صفحات الرأي

النساء في لحظة ما بعد حداثية/ شيرين أبو النجا

 

 

 

في عصر الصورة والاستهلاك اليومي السريع للمعلومات يختفي البعد التحليلي لكل السياقات الرئيسية التي ساهمت في تشكيل الحداثة فكرا وموضوعا وخطابا. وبالرغم من احتفاء الكثيرين بزمن ما بعد الحداثة، إلا أنه احتفاء اضطراري لا يرتكز على إرادة فلسفية. ومن أهم القضايا التي ساهمت في تشكيل الدولة الحديثة والفكر الحداثي في العالم العربي هي قضية المرأة، وليس من قبيل المبالغة القول إنها ركن أساسي. فقد تأسس خطاب فكري ومعرفي عميق منذ نهايات القرن التاسع عشر في مصر وسورية ولبنان والمغرب العربي حول قضية المرأة بداية من السفور والحجاب ونهاية بتقنين سن الزواج، وساهم كتاب وكاتبات القرن العشرين في تعميق هذا الخطاب والبناء عليه حتى أصبح خطاب مواطنة بحق، فكان الجدال محتدما حول حق المرأة في العمل والتعليم وولايتها على نفسها والقوامة وشرعية الاختلاط. بل إن كل حاكم عربي في الستينيات من القرن الماضي وبعد رحيل الاستعمار كان (ولا يزال؟) يدمج حقوق النساء في خطابه السياسي واثقا أن هذا الانحياز يسرِّع من وتيرة الحداثة ويزيد من شعبيته. فقد كانت الرغبة متقدة في اللحاق بالغرب- ولو شكلياً- من ناحية إرساء دعائم دولة مدنية حديثة. بالطبع لم يتناول هؤلاء الحكام سوى حقوق المواطنة المتعلقة بالمجال العام مثل العمل والأجور المتساوية والصحة والتعليم، أي تلك الحقوق التي لا تثير الجدل. كان ذلك كافيا ليبدأ الحفر بشكل أعمق في قضية المرأة والتي كان الخطاب الديني يقف لها دائما بالمرصاد، وهكذا وعبر الجدل بين خطاب نسوي وخطاب يميني تبلورت رؤية الخطاب النسوي وتغلغلت في مجالات العلوم الإنسانية. السؤال المُلحّ الآن: أين تبخرت كل تلك الأفكار التي كانت مدعومة بفعل وقرار سياسي ونهضة مجتمعية وفكرية؟ كيف وقع انقطاع كامل ومباغت ليحل محل تلك الأفكار مفردات لا يُمكنها أن تشكل الحد الأدنى لأي خطاب؟

في زمن الاستهلاك السريع للأفكار كما يسميه بورديو، تم تفريغ قضية المرأة من بعدها السياسي، وتحول الأمر إلى أشكال زينة يوظفها الخطاب المؤسسي السلطوي كما يناسبه. لا أعرف تحديدا متى تلاشى الخطاب النسوي المعرفي، هل كان مع الحصار الأميركي على العراق، والذي دفع صدام إلى إصدار قانون منع النساء دون الأربعين من السفر بمفردهن؟ أم كان مع مشاهدة سقوط بغداد على شاشات التلفزيون أم كان مع احتفاء العالم العربي بدخول الأميركيين إلى أفغانستان؟ أم وقع ذلك مع لحظة نيوليبرالية تحولت فيها الحركات السياسية إلى منظمات غير حكومية تعتمد على التمويل؟ من الصعب الإمساك بنقطة محددة، لكن الأكيد أن تصاعد الأزمات واشتعال الحروب في المنطقة دائما ما أدى إلى إعادة إحكام القبضة على النساء بوصفهن يمثلن مؤشرا على الهوية الثقافية. هكذا تدفع النساء ثمن الحروب والأزمات مضاعفا ليكون مقدم القرن الحادي والعشرين بمثابة إسدال ستار حديدي على كل المعرفة التي أُنتجت في القرن الذي سبقه ونبدأ من الصفر.

ولأن الإنسان لا ينزل النهر مرتين فقد جاء الجدال في لحظة ما بعد الحداثة قبيحا، سطحيا ومبتذلا. تم تأطير قضية المرأة- إذا جاز تسميتها قضية في هذا السياق- في حرية المظهر الخارجي للنساء وكل ما يترتب عليه من سلوك. بل أصبح مبررا للعقاب بشكل مباشر تمارسه الأسرة النووية بتفان وإخلاص أو في شكل تعد على الجسد في المجال العام، ووجد هذا العقاب القبول لدى الكثيرين، سواء كانوا رجالا أم نساء. أما على مواقع التواصل الاجتماعي فقد تحولت قضية المرأة في بعدها النسوي والسياسي إلى طرفة (مبتذلة أيضا) يتم تداولها عبر اللعب بالألفاظ أو الصور. أما على مستوى الإنتاج الثقافي فقد عدنا إلى الخلف كثيرا وعاد مصطلح “صورة المرأة” في الرواية يتصدر المقالات، مع عدم إدراك كتاب هذه المقالات والأبحاث أن النظر إلى الصورة بوصفها إيجابية أو سلبية هو بمثابة عودة إلى زمن الواقعية الاشتراكية (بشكل مشوه بالطبع) في النقد والتأليف. بالإضافة إلى أن هذه الكتابات “النقدية” تساهم في تفريغ الخطاب النقدي من مضمونه وتحوله إلى أداة احتفالية لا يهتم بها القارئ بشكل عام.

كلما يزداد طحن الحروب، كلما يُجرب الغرب في بلداننا سلاحا جديدا اندفعنا إلى تسطيح البعد النسوي ودفعه إلى الهامش بوصفه ترفا، وانتشرت تلك الهيستيريا في العالم العربي بدرجات متفاوتة. كانت قضية الهوية من ناحية تشكلها والحفاظ عليها تشغل الساحة الثقافية في القرن العشرين، وهو أمر مفهوم لبلدان خرجت من عباءة سيطرة الاستعمار، ومع تغير اللحظة بشكل كامل انصب الاهتمام الآن على النساء. حلت النساء محل الهوية، فأصبحن هن الهوية، وبدا أن عدم إحكام السيطرة عليهن لهو بمثابة فقدان للهوية، وكأن الهوية مفهوم ثابت أبدي لا يتغير. لا عجب أن تسعى كل سلطة جديدة إلى السيطرة على النساء، ومع تبخر الأفكار لم يبق سوى سلطة الخطاب الديني الذي اشتد عوده بشكل ملحوظ، فهو خطاب يرهب ويهدد ويمنح ويمنع. إنها اللحظة القبيحة التي يختلط فيها النفاق البرجوازي بخطاب ديني سطحي ويندمجان معا بكل الانسجام في أحضان سلطة غاشمة (لكنها بائسة) في معظم الأحوال. تتفق هذه الأطراف الثلاثة على خطاب محدد حول النساء، يحمل في ظاهره الوعظ والإرشاد وفي باطنه الرغبة في التملك وضيق الأفق والجمود الفكري. كيف يُمكن فضّ هذا الاشتباك إذا كانت النساء أنفسهن يستوعبن الخطاب ويُعدن إنتاجه؟

*كاتبة من مصر

ضفة ثالثة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى