صفحات الحوار

الناقدة يمنى العيد:حياتنا في خطر وليس الأدب فقط

 

 

ليندا نصار

“إذا كان اعتماد البنيويّة في التدريس في فرنسا قد أدّى إلى انحسار الإنتاج الأدبي، فإنّ “الببغائيّة” في تدريس الأدب عندنا أدّى، على وفرته، إلى سطحيّة معظمه”.

“كتابةُ الرواية كما قراءتها مرآة تحاور فيها الأنثى ذاتها، وكأنّها بذلك تمارس وجودها الذي حُرِمَتْ منه”.

تواصل الناقدة اللبنانية يمنى العيد (حكمت الصباغ) حضورها النوعي في الثقافة والنقد العربيين، وهي التي ازدادت عام 1935 من دون كلل أو تعب، بل سيلحظ القارئ متابعتها الدقيقة لكل التحولات التي يعرفها الأدب العربي الحديث في تجاربه المتعددة، كيف لا وهي من القامات النقدية الرئيسة التي أثثت تاريخ النقد العربي الحديث برؤى نقدية منذ أطروحتها الجامعية “الدلالة الاجتماعية لحركة الأدب الرومنطيقي في لبنان”، حيث لم تقف عند حدود استعارة المفاهيم التي كانت رائجة في الغرب بقدر ما سعت إلى محاورتها، والانتقال بها من حيز الممارسة الآلية على النصوص إلى البحث فيها عن إمكاناتها الخاصة إلى جانب عدد من النقاد العرب (عبد الفتاح كيليطو، ومحمد مفتاح، ومحمد برادة، وعبد الله الغذامي، وعبد العزيز حمودة، وفيصل دراج، وصلاح فضل، وخالدة سعيد، وكمال أبو ديب، وجابر عصفور، وعبد السلام المسدي، وعبد الرحيم جيران، وسعيد يقطين، وعبد الله إبراهيم، وسيزا قاسم، وعبد المالك مرتاض، وسعيد بنكراد…)، وقد راكمت عددا مهما من الدراسات النقدية التي لا يمكن لأي باحث متخصص ألا يعود إليها، ومن بينها: “ممارسات في النقد الأدبي” (1973)، و”الدلالة الاجتماعية لحركة الأدب الرومانتيكي” (1979)، و”قضايا في الثقافة والديمقراطية” (1980)، “في معرفة النص”(1983)، و”الراوي/ الموقع/ الشكل” (1986)، و”في القول الشعري” (1987)، و”الماركسية وفلسفة اللغة لميخائيل باختين”، ترجمة بالاشتراك مع محمد البكري، و”دراسات في القصة العربية” (1986)، و”تقنيات السرد الروائي” (1990)، و”الكتابة تحول في التحول، مقاربة للكتابة الأدبية في زمن الحرب اللبنانية” (1993)، و”فن الرواية العربية بين خصوصية الحكاية وتميز الخطاب” (1998)، و”قاسم أمين.. صلاح قوامه المرأة”، و”الرواية العربية بين الواقع والإيديولوجية” (1986)، و”أمين الريحاني، رحالة العرب” (1970)، و”النص المفتوح” (1991)، وسيرة الروح (سيرة ذاتية/2013)، و”زمن المتاهة” (سيرة روائية/ 2014).

* كيف تردّ يمنى العيد على الدعوة النقديّة التي اعترف فيها تودوروف بمسؤوليّته في قتل الأدب جرّاء تطبيقاته لهذا المنهج، ولا سيّما في كتابه “الأدب في خطر”؟

تقولين في سؤالك، وبشكل جازم، بأنّ “المشروع النقدي ليمنى العيد” ارتبط في مقاربتها للنصّ الأدبي العربي “بالمدرسة البنيويّة”. وفي هذا القول مغالطة جرّها على مشروعي بعضُ النقّاد العرب ممَّن لم يتابع مساري النقدي، ولم يتبيّن حقيقة ما سعيْتُ إليه في قراءتي للنصّ الأدبي العربي، أو ممَّن لم يفهم البنيويّة في منطلقاتها، ولا اطّلع على إمكانيّات الإفادة منها وتجاوزها في الآن نفسه. وباعتبار هذه الإمكانيّات، أشير على سبيل المثال إلى غولدمن الذي أفاد من البنيويّة، ولكنّه رفض عزل الأدبي عن الاجتماعي، فابتدع مفهوم التناظر، وهو مفهوم يرى إلى العلاقة بين بنية العمل الأدبي وبين البنية الذهنيّة للفئة الاجتماعيّة التي يعيد الأديب تركيبها في عمله. وقد سعيتُ، في بدايات تجربتي، إلى الإفادة من هذا المفهوم من منطلق حرصي على قراءة الاجتماعي في الأدبي، دون الوقوع في ثنائيّة العلاقة الميكانيكيّة بين الشكل والمضمون التي وقع فيها بعضُ النقاد العرب الماركسيّين.

لكن، اسمحي لي بمزيد من التوضيح بخصوص علاقتي بالبنيويّة التي لم يكتف البعضُ بربط “مشروعي النقدي” بها، بل شوّه محاولتي لقراءة المتخيّل في النصّ الروائي العربي على مستوى بنيته الفنيّة، بهدف تمييز خصوصيّته ودحض اعتباره نصّاً يحاكي النصّ الروائي الغربي، ما يعني تبعيّته للثقافي الغربي. وفي هذا الصّدد أفدتُ من باختين، ومن مفهوم الإحالة، إحالة المتخيّل الروائي على ما سمّيْته بـ”المرجع الحي”، أو المعيش، وهو، أي مفهوم الإحالة، منوطٌ بالقارئ.

هكذا تجاوزتُ البنيويّة، كما حرّرتُ قراءتي النقديّة من ثنائيّة الشكل والمضمون التي مارسها بعضُ النقاد الماركسيّين العرب بهدف الحرص على العلاقة بين الأدبي والاجتماعي. (أشير بهذه المناسبة إلى الحوار الطويل، والشامل الذي أجراه معي د. أحمد الجرطي والذي تناول بالتفصيل علاقتي بالبنيويّة. نُشر هذا الحوار في كتاب في المغرب، تحت عنوان “رهانات الخطاب النقدي العربي”).

أما بخصوص تودوروف، فقد استغرقَتْه، بدايةً، البنيويّة، وإليه يعود الفضل في التمييز، بنيويّاً، بين القصّة والخطاب، كما بين الراوي الشاهد والراوي الذي يختبئ خلف الشخصيّات ويدع لها النطق بلسانها.

لكن، لئن كان ما قدّمه تودوروف، ومعه جينيت وبارت، قد ساعد النقد على البحث في خصائص بنية العمل الأدبي الفنيّة، وبالتالي تمييزها وتقييمها…فإنّ اقتصار النقد على هذه البنية الفنيّة، أو المعادلة بينها وبين العمل الأدبي، أفضى، لدى البعض، إلى شكلانيّة فارغة تعزل الأدب عن حوضه الاجتماعي الذي لا حياة له بدونه.

ولقد اعترف تودوروف بمسؤوليّته عن هذا المآل، وهي مسؤوليّة متعدّدة الأسباب والوجوه. من أبرزها ما هو متعلِّقٌ بمشاركته بالسّياسة التعليميّة (ما بين عامي 1994 و2004) التي تضعها وزارة التربية الوطنيّة الفرنسيّة، هذه السياسة التي قامت على تعليم التلامذة، في المدارس الثانويّة، كيف يُقرأ الأدب وليس ما يقوله هذا الأدب. ما يعني التعامل، فقط، مع بنية الشكل واعتبار “الأعمال الأدبيّة مجّرد أمثلة إيضاحيّة لرؤية شكلانيّة أو عدميّة”، ما أدّى إلى العقم والسطحيّة والدوران في فراغ الذات، بحيث غدا النتاج الأدبي في واد ومثل هذا النقد في وادٍ آخر، وربما في وادٍ ينبئ بالخطر.

* هل الأدب حقاً في خطر؟

بالنسبة إلى تودوروف تمثّل هذا الخطر في عزوف التلامذة الثانويّين عن التخصّص الجامعي بدراسة الأدب، وبالتالي عدم إقبالهم على قراءة الأعمال الأدبية، ومن ثم عدم مساهمتهم في تقييمها وإنتاجها. وهذا أمر يطول المسألة الثقافيّة باعتبار هويّتها وأثرها في الواقع الاجتماعي. وقد تمثل هذا الخطر، فعليّاً، في نزوع الأدب الفرنسي إلى شكلانيّة ما بعد حداثيّة اعتبرت النصّ مجرّد لغة، أو مجرّد عالم من الإشارات اللغويّة قائم بذاته.

وهذا أمر بالغ الخطورة لا لأنّه يعفي الأدب والأدباء، والثّقافة التي ينتجونها، من مسؤوليّتهم وحسب، بل لأنّه يشرّع، وبشكل غير مباشر، للحروب التي يشنّها أسياد الأنظمة الرأسماليّة (المتوحشة) على البلدان النامية طمعاً في ثرواتها الطبيعيّة (الحرب على العراق مثالاً).

هكذا، وبأثرٍ من اعتبار النظام التعبيري بنيةً منفصلة (وليس فقط مستقلّة) عن المرجعي الاجتماعي، تحوّل القصف الصاروخي على العراق (2003)،  بقراءة ما بعد حداثيّة، إلى مجرّد بنية من الإشارات (الصاروخيّة) تمارس، في الفضاء، لعبها الشّكلاني المعزول عن حقيقته الواقعيّة الناطقة بدماء الشعب العراقي وأشلاء أبنائه ودمار ما بنوه من عمارة وحضارة.

لكن فيما يخّصّ الأدب، لا أعتقد أنَّ أدبنا العربي في خطر. فنظامنا التربوي التعليمي الثانوي والجامعي، لا يعتمد، شأن النظام الفرنسي، النظريّة البنيويّة. أضف، إقبال الطلاب، في بلداننا العربيّة، على الاختصاص بالأدب، وإن كان ذلك لأسباب تخصهم ولا تخدم الأدب بشكل مباشر. من هذه الأسباب أشير إلى سهولة دراسته، وعدم إلزاميّة الحضور، وارتفاع نسبة النجاح، وإمكانيّة إيجاد وظيفة (التدريس)، مقابل ما تتطلّبه الاختصاصات الأخرى من إمكانيّات، وما تستوجبه من جهد.

ويمكن القول إنَّ الأدب، في بلداننا العربيّة، وخاصّة الأدب السردي، يعاني لا خطره، بل كيفيّة تطوّره وتميّزه باعتبار ما يحكيه، أي باعتبار علاقته بما نعيش من حروب ومآس رافقتْ متغيّرات تاريخنا الحديث. لقد عرف أدبنا، بدءًا من منتصف القرن العشرين، ازدهاراً ملحوظاً تلازم مع شغل الشعراء على موسيقى الشعر وصوره بما يجعلها، فنياً، أكثر قدرة على التعبير عن حالنا وما نعانيه. كذلك عرفت الرواية معاناتها الإبداعيّة التي تمثّلت في التجريب، وفي السؤال الذي طرحه بعض الروائيين العرب على أنفسهم بخصوص كيفيّة القول، القول السردي الفنّي الخاص بـ”حكايتنا”.

مؤخراً، ومع موجة الإقبال، عندنا، على الكتابة الأدبيّة بصفتها تعبيراً عن الذات، نلاحظ اتسام هذه الكتابة الأدبيّة، وخاصّة الروائيّة، بالتسرّع، وعدم حرص كُتّابها، خاصّة الشباب، على ما يجعل ما نكتبه عملاً إبداعيّاً يضيف ويتميّز بما يخوّله الحياة.

ولعلّ الطابع التجاري لعدد كبير من دور النشر العربيّة، وتراجع النقد الصحافي التقييمي، ونزوع بعضه إلى المجاملة، إضافة إلى رواج النشر الإلكتروني… كل هذا ساهم، بنسبة عالية، في تدنّي مستوى بعض هذه الكتابة الأدبيّة.

هل الأدب في خطر؟

إنَّ حياتنا كلّها في خطر. نحن أناس هذه القرية العالميّة الصغيرة، المحكومين بأسياد هذا النظام الليبرالي المتوحّش.

* كيف تقيّم الناقدة يمنى العيد واقع الرواية العربيّة اليوم في ظلّ سطوة الجوائز؟

الجوائز، العربيّة، غدت ظاهرة، وغدا معظم الأدباء يتهافتون على الترشّح لها، وربما يكتبون بهدف الحصول عليها، بعد أن كانوا يقفون موقفًا سلبيّاً منها، وممّن يترشّح لها أو ينالها. هذا الموقف السلبي سببه الاعتقاد بأنّ معظم مانحي هذه الجوائز هم أمراء وسلاطين ويذكّرون بتلك العطايا التي كان يغدقها الخلفاء على منْ يقف بيْن أيديهم مدّاحاً مستجدياً الإعجاب والرِّضا.

لكن، لقد اختلف الأمر اليوم، وصارت تلك العطايا جوائز لها شروطُها ونظامُها ومعاييرُها ولجانٌ للقراءة والتحكيم والاختيار، هكذا حازت هذه الجوائز على صكّ براءة، وتهافت الأدباء على الترشّح لها، وصار نيل جائزة من هذه الجوائز، التي أخذت تتكاثر، حلماً لدى عدد كبير من كتّاب الرواية، وخاصّة الشباب الذين وجدوا في نيل جائزة من هذه الجوائز المخصّصة لنتاجهم، سبيلاً للشهرة يختزل مساراً من عناء الكتابة، ويتيح لأعمالهم، أحياناً، أن تُقرأ بأكثر من لغة.

غير أن حقيقة هذه الجوائز، أو معظمها، ليس تماما كذلك. ثمّة أمور تدخل، وبشكل غير مباشر، في عمليّة اختيار العمل الفائز.

من هذه الأمور:

– تحديد معايير الفوز التي يتّسم بعضها بالعموميّة، أو التي تشترط قيماً تتوفّر عليها بعضُ الروايات دون غيرها.

– اختيار أعضاء اللجان ورؤسائها، وهو اختيارٌ يناسب خصائص، أو منحى سردياً فنيّا دون سواه، وقد لا يخلو هذا الاختيار، أحيانا، من تدخّل بعض مانحي هذه الجائزة أو تلك.

–  إمكانيّة تواطؤ بعض أعضاء اللّجان على التصويت لرواية معّينة.

مثلُ هذه الأمور هي احتمالات يجري تداول صداها من قبل الأدباء في الأوقات التي تسبق الإعلان عن الجوائز وتليه. لذا يمكن القول بأنّه مهما يكن من حقيقة هذه المآخذ، أو من حقيقة بعضها، يبقى لهذه الجوائز أهميّتها، فهي عونٌ مادي وتشجيعٌ معنوي، وسبيلٌ لنقل نتاجنا الروائي إلى الّلغات الأخرى وللتعريف به. ويبقى الأمل بأنْ يكون هذا التعريف، تعريف الآخر بنتاجنا الأدبي، تعريفاً بالأفضل.

أما فيما يتعلّق ببثّ روح جديدة للخيال الأدبي العربي، فأنا، وبالإحالة على ما قدّمتُ من أبحاث تخصّ المتخيّل السردي العربي، أنيط بثَّ هذه الروح الجديدة “للخيال الأدبي” بما نعيشه، أي بالتاريخ ومتغيّراته على مستوى الواقع الاجتماعي وبالعلاقات الحواريّة بين الناس، وما ينتج عن ذلك، أو يتلازم معه، على مستوى الثقافة والوعي.

* ألم تسهم (الجوائز) في تغيير المسار العام للسّرد الروائي؟

الرواية العربيّة حديثة العهد بهذه الجوائز، وكون هذه الجوائز غدت ظاهرة، كما تقولين، ممكن أنْ تترك أثراً تغييريّاً “على المسار العام للسرد الروائي”، أو على هويّة الرواية الفنيّة. لكن استنادا إلى اطلاعي على معظم ما يصدر من روايات عربيّة، أرى أنّ هذا الأثر محدود، ويكاد ينحصر في ما يكتبه بعض الشباب من الجيل الجديد. أما الجيل السابق، جيل روائيّي الحرب في لبنان، وأعلام الرواية التجريبيّة في مصر مثلا، وكذلك روائيّو نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحالي الذين اهتموا بحكاية التاريخ، وسعوا إلى تحديث السرد الكلاسيكي، أو أبدعوا أنماطاً من السرد المتميّزة بفنيّتها والثريّة بمسرودها، والذين، إضافةً إلى ذلك، أو استناداً إلى ذلك، أنتجوا أعمالاً روائيّة، يمكن القول بأنّ لها صفة عالميّة. مثل هذه الروايات لا تتأثّر بالجوائز، وليست هي الجوائز التي تعطيها قيمتها. بل مسعاها الفنّي لقول الإنساني العام فيما هي تروي حكايةَ الخاصّ.

وقد تُستبعد بعض الروايات من الجوائز، كون سردها منسوجا من منظور نقدي لسلطةٍ حاكمة، أو كون الراوي يحكي الحكاية من موقع فكري تحرري… تُستبعَد مثل هذه الروايات، أو أنَّ الروائّيين أنفسهم لا يرشّحون أعمالهم لمثل هذه الجوائز، وقد يرفضونها في حال جرى اختيار أحد أعمالهم لها. والأمثلة على ذلك معروفة لدى روائيّين كبار رفض بعضهم حتّى جائزة نوبل.

* تهيمن الرواية التجاريّة على سوق القراءة في العالم العربي مقارنةً بالرواية الأدبيّة ولا سيّما مع ظهور ذائقة قرائيّة جديدة استطاعت أنْ تصنع نجومها؟ هل يعني هذا غيابٌ عامّ لسلطة النقد الأدبي؟ أم أنَّ التحولات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة أسهمتْ في تعزيز موقع هذا النوع؟

صحيح ما تقولينه، وهذا يجد تفسيره في عدّة أسباب تضافرت وأدّتْ إلى هذه الظاهرة، ظاهرة وفرة الإنتاج وطابعه التجاري.

وقد يكون من أهمّ هذه الأسباب حاجة جيل الشباب الراهن، جيل ما بعد الحرب الذي يعاني ذيولَها، إلى التعبير عن ذاته، وإثبات حضوره، إضافةً، إلى ذلك، تراجع النقد الصحافي الجدّي ونزوع بعضه إلى المجاملة، وتساهل بعض دور النشر، أو تواطئهم مع بعض هؤلاء الكتّاب الذين يساهمون، ماديّاً، بتكاليف الطّباعة، كما يسعون للترويج لنتاجهم في وسط اجتماعي غدا يميل، بمعظمه، إلى قراءة ما هو سهل ومثير، وتتمرأى فيه مكبوتات الذّات ويحفّز على التحرّر منها.

إنّها حروبنا الأهليّة التي أنهكتنا وآلتْ، بمعظمنا، إلى فوضى أباحت ما لم يكن مباحاً. وبالعودة إلى تودورف، ومن حيث العلاقة بين مناهج التدريس والإقبال على قراءة الأدب وإنتاجه، نشير إلى أنّ بعضُ التعليم الجامعي عندنا الذي يقتصر على الحفظ الببغائي للمحاضرات الجاهزة التي يكتفي بعض الأساتذة بتوزيعها على الطلاب، قد أدّى إلى رضا معظم شباب هذا الجيل بقراءة ما هو سطحي بصفته، وفي حدود ما تعلموه. هو النتاج الأدبي القابل لقراءتهم و”المثري”، حسب ظنهم  لثقافتهم.

هكذا لئن كان اعتماد البنيويّة في التدريس في فرنسا قد أدّى إلى انحسار الإنتاج الأدبي، فإنّ “الببغائيّة“ في تدريس الأدب عندنا أدّى، على وفرته، إلى سطحيّة معظمه.

* كيف تقرأ الناقدة يمنى العيد واقع الرواية الأدبيّة في العالم العربي؟

أشير بدايةً إلى هذه الوفرة التي يتسّم بها الإنتاج الروائي العربي، حاليّاً، على تنوّع موضوعاته، واختلاف أساليبه السرديّة الفنيّة، وتفاوت مستوياته الإبداعيّة. وهو ما سميّته بـ”الطفرة” التي، كما أعتقد، سوف يغربلها الزمن. لقد طاولتْ هذه “الطفرة” معظم الدول العربيّة، إنْ لم نقل جميعها، بعد أن كان، هذا الإنتاج الروائي، في بداياته، يكاد أن يكون مقتصراً على بعض هذه الدول.

كذلك تحرّرت معظم الكتابة الروائيّة العربيّة من القمع وسلطة الرقابة السياسيّة التي كانت تمارسها بعضُ الأنظمة العربيّة عليها.

وقد كان هذا التحرّر بأثرٍ من الانتفاضات الشعبيّة الثوريّة وما آل إليه بعضها من فوضى وحروب أهليّة، ومآس إنسانيّة، ما استدعى نوعاً من الكتابة قادرة، من منظور إنساني، على إبداع عالم متخيّل يدينُ هذه المآسي، وكلَّ تسلّطٍ وقمع وحرمان.

لقد قرأتُ بشغف وإعجاب بعض ما كتبه أدباءٌ جدد من سورية والعراق ومن أكثر من بلد عربي، وبشكل خاصّ، ما كتبه أدباء من المغرب وتونس والجزائر من روايات، باللغة العربيّة، تميزتْ بمنظورٍ إنساني ينطوي على القبول بتعدّد الهويّة واللّغة والانتماء لتاريخٍ مختلف.

وعطفاً على هذا الواقع للرواية العربيّة، أشير إلى أنه في أواخر القرن الماضي اتّسمت الرواية العربيّة بالتجريب سعياً لمتخيّل روائي فنّي لا يقلِّد الرواية الغربيّة أو يحاكي فنيّتها، بل يروي حكايتنا ويتميّز بفنيّة سرده لها. هكذا تنوّعتْ أساليبُ السّرد الرّوائي العربي واختلفتْ. فعادتْ بعضُ الرّوايات إلى رواية التاريخ، (رواية بيروت مدينة العالم ل ربيع جابر)، واستعان بعضُها الآخر بالراوي الشّاهد على هذا التاريخ ‫(رواية قطعة من أوروبا ل رضوى عاشور)، أو إدراج بعض الإحصائيّات إثباتاً لمعلومة (رواية شرف ل صنع الله ابراهيم). كأنَّ هذه الروايات ومثيلاتها، سعت إلى تنسيب المنتَج الفنّي إلى المروي بصفته حقيقيا.

ويمكن القول بأنّ الرواية العربّية أثبتت حضورها وتميّزها بهويّة اتسمت بنزوع الخاصّ إلى الإنساني العامّ.

* لماذا، وكما يبدو، أنَّ المرأة العربيّة هي الأكثر قراءة للرّواية؟

ربّما لأنَّ المرأة بشكلٍ عام، وليس فقط المرأة العربيّة، تحبّ سماع الحكايات. فمن المعروف أنَّ النساء يستمْتعْن بما يُروى فيما بينهّن عن الأولاد والأزواج والجارات، وما يجري بين سكّان البناية أو الحي… كما يرغب معظمهّن في الحديث عن الموضة، وغير ذلك من شؤون الحياة التي تخصّهن، والتي تستجيب لفوضاهِّن.

في الرواية، كلامٌ وحكاية عن شخصيّات وأحداثٍ ومواقفَ وحوارات… كلام حواري وحكاية لها حبكتها، وبالتالي لها متعة تحمل على متابعة القراءة ومعرفة النهاية لهذه الحكاية. وقد تفضي هذه المتعة إلى المزيد من الرغبة في قراءة الروايات بحيث تصبح هذه القراءة عادة، وربما حاجة تطلبها الذات.

لكن المرأة اليوم غدتْ تحبُّ، لا قراءة الرواية وحسب، بل أيضاً كتابتها، باعتبار الكتابة شكلاً من أشكال الحياة. لنذكر هنا رواية “أنا أحيا” لـ(ليلى بعلبكي) التي صدرتْ أواسط خمسينات القرن الماضي، والتي عبّر عنوانُها عن هذه المعادلة بين الكتابة، بما هي سرد الأنثى لحكايةٍ عن ذاتها، وبين الحياة.

كتابةُ الرواية كما قراءتها مرآة تحاور فيها الأنثى ذاتها، وكأنّها بذلك تمارس وجودها الذي حُرِمَتْ منه.

ضفة ثالثة

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى