صفحات الثقافة

الناقد الأدبي.. والناقد المتفلسف/ حاتم الصكر

 

 

كثيراً ما أجبت عند سؤالي عن عيّنة دمي النقدية أو منهجي بأني ناقد أدبي. وأدبية النقد اعتقاد متكون من قناعة تسبقه بأن فاعلية النقد- بما أنه يسائل النصوص – هي فاعلية أدبية في المقام الأول. ولا يمكن فرض علميةٍ صِرفٍ على النقد الأدبي بمعنى الإجراءات والوسائل والرؤى، وهذا عندي يفسر توقف الأسلوبية الإحصائية وتراجع البنيوية المدرسية أو الصارمة التي تجعل النص ميداناً للفحص اللساني الخالص، أو إغلاق بنية النص من جهة التلقي وتطويق إمكانات الفهم والتأويل. وهو ما تراجع عنه مفكرون بنيويون ونقاد كتودوروف وجينيت وبارت…بعد أن استنفدوا دعواتهم لتخطي أدبية النصوص إلى فك تراكيبها، ووصفها دون التفكير بمشاركة القارئ وإعادة بنائها عبر قراءته. فتحدثوا لاحقاً عن جامع النص للتواصل بين النص وسواه من المدونات، وعن لذة النص تخفيفاً لصلادة الخطاب اللساني، والشعرية كوسيلة لفحص طرق انتظام النصوص، وعلم الأدب بكونه حسب جاكوبسن “ليس هو الأدب في عمومه، وإنما أدبيته؛ أي تلك العناصر المحددة التي تجعل منه عملا أدبيا”.

وهذا بالتأكيد ما يسعى له نقاد الأدب قديماً وحديثاً مع اختلاف المعايير والمناهج والطرق، والإجراءات بالضرورة. لكن النقد ظل متمحورا حول الأدب ومتمركزا في ملاحقته نصوصاً ورؤى.

ظلت تلك وظيفة النقد ومهمة الناقد حتى جاء زمن صار النقد فيه عقلانياً يغوص في مغطس الفلسفة فيخسر الأمرين، فلا أطروحاته تعد فلسفة بالمعنى المعرفي، ولا هي نقد أدبي. تماما كما ضيعت الرواية التاريخية التقليدية هويتها؛ فلا هي مرجع لدراسة التاريخ، ولا هي عمل فني بمفاهيم السرد وتقنياته.

لا شك في أن بين الفلسفة والنقد وشائج لا يمكن تجاهلها. وقد تراوحت الصلة بينهما اقتراباً شديداً حدَ الانسحاق والضياع، كما حصل للنقد في القرن الرابع وما بعده حين ساد المنطق الأرسطي على نشاط النقد البلاغي وعلم البلاغة، وتحول النقد أقيسة منطقية جامدة تظهر جلية في مؤلفات النقاد العرب القدامى.

إن بين ناقد الأدب وسواه إذاً انشقاقاً حول أحقية الحقل بالواسطة. ومعنى ذلك بعبارة أكثر وضوحاً أن ثمة اختلافاً حول الوسيلة المناسبة للحرث في الحقل النصي. فليس التفلسف مناسباً لمتون تنبني على المخيلة والعواطف، فيما تقدم الأدوات النقدية الأدبية وسائل أكثر ملاءمة لطبيعة النصوص من جهة ولمهمة القراءة وجمالياتها من جهة أخرى.

إن نقاد الأدب يذهبون إلى أن أدبية النقد تستلزم أمرين:

– رؤية من داخل الحقل لا خارجه، وذلك لا يعني حظر الاستعانة بما توحي به النصوص من مهيمنات نفسية أو اجتماعية. ولكن بحدود النصوص وأدبيتها.

– وأسلوب يرقى إلى ذخيرة النصوص بتعبير علماء القراءة وجماليات التلقي، ويجاري النصوص في أدبيتها أسلوبياً، أي بالعناية بعرض الأفكار والتحليلات والتأويلات وما يتصل بها نقدياً. ليكون النص النقدي كتابةً على الكتابة كما قيل قديماً، أو نشاطاً يعيد تشكيل النصوص بالتنبه لفجواتها وفراغاتها ودلالاتها وشفراتها ورموزها وإيقاعاتها.

ذلك يضعنا صراحة بمواجهة دعوات “موت النقد الأدبي” بحجة عدم إمكان متابعة أفراد النصوص في حركتها وتحولاتها، والتشكيك في جدوى المقاربات الأدبية الخالصة، وجدواها لبناء ثقافة غير نسقية. و بدلاً عن ذلك الإلغاء للنقد الأدبي برزت اقتراحات تركز على ضرورة اختيار الظاهرة الثقافية المتصلة بالأدب ميداناً للكتابة النقدية.

لكن تلك الدعوات تهمش النقد الأدبي رويداً، وتبتعد خطوات بعيدة عن أدبية النصوص وشعريتها، وتلغي مهمة تحليلها وتأويلها نصياً. وهي متعة يحسها الناقد والقارئ. وقد سمحت بظهور اجتهادات وتقييمات وإعادة قراءة متواصلة هي في الواقع من مهمات النقد في جانبه الأدبي الذي يراد تشييعه وإعلان إنتهاء مهمته، لصالح مقاربات اجتماعية وسياسية تتخفى خلف عنوان عريض وزئبقي هو النقد الثقافي. وترافق ذلك مع ميل بعض النقاد العرب للخوض في دراسات المستقبل والتبدلات السياسية والحروب والهجرات، وما يترتب على الهيمنة الاستعمارية من نتائج. وهم في النسخة العربية يحاولون استنساخ تجربة نعوم تشومسكي اللساني الأشهر والمحلل العميق للسياسات الاستعمارية، والعربي الأميركي أدوارد سعيد في تحليله للغرب الاستعماري وقراءته للشرق بوحي الصور النمطية التي يخلقها عنه، وبعض كتابات تودوروف عن اكتشاف أميركا والعلاقة بالآخر، وسواها من الفاعليات السياسية لنقاد ولسانيين اجتذبهم الخطاب السياسي أو الإجتماعي.

وتواصلت تلك الجهود لإقصاء النقد الأدبي وفاعلياته النصية والنظرية، كي تقيم بدلاً عن ذلك خطاباً متفلسفاً وليس فلسفياً، لأنه لا يندرج ضمن الفاعلية العقلية للفلسفة، من جهة، ولا يخدم المهمة الأدبية للنقد التي يظل أطراف العملية الأدبية بحاجة لها، من جهة أخرى، وأعني بتلك الأطراف: النص والناص والقارئ. فضلاً عن تعطيل رصد -أو تعقب – الحساسيات الأدبية وتوجهات الكتابة وأساليبها، وما يجري ضمنها من تبدلات في الكتابة وتحولات وجماليات.

إن حجج “موت النقد الأدبي”  لصالح ولادة عملاق أو مارد يحل محله باسم النقد الثقافي يمكن مناقشتها وبيان خطئها. ولا سيما تلك التي عرضها الدكتور عبدالله الغذامي في كتابه “النقد الثقافي – قراءة في الأنساق الثقافية العربية” فهي تكمن في ذرائعية يصعب تقبلها كمبرر لموت النقد الأدبي.

يقول الغذامي “ما يتراءى لنا جماليا وحداثيا في مقياس النقد الأدبي، هو رجعي ونسقي في مقياس النقد الثقافي. وبما أن النقد الأدبي غير مؤهل لكشف هذا الخلل الثقافي، فقد كانت دعوتي بإعلان موت النقد الأدبي وإحلال النقد الثقافي مكانه”. ولقد علقت في حينها على ذلك الإعلان بوصفه يعيد ثقافة الناسخ والمنسوخ، والإحلال والإقصاء. فقد كان ممكنا مثلاً اقتراح النقد الثقافي كصورة من صور تمدد الخطاب الأدبي ذاته. لكن ما حصل هو نسخ للنوع الأدبي من النقد، ومراجعة لقناعاتٍ نافح الغذامي بشجاعة وعلمية ومنهجية فريدة في توصيلها. لكن ذلك كان انقلاباً حقيقياً على النقد الأدبي. أقال الغذامي بموجبه شعراء الحداثة لأنهم نسقيون، وفي مقدمتهم أدونيس الذي وصف الغذامي حداثته بأنها نسقية ورجعية، ناسفاً ما كان قد قاله فيه. وحين حصل بيننا حِجاج مباشر حول تبدل القناعات بدرجة حادة كما حصل مع المتنبي أيضاً حين غدا “شحاذاً” بتعبير الغذامي، ونزار قباني الفحل أيضاً، أجاب الدكتور الغذامي بأن النسق مسيطر علينا لدرجة أننا لا نتقبل تبدل القناعات، انطلاقاً من فحولة اتهم بها الغذامي خصومه لأنهم يريدون الثبات على المواقف، ولا يقبلون المراجعة أو التراجع. ولكن الأمر في الحقيقة أبعد من ذلك.

نعم. الأمر في ظني أبعد من ذلك. فالنقد الثقافي سيقود إلى العمل خارج الحقل النصي والأدبي عامة. وسيترك النصوص بلا مراجعة أو نقد أو رصد. كما أنه سيقحم الخطاب النقدي في هوامش وزوايا ليست من تخصص الناقد؛ كالظواهر السمعية والإعلامية التداولية التي درسها الغذامي من بعد.

لقد علّقت في حينها موجِزاً غرض الغذامي ونقده الثقافي بالقول إن قراءة كتاب الغذامي “بدلالاته البعيدة ومراميه أعطتني القناعة بأنه محاكمة للحداثة، ومحاولة إثبات بطلانها كمشروع، ولكن بطريقة ذكية تنسب لها صفات الرجعية والمنافقة والتمويه والنسقية، فالحداثة كلها- وليس النقد الأدبي النسقي وحده – مطلوبٌ الموافقة على شهادة موتها التي حرّرها الغذامي. وراح في سبيل ذلك يحاكم نموذجين معاصرين، ومثلهما من الأسلاف لإثبات ذلك:  فكان أبو تمام والمتنبي ضحيتي التراث، ونزار قباني وأدونيس –والأخير خاصة!- ضحيتي المعاصرة. وإذا تم تسفيه حداثة الأربعة فقد سقط مشروع الحداثة ومبرراتها”.

لقد توالت دعوات تهميش النقد الأدبي من بعد عبر انقلابات عدة، منها ما لجأ إلى مقولات صادمة لتغيير الحساسية الأدبية؛ كالقول بأن هذا هو زمن الرواية، أو أنها غدت ديوان العرب. أو الدعوة لتهريب الخطاب الأدبي صوب قضايا الجندر والاستشراق والتمييز العنصري. وهي كلها قضايا بالغة الأهمية، ومن صلب مشروع الحداثة الأدبية عبر التاريخ الثقافي، لكنها لا يمكن أن تحل محل النقد الأدبي أو تنسخه، وتلغي وجوده أو ترثه بكونه ميتاً كفّ عن الفعل والحيوية.

النصوص تستثيرنا وتظل تغري بالمقاربة والقراءة والتأويل. ولم يلغ النقد الثقافي فاعلية النقد الأدبي ومنجزاته، وضرورته لتطوير النص وتحديث النظرية وتعميق فعل القراءة.

ضفة ثالثة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى