مراجعات كتب

النحت في مملكة الموتى… قراءة جان جينيه في أعمال جياكوميتي/ عبد الله الحيمر

 

 

كان مشهد أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية جنائزيا، مقابر لجنود مجهولين وللمقاومين والأبرياء، ورائحة الموتى تنبعث من أنقاض مبانيها ومن هشاشة الإنسان الذي عاش حربا كونية أفقدته طعم الإنسانية.

كان النحات البرتو جياكوميتي بضميره الحي وبحسه الإنساني شاهدا على فظاعة الحروب وعبثيتها. والقادر على فصل التجربة الإنسانية الداخلية والعالم المحسوس والولوج إلى عوالم الدهشة الهشة في دواخلنا، حيث قال: «لم أكن أنحت الشخصَ الإنساني بل ظلَّه الذي يلقيه على الأرض».

قليلة هي الصداقات الفنية والأدبية، التي تنبع من خلالها كتابات إنسانية استثنائية تخترقنا من الداخل، بدلالتها وعمقها الفلسفي، تحاور وتشاكس رمزية العمل الفني، كاشفة أسراره الخفية للقارئ وللتاريخ. لقد احتل كرسي الرسم والنحت أمام جياكوميتي العديد من الشعراء والأدباء الذين بهرتهم تجربته الإنسانية الكبيرة، جان جينيه وجاك دوبان ورونيه شار وسارتر والكاتبة سيمون دي بوفوار وبيكيت والموسيقار إيغور سترافنسكي وأيف بونفوا وغيرهم. كان جان جينيه متميزا في كتابه «الجرح السري… محترف جياكوميتي» 1954 و1957الذي سجل محادثات وحوارات الكاتب والنحات، أنجز فيها جياكوميتي أربعة رسوم لجينيه، بالإضافة إلى ثلاث لوحات زيتية.

مرسم جياكوميتي

من استوديو متواضع، يبعث على الوحدانية. قال لجينيه مرة: «بأنه لن يكون له مسكن آخر سوى هذا المرسم وهذه الغرفة. ولو كان ممكنا، فإنه يؤثر أن يكونا متواضعين أكثر». كان يطلب من نماذج أعماله، الجلوس لفترة طويلة بدون أي حركة. كان يقول: «لو أن بإمكاني إيقاف النظرات في العيون وإمساكها، فكل شيءٍ سيكون سهلاً بعدها». أي أنه يرسمها بزمن التذكر بدون إسقاط معاصر على النموذج الذي أمامه. كان جياكوميتي يرسم جينيه، وكان الأخير يحاوره بلغة سردية مفتوحة على الكثافة والإيجاز، ويدون ملاحظاته حول منحوتاته التي رأى فيها رحلات للبحث عن أسرار معمار نحتي مشيد من الدهشة والثراء الباذخ على مستوى الوجود والعدم.

واصفا مرسمه بأنه كان «مستنقعاً حلیبیاً ومستودعاً فائرا حقیقیاً». كان ھناك جص فوق الأرضية وفي كل أنحاء الواجهة شعر النحات وملابسه. كانت ھناك قصاصات من الورق ولطخات من الصبغ على كل سطح متاح. ومع ذلك «أنظر إلى القدرات المذهلة السحرية للفوضى، وكأن الفن عن طريق السحر نشأ من النفاية، الجص على الأرضية قفز للأعلى واتخذ الاستمرارية كشكل ثابت». كان هذا المرسم بالنسبة لجان جينيه من عجائب الدنيا، فتن به الى حد الحب الوثني، بمنحوتاته الضخمة والثابتة، مؤكدا أننا في حضرته نوجد في عزلتنا العظيمة. حتى أنه في رسالة إلى ليونور فيني يقول فيها: «لا أستطيع قول الحقيقة إلا في الفن».

لقد أمسك بالحقيقة الساطعة من الوجوه التي تحدق مليا بالفراغ، في الزمن الضائع بين الوجود والعدم. وهذا ما يؤكد عليه جياكوميتي: «المكان لا يوجد، يجب على المرء أن يخلق المكان دائما. الصور والتماثيل التي أعملها تساعدني فقط في فهم الواقع، تجعلني قادرا على الدفاع عن نفسي، على الهجوم بشكل أفضل، لأتقدم إلى أبعد ما أستطيع في كل الاتجاهات، لأحمي نفسي من الجوع والبرد والموت، لأكون حرا وقويا، لأغامر، لأكتشف عوالم جديدة، لأخوض غمار حربي الخاصة… من أجل لا شيء».

هذا المرسم علمه: «أن العزلة، كما أفهمها، لا تعني شرطا بائسا، بل هي بالأحرى مملكة سرية، ولا تواصل عميق إلا أنه معرفة غامضة، قليلا أو كثيرا بتفرد متمنع حصين». داخل هذا المرسم، يموت رجل ببطء، لا من أجل الأجيال المقبلة، آخر الأمر، هو يصنع تماثيل تفتن الموتى.

من أجل الموتى

إلا أن كتابات جان جينيه عن التجربة الفنية لجياكوميتي في كتاب «الجرح السري» تعتبر الأكثر عمقاً، فهو يصف هذه الاعمال بقوله: «تجعلني أيضاً أجد عالمنا لا يحتمل أكثر من ذي قبل، ما دام يظهر أن هذا الفنان عرف كيف يزيح ما كان يضايق نظرته ليكتشف ما سيبقى من الإنسان عندما ستنحى الأعذار الكاذبة»، أي الفراغ المدوي في دواخلنا، الذي تحكمه عبثية الموت أكثر من الحياة. منحوتات يلفها طقس جنائزي، تتنفس صمتا أسطوريا، ترمز للإنسان في سفر العبور بين الموت المعنوي والرمزي، وعزلته عن العالم وفي اغترابه الداخلي. يحيط بها فراغ مدو كما قال سارتر: «فضاء أشبه بالسرطان الذي ينهش كل شيء».

وفي نص شهير كتبه جياكوميتي في عام 1946، شرح كيف أن الموت يفرض نفسه في واقعة اليومي. ومنذ تلك اللحظة شرح كيف بدا هو برؤية مظاهر الحياة تحت أوجه الموت، فرأى الحركة تحت مظهر الثبات، وبتوع الواقع المعيش تحت مظهر الثباتية النهائية، والتعددية تحت مظهر الفردية. وكان كل مخلوق يبدو له حيا ميتا في آن. قائلا: «نعمل لكي ندهش…وبدون دلك فنحن نكرر أنفسنا». قال له جياكوميتي ذات مرة: وردت عليه فكرة تشكيل تمثال ودفنه. (فجأة تتبادر إلى ذهني دماء). لا ليتم استكشافه وحتى إن اكتشف فبعد مضي زمن طويل. بعدما يكون هو وحتى ذكراه قد طواها الزمن. بمعنى إحساسه العميق بأن منحوتاته تنتمي إلى حقبة قديمة زمنيا، أو إلى آلهة هزمت الموت قديما. تتنفس بين عزلتين، وتنحو نحو غرابة علاقة الموت والفن.

يبدأ جان جينيه قراءته لجياكوميتي بمؤشر فلسفي يقودنا إلى مملكة الموتى: «اكتشاف الجرح السري عند كل الكائنات وحتى في كل الأشياء لكي يضيئها، ففي لوحاته تتبدي أول ميزة وهي الكشف عن الجوهر الفريد وإبرازه في ثنايا الشخوص، سواء كانت هذه الشخوص جميلة أو مشوهة». في نظره من خلال حواراته مع جياكوميتي، استنتج أن كل عمل فني، إذا أراد أن يدرك التناسب الأكثر فخامة، فإن عليه، من خلال صبر ومثابرة لا محدودين، ومنذ لحظات تشييده، أن ينزل إلى آلاف السنين، وأن يلتحق، إذا كان ممكنا، بالليلة العريقة في القدم الممتلئة بالموتى الذين سيتعرفون على أنفسهم في هذا العمل الفني: «أمام تماثيله ينتابني أيضا شعور آخر بأنها جمعيها شخوص جميلة، ومع ذلك يظهر لي أن حزنها وعزلتها يشبهان حزن وعزلة رجل مشوه التكتل، أحس نفسه فجأة عاريا وقد انبسط تشوهه أمام ناظريه، ويريد في الوقت نفسه أن يقدم هذا التشوه إلى العالم ليعلن عزلته ومجده… تماثيل لا يطولها التلف».

مضيفا: العمل الفني ليس موجها لأجيال الأطفال، إنه هدية لشعب الأموات الذي لا يحصى، والذي يقبله او يرفضه. لكن هؤلاء الموتى الذين كنت أتحدث عنهم لم يكونوا قط أحياء، او أنني أنسى ذلك، فهم كانوا أحياء بما يكفي لأن ننسى ذلك، وكانت وظيفة حياتهم هي أن نجعلهم يعبرون هدا الشاطئ الهادئ، حيث ينتظرون إشارة ـ آتية من هنا ـ ويتعرفون عليها. ومع إنها حاضرة هنا، شخوص جياكوميتي التي كنت أتحدث عنها إن لم تكن موجودة في الموت؟ ومن الموت تنفلت عند كل نداء توجهه أعيننا لتقترب منا. وهذا ما أكده جياكوميتي: «لا أعرف ماذا أريد ولا ما أعمل ولست أدري إذا كنت أعمل كي أنجز أعمالا، أم لأكتشف لماذا لا أستطيع أن أصل إلى ما أريد، إنها دائرة جهنمية لا تتركني حرا لحظة واحدة». يظهر لي إن جمال منحوتات جياكوميتي، كامن في ذلك الانتقال اللامنقطع واللامتوقف من المسافة الأكثر بعدا، إلى الألفة الأكثر قربا، وهذا الانتقال ذهابا وإيابا، لا ينتهي وبذلك يمكن القول إن منحوتاته في حركة. تبدو تماثيله منتمية إلى عصر ميت، وقد اكتشفت بعد ما الزمن والليل صنعاها بذكاء ـ أفسداها لإعطائها هذا الطابع العذب والقاسي في آن، طابع الخلود الذي يمر، أو أنها كذلك تخرج من فرن وكأنها رواسب اكتواء مرعب، فبعد انطفاء اللهب كان يتحتم أن يظل هذا.

ليس فقط إن التماثيل تقبل نحوكم كما لو كانت جد بعيدة آتية من غور أفق قصي، بل، حيثما توجدون بالنسبة لها، فإنها ترتب أمرها لكي تجعل الناظرين إليها في مستوى أدنى. إنها في أقصى عمق أفق متقهقر إلى فوق هضبة، وأنتم في أسفل التل، انها تقبل متعجلة لتلتحق بكم ثم تتخطاكم.

إن جياكوميتي لا يعمل من أجل معاصريه، ولا من أجل الأجيال المقبلة، آخر الأمر، هو يصنع تماثيل تفتن الموتى. فن جياكوميتي، إذن ليس فنا اجتماعيا لأنه سيقيم بين الأشياء صلة اجتماعية ـ الإنسان – وإفرازاته، بل سيكون، بالأحرى، فنا للمتسكعين الممتازين الذي يبلغون في صفائهم درجة تجعل ما يمكن أن يجمعهم هو الإقرار بعزلة كل كائن، وكل شيء، وكان الشي يقول: «وأنا وحيد، إذن أنا مأخوذ داخل ضرورة لا تستطيعون أن تفعلوا ضدها شيئا. إذا لم أكن سوى ما أنا عليه، فإنني غير قابل للتحطيم. ولما كنت هو ما أنا موجود عليه، فإن عزلتي، وبدون تحفظ تعرف عزلتكم». مضيفا يكفي أن تضع أحد تماثيله في غرفة لكي تتحول هذه الأخيرة إلى معبد. إن الأعمال الفنية لجياكوميتي تمد الأموات بمعرفة وحدانية كل كائن وكل شيء، وتخبرهم بأن وحدانيتنا هذه هي مجدنا الأوكد.

لقد اكتشف اللامرائي في منحوتات جياكوميتي، الحضور الجنائزي لأرواحنا المتعبة والمنهكة، وهي تواجه مملكة الأموات بكل بهائها الأسطوري، ووحدانيتها المثقلة بالتوحد مع العدم. وان أصل الجمال هو الجرح السري حيث يقول: «هكذا نرى إننا في هذا الصدد بعيدون كل البعد عما يسمى بالفن البؤسوي، ففن جياكوميتي يبدو لي كأنه يسعى الى اكتشاف ذلك الجرح الدفين في داخل كل كائن، بل وفي كل شيء، حتى ينبعث منه إشعاع يغير الكائن أو الشيء».

أقوال جان جينيه مأخوذة من ترجمة محمد برادة «الجرح السري».

ناقد مغربي

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى