صفحات الحوار

النصّ هو الذي يختار المترجم

أعلنت دار التكوين في سوريا عن إصدارها لـ “الأعمال الأدبيّة” لليورنادو دافنشي، وهذا هو نص الإعلان:

صدرت عن دار التكوين في دمشق الكتابات الأدبية لأشهر فناني النهضة الإيطاليين والعالميين على الإطلاق “ليوناردو دافنشي”، وهي تضم جميع الكتابات والملاحظات والمسوَّدات التي كتبها ليوناردو وجمَّعتها دور النشر الإيطالية والعالميَّة تحت تسميات عديدة مثل “كتابات أدبيَّة”، “مسوَّدات ليوناردو دافنشي”، “كتاب الملاحظات لليوناردو دافنشي”، في حين أصدرتها دار التكوين تحت عنوان “الأعمال الأدبيَّة”.

الكتاب الصادر في 256 صفحة من القطع المتوسِّط، والذي يُعَدُّ إضافةً قيِّمةً وهامَّة إلى المكتبة العربية، كان قد أنجز ترجمته عن الإيطالية وهيأ حواشيه كاملةً الشاعر السُّوري المعروف “أمارجي”، ما أضفى على الكتاب لغةً شعريَّةً رفيعة الطراز بقدر ما هي نابضة وعميقة النفاذ في روح القارئ. وقد أرفِق الكتاب في نهايته بملحقٍ يضمُّ بعض اللوحات والمخططات من أعمال ليوناردو بغية تسليط المزيد من الضوء على شخصية هذا الفنان والمهندس المخترع.

يقسم الكتاب إلى 19 فصلاً، هذه عناوينها: شذرات فكريَّة، خُرافات، مؤلَّفات رمزيَّة، نبوءات، طُرَف، استهلالات، تُحفتان وكشفٌ واحد، كلامٌ ضدَّ الاختزاليين، ضدَّ العرَّاف والخيميائي، حِجاجٌ “مع” و”ضدَّ” قوانين الطَّبيعة، مُسَوَّدةُ إيضاحات، التَّحليقة الأوَّلى، الطُّوفان، كهف، الوحشُ البحريُّ، مَزار فينوس، المارد، إلى الدَّفترْدار السُّوري، رسائل، متفرِّقات ونسوخ.

في “التَّحليقة الأولى” نقرأ: ” لَسوفَ يتَّخذ الطَّائرُ الكبيرُ تحليقته الأولى على متنِ بجعتِه العظيمة، مالئاً الكونَ دهشةً، وشاغلاً الكتبَ جميعاً بشهرتِه، ولَيرجعنَّ بالمجد الأبديِّ إلى العشِّ الذي وُلِد فيه”. وفي فصل “نبوءات”، في حديثه عن وحشيَّة الإنسان نقرأ: ” لَتَرَوُنَّ على وجه الأرضِ حيواناتٍ تكونُ على الدَّوامِ في قتالٍ مع بعضها، وكلُّ طرفٍ منها يُمنى بخساراتٍ كبيرةٍ ومَنِيَّاتٍ ثقيلةٍ متواصلة. هؤلاء، لن يكون ثمَّةَ نهايةٌ لشرورِهم؛ بأطرافِهم القويَّة سوفَ تُسَوَّى بالأرضِ أشجارٌ لا تُحصى من غاباتِ الكون الشَّاسعة؛ وعندما يُتخَمون بالطَّعام سوف يَنشدون إشباع رغباتِهم الأُخَر بِمنحِ الموتِ والحزن والشَّقاء والخوف والزَّوال لكلِّ ذي روح؛ ولِغطرستهم التي لا حدَّ لها سوف يرغبون بالصُّعود نحو السَّماء، غيرَ أنَّ ثقل أطرافِهم المُفرِط سوف يُبقيهم في الأسفل. لن يبقى شيءٌ فوق الأرض، ولا تحتَ الأرضِ، أو تحتَ المياه، إلا وسوفَ يُضطهَد، يُنتَهَكُ نظامُه ويُخَرَّب، وما هو مُلكٌ لهذا البلد يُقصَى إلى ذلك البلد؛ وتكونُ أجسامُهم مقابرَ ومعابرَ لجميعِ قتلاهم”.

بمناسبة صدور هذا الكتاب أجرينا حواراً مع الشاعر والمترجم السوري أمارجي (رامي يونس). أمارجي صدرت له حتى الآن ثلاث مجموعات شعرية، والكثير من الترجمات عن الإيطالية، وهو أستاذ جامعيّ متخصّص بالعلوم الزراعية، ومقيم في سوريا.

النص هو الذي يختار المترجم

(حوار مع الشاعر والمترجم السوري أمارجي)

أسامة إسبر: ما الذي جعلك تختار ليوناردو دافنشي كي تترجمه إلى العربية؟ ما القيمة التي تضيفها ترجمة كتاب كهذا إلى اللغة العربية ؟

 أمارجي: ما يعنيني في المقام الأوَّل حيالَ التَّرجمة هو شِعريَّة النَّص وتفرُّدُه، وإذا ما كان هذا النَّص سينمِّي الدَّهشة لدى القارئ، على حدِّ تعبير بول فاليري، أم لا؛ ولكنَّ هذه الأشياء هي في النِّهاية مجرَّد معايير متحرِّكة وغير ثابتة، وباستطرافٍ أقول: إنَّها معايير متفلِّتة في الزَّمان والمكان، وبالتالي فأنا لا أؤمن بفكرة أنَّ المترجم، وأقصد هنا تحديداً المترجم- الشَّاعر، هو الذي يختار النَّص، بل أعتقد، وبقوَّة، بأنَّ النَّصَّ هو الذي يختاره. أحبُّ أن أسمِّي لحظة الانتقاء المقلوب تلك بـ “اليقظة الإلهية لِلامبالاة النَّص”، وهذه اليقظة تحدث في الزَّمان والمكان المناسبَين من منظور النَّص الغافل نفسِه، لا من منظور المترجم المتيقِّظ، ولا تحدث إلا عندما يتعثَّر النَّصُّ صدفةً بمترجمه المنتظَر، فينبعث إذَّاكَ بشمسٍ جديدة، إلى لغةٍ جديدة، منتشياً بخميرةِ الانتظار. أمَّا المترجم- الشَّاعر فليس عليه إلا أن يبقي على أحصنة الحدس الشِّعري طليقة العنان، تتشمَّمُ عشبةَ النَّصِّ الآخَر، العشبةَ الأكثر سرِّيَّة، وراءَ بذرة الشِّعر.

أمَّا بالنسبة إلى الشق الثاني من السؤال، فالصُّورة قاتمة، ذلك أنَّ ليل العقل العربيِّ يبتلع شمسَ كلِّ نصٍّ جديد، ولهذا لا يمكنني الحديث عن قيمةٍ مضافةٍ إلى لغةٍ تعاني أزمة فكرٍ وأزمة قارئ، مهما تكن قيمة النَّصِّ عظيمةً في حدِّ ذاتها. الأمر متروكٌ إذاً للوقت ليقرِّر ذلك، لا سيَّما وأنَّ ليلنا العربيَّ هذا هو ليلٌ متعدِّد الطَّبقات، وأيُّ عملٍ بالتالي سوف يحتاج إلى ولاداتٍ عديدة حتَّى يحقِّق حضوره الكلِّي والمتكامل، وحينئذٍ يمكن أن نحكم.

أسامة إسبر: ما الصعوبات التي واجهتك في ترجمة هذا العمل؟

أمارجي: لعلَّ الصُّعوبة تكمن في إمكان تحقيق شرطَي الإتقان والجماليَّة معاً، أي في إمكان “نقل الدَّهشة” من ثقافةٍ وظرفٍ تاريخيٍّ معيَّنَين إلى ثقافةٍ مختلفة وظرفٍ تاريخيٍّ مختلف. في حالة ليوناردو دافنشي التحدِّي أكبر، فبعضُ عباراته مفتوحٌ على التأويل، وبعضها يعتمد نظاماً تشفيريَّاً خاصَّاً ابتكره ليوناردو نفسُه، وبعضها الآخر يعتمد التلاعب بالكلمات، وهذا طبيعيٌّ عند مبدعٍ تزاوجَ لديه الفكرُ بالشِّعر والفنُّ بالعلم، حيث يجد المترجم نفسَه حيالَ نصٍّ لا هو علميٌّ بالمطلق فيحتِّمُ عليه التَّرجمة الحرفيَّة، ولا هو شعريٌّ بالمطلق فيحتِّمُ عليه التصرُّفَ الجمالي.

أسامة إسبر: ما هي رؤيتك للترجمة، ولدورها في خلق تفاعل حضاري، بمعنى بناء الجسور بين الثقافات؟

أمارجي: لا شكَّ في أنَّ التَّرجمة هي الحامل اللغويُّ للحوار بين الذَّات والآخر، ولا يخفى أنَّ هذا الحوار بات ضروريَّاً، بل ومصيريَّاً لبقاء الجنس البشريِّ الواقف على حافَّة الفناء واضمحلال الهويَّة؛ فمن شأن التَّرجمة كناهضٍ بأبجديَّات التَّواصل والتَّفاعل الثقافي مع الآخر واكتساب المعرفة منه أن تكون مشعل سلامٍ واحترامٍ متبادل بين الشُّعوب والأمم، بعد أن وظِّفتْ هي نفسُها، ولزمنٍ طويلٍ، كأداةٍ لأجنداتٍ سياسيَّة فكريَّة تخدم فكرة الإلغاء بدلَ الإغناء. بتعبيرٍ آخر، تبدو قضيَّة التَّرجمة أكثر إلحاحاً في زمن العولمة، فإذا كانت العولمة لا تنشئ حوارَها الكونيَّ إلا مقروناً بتذويب الهويَّات وامِّحاء الخصوصيَّة الثقافيَّة، فالتَّرجمة يمكن لها أن تنشئ ذلك الحوار دون الإخلال بهويَّة الذَّات أو هويَّة الآخر، بل ويمكن، فوق ذلك، النَّظر إلى التَّرجمة على أنَّها العصا السِّحريَّة لإعادة تثبيت الهويَّات وصونِ اختلافها.

أسامة إسبر: هناك روايات إيطالية تقول إن دافنشي من أصل عربي، من ناحية الأم، هل ترى مؤثرات عربية في أعماله؟

أمارجي: صحيح، فبعد دراسات مستفيضة استمرَّت ثلاث سنوات يرجِّح الأنثروبولوجيُّون أن تكون والدة دافنشي من أصول شرق أوسطيَّة؛ وثمَّة العديد من المؤثِّرات العربيَّة في كتابات دافنشي، لعلَّ أبرزها ما نجده في رسالته إلى الدَّفتردار السُّوري، حيث يستهلُّ تلك الرِّسالة بتمجيد الإيمان والإقرار به، على طريقة استهلال الكتب والرسائل بالبسملة والحمدلة في الإسلام، كما أننا نلمح في هذه الرِّسالة إشارةً إلى سورة الزَّلزلة. من ناحيةٍ أخرى، يبدو موقف دافنشي من الخمر منسجماً في غايته مع الموقف الإسلامي رغم اختلافه عنه في الرؤيا، ففي إحدى حكايات دافنشي، والتي تتناول موضوع الخمرة، يوحي الإله جوبيتر للنَّبي محمَّد بأن يشرب الخمر، فيصعد الخمر عبر الرُّوح إلى عقله، فيدنِّس فكره ويورثه الجنون، وما إن يثوب النبيُّ إلى رشده حتَّى يضع تشريعاً بتحريم الخمرة. مثالٌ آخر نجده في تأثر دافنشي، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، بمؤلَّفات العرب ككتاب “القانون في طب” لابن سينا، وغير ذلك.

أسامة إسبر: ما هي مشاريعك الحالية؟ أعرف أنك ترجمت الأعمال الكاملة للشاعر الإيطالي دينو كامبانا الغني عن الذكر، ما الأسباب التي دفعتك إلى اختيار هذا الشاعر بالتحديد؟

أمارجي: الشِّعر مشروع حياة متواصل، مشروع خلاص؛ هو ليس مشروعاً آنيَّاً أو مستقبليَّاً؛ وحياةٌ واحدة لا تكفي لإنجاز المهمَّة، لكن إحدى الثمار التي ستؤتي أكلَها قريباً تتمثَّل بصدور عمل شعري مشترك هو عبارة عن حواريَّة حُب شعريَّة بيني وبين الشاعرة الإيطاليَّة ماريَّا غراتسيا كالاندرونِه، سوف تصدر باللغتين العربيَّة والإيطاليَّة، وقد شرَّفنا أدونيس بالتقديم لهذا العمل. بالنِّسبة إلى دينو كامبانا، لا أعرف لماذا لم يُتَرجَم هذا الشَّاعر إلى العربيَّة من قبل؛ ما أعرفه هو أنَّ “اليقظة الإلهيَّة لِلامبالاة نصِّه” قد حدثت بين يديَّ. ربَّما لأنَّني مثله، شاعرٌ ملعونٌ وسارقُ نار، كنتُ أنا المختار لحمل تلك الرِّسالة.

أسامة إسبر: في ديوانك الأخير “مِلاحاتٌ إيروسية” ثمة اشتغال على اللغة ودفعها في مدارات نشوة واختطاف، ثمة صهر لعناصر أسطورية وأولية متوسطية واستشفاف لأبعاد ماورائية، ما الذي تهدف إليه من وراء العمل على اللغة وتفجير مخزونها التقليدي؟

أمارجي: لا يكون الشِّعر شعراً إن لم يغيِّر في نظام الأشياء، ويخلخل العوالم السَّابقة والمتكرِّرة؛ بل وأبعد من ذلك: على كلِّ نصٍّ شعريٍّ أن يحمل في ذاته بذور انفجاره وانقلابه على نفسه. كثيرٌ هم الشُّعراء الذين نظَّروا لتثوير اللغة وتفجير الموروث اللغوي، ولكنَّهم في انشغالهم بالاشتغال على التنظير نسوا، أو فشلوا في تحقيق تلك الثورة في شعرِهم، إلا سطحيَّاً وفي مستوى القشور غالباً. أعرف أنَّ كلَّ خرقٍ للاعتياد اللغوي وتجاوزٍ للمضامين الشِّعريَّة المعهودة ليس من دون ثمن، وبالنِّسبة لي، لمستُ ذلك الثمن في حيرة القارئ وتردُّد النَّاقد أمام نصِّي الشِّعري المتحدِّي لهما، وقد ألمح أدونيس، وهو من المتحمِّسين لقصيدتي، إلى ذلك عندما قال لي “لا يحتاج شعرُك إلى شهادة أحد، ولكنَّه يحتاج إلى من يفهمه”. في النهاية لستُ مستعدَّاً لمقايضة مجدي الشِّعريِّ بالشُّهرة، ولن أبطلَ مفجِّراً لطاقاتِ اللغة وموقظاً لقواها الخفيَّة مهما يكن الثَّمن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى