان في إجازة – المحامي إيبو القول: «كنت في حمص ورأيت حجم الدمار الذي لحق بالكثير من أحيائها، ما حصل في كوباني فاق ما لحق بأحياء حمص»، ويتابع بينما يحاول أن يتذكر حياً حمصياً يشبه إلى حد ما كوباني «لا… حتى المجازر التي حصلت في حمص كانت تختلف شكلاً ومضموناً عن الحالة التي نحن فيها، صحيح أننا لم نقتل ولم تحدث مجازر كبيرة بحقنا كما حصل في حمص ومدن سورية أخرى لكننا اقتلعنا من جذورنا… تركنا كل شيء خلفنا، ونعرف أنه لن يتبقى شيء بعد فرار داعش. لقد انتهى كل ما بناه أجدادنا في مئة عام (وهو عمر مدينة كوباني) بقرار من الخليفة، لهذا وقع في نفوسنا أكثر وطأة من أي مجزرة».

وتصف امرأة مسنة حال اللاجئين بالقول: «في كل خيمة من الخيم تجد الكارثة، أب يتشاجر مع ابنه، والأم تبكي على منزلها، والطفل يبكي كما لو أنه يرفض حال اللاجئ… إنها حالة لا تحتمل!».

قصة كوباني لا تنتهي بمجرد مغادرتك سروج وإدارة ظهــرك لمأساة الكوبانيين، ما إن تودعهم هناك حتى تلتقي بأحدهم في سيارة السرفيس التي تقلك إلى مدينة أخرى، وقد تسمع منه كلاماً جديداً (عن اللحظة القيامية التي أصابت كوباني) لم تسمعه خلال جولاتك في سروج أو «علي كور» أو أورفا، في هذه المدن ترى عيوناً ترسم مستقبلاً لكوباني بمعية الأشقاء والأصدقاء، وهم كثر طبعاً.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى