صفحات الرأي

النضال السلميّ: الطريق إلى الحريّة


إلى المتمرّدين السلميّين ما بين الأزرقَين!

تؤكّد الانتفاضاتُ السلميّة العربيّة أنّ الصدور العارية قادرةٌ على إسقاط الأنظمة، وأنّ للورود قوّةً تتخطّى كلّ البنادق. إنّ إصرار الشعوب القابعة ما بين الأزرقيْن على استخدام النضال السلميّ في مواجهة الديكتاتوريّة يُعيد مسألةَ المقاومة السلميّة إلى الواجهة، ويُبرز قدرتَها على تفكيك الواقع القمعيّ في منطقةٍ كثيرًا ما أتى التغييرُ فيها عبر الدبّابات. لهذا، وغيره، نعمل على تغيير صورة النضال السلميّ النمطيّة السائدة: فهو ليس استسلامًا للقويّ، بل أمرٌ تلزمه شجاعةٌ وإصرارٌ يفوقان مواجهةَ الرصاص بالرصاص.

النضال السلميّ: تاريخ طويل

تختزن الذاكرةُ الإنسانيّة مشاهدَ كثيرةً من النضال السلميّ ضدّ القمع. فمن ينسى المواطنَ الصينيَّ الذي واجه الدبّاباتِ في ساحة تيامن في بكين؟ ومن ينسى الطفلَ الفلسطينيّ الذي لاحق، وفي يده حجرٌ صغير، دبّابةً إسرائيليّة؟ لكنّ ذاكرتنا اليوم تنفتح على مشاهدَ حيّةٍ عربيّةٍ جديدةٍ، سيكون لها، هي الأخرى، موقعُها في تاريخ نضال الشعوب.

يعود تاريخُ النضال السلميّ إلى قرون طويلة. وقد تكون أوّل حركة احتجاجيّة سلميّة عام 494 ق.م، عندما أوقف العامّةُ تعاونَهم مع أسيادهم الرومان النبلاء. أما القرن العشرون فحافلٌ بالحركات السلميّة التي راكمتْ تجربةً إنسانيّةً هائلةً لمقاومة القهر والاحتلال.

تُعتبر الثورة الروسيّة عام 1905 أبرزَ مثالٍ على تجارب النضال اللاعنفيّ أوائل القرن العشرين. وقد قام الصينيون في الأعوام 1908 و1915 و1919 بمقاطعة المنتجات اليابانيّة احتجاجًا على احتلال اليابان لهم. واستخدم الألمانُ المقاومة اللاعنفيّة عام 1923 ضدّ الاحتلال الفرنسيّ والبلجيكيّ لمنطقة Ruhr. وحفلت الفترة 1940 ـ 1945 بمقاومات الشعوب النروجيّة والدنماركيّة والهولنديّة السلميّة ضدّ الاحتلال النازيّ. كما استُخدم النضال السلميّ في ربيع 1944 للإطاحة بالأنظمة الدكتاتوريّة في السلفادور وغواتيمالا. واستطاع التشيكيون والسلوفاكيون، عاميْ 1968 و1969، الحدّ من السيطرة السوفياتيّة ثمانية أشهر برفضهم التعاون مع الاحتلال وبغير ذلك من أساليب المواجهة اللاعنفيّة.

منذ العام 1980 استخدمتْ حركة “تضامن” في بولندا الإضرابات لإنشاء نقابات عمّاليّة وقانونيّة وحرّة، غير أنّ نضالها انتهى مع سقوط النظام الشيوعيّ عام 1989. وفي عام 1986، سقط نظام ماركوس الدكتاتوريّ في الفيليبين تحت ضربات الانتفاضة الشعبيّة السلميّة. كما استطاعت المقاومة الشعبيّة والمظاهرات السلميّة بين الأعوام 1950 و1990 تقويض سياسات الحكم العنصريّ في جنوب أفريقيا.

التجربة الغانديّة

تُعتبر التجربة الغانديّة من أهمّ التجارب اللاعنفيّة في مقاومة الاحتلال، ويشكّل غاندي حاليًّا أيقونةً للمؤمنين باللاعنف طريقًا للحريّة حتى وصف البعضُ الانتفاضاتِ العربيّةَ بـ “الغانديّة الجديدة” لارتباطها الوثيق بمفاهيمه وأساليبه النضاليّة.

من بين المعارك المهمّة الكثيرة التي خاضها غاندي ضدّ الاحتلال البريطانيّ “حملةُ الملح،” وذلك لرمزيّتها في بلورة استراتيجيّة التصعيد السلميّ. فلقد كان غاندي مؤمنًا بأنّ الهنود لا يسعُهم “تمنّي” تحسين أوضاعهم، بل يُفترض بهم العملُ على تحسينها عبر محاربة نظام الاستعمار الانكليزيّ. وكخطوةٍ أولى، قرّر الاعتراضَ على قانونٍ استعماريّ يُجبرهم على دفع ضريبةٍ كلّما استخرجوا ملحَ أرضهم ــ وهو ما أذهل قياداتِ حزب المؤتمر (بزعامة غاندي) ودفع سلطاتِ الاحتلال إلى السخرية منه. لكنّ الجميع سُرعان ما اضطرّوا إلى الإقرار بفعّاليّته حين انتفض سلميًّا عشراتُ آلاف الهنود إلى أنْ تكلّلتْ جهودُهم بالنجاح، فوقّع غاندي ونائبُ الملك معاهدةَ إلغاء ضريبة الملح. وكانت حركة المقاومة السلميّة هذه أولَ خطوةٍ أساسيّةٍ في طريق استقلال الهند.

إذن، اعتمد غاندي في البدء إستراتيجيّةَ تحقيق أهدافٍ صغيرةٍ عوضًا من وضع أهدافٍ كبيرةٍ يصعب تحقيقُها من المعركة الأولى. وبانتصاره الرمزيّ على الاحتلال عبر إلغاء ضريبة الملح، كسب ثقةَ الهنود وشكّل رصيدًا ساهم في انتشارٍ أوسع للحركة الاحتجاجيّة في أوساطهم. وهذا ما يُمكن أن يُطلق عليه “إستراتيجيّة التصعيد السلميّ.”

التجربة اللوثريّة

يشكّل نضالُ حركة الحقوق المدنيّة في الولايات المتحدة ضدّ التمييز العنصريّ تجاه الأميركيين الأفارقة، بقيادة القسّ مارتن لوثر كينغ، نموذجًا حديثًا نسبيًّا تحتذي به الحركاتُ السلميّةُ حول العالم.

قدِم كينغ مونتغمري عام 1954، فوجد أنّ الأفارقة الأميركيين يعانون تمييزًا عنصريًّا في نظام الباصات: فقد كانت المقاعدُ الخلفيّة تُخصَّص لذوي البشرة السوداء، في حين يحتلّ ذوو البشرة البيضاء المقاعدَ الأماميّة. وكان من حقّ سائق الحافلة أن يأمر الركّابَ الأفارقة بترك مقاعدهم لنظرائهم البِيض عند الحاجة. ورافقتْ هذا النظامَ العنصريَّ تصرّفاتٌ عدائيّة ومهينة، مثل الاعتداء والسخرية، بسبب لون بشرة المعتدى عليهم.

اختار كينغ أن يبدأ حملتَه الاحتجاجيّة من هناك، فقاطعتِ الشركةَ المالكة لهذه الباصات عامًا كاملاً حتى كادت تفلس لأنّ 70% من ركّاب هذه الباصات هُم من الأفارقة الأميركيين. ثم طلبتْ أربعُ مواطنات من أصولٍ أفريقيّةٍ إلى المحكمة الاتحاديّة إلغاءَ التمييز في حافلات مونتغمري، فحكمت المحكمة بعدم قانونيّة هذه التفرقة العنصريّة. عندها، طلب كينغ من الأفارقة الأميركيين أن يعودوا إلى استخدام الحافلات، غير أنه أكّد أن حركة الاحتجاج لن تكتفي بإزالة التمييز العنصريّ في وسائل النقل بل ستعمل على إزالته من المجتمع بأسره. وهذا، نسبيًّا، ما حصل في ما بعد.

اللاعنف: بين مثالية كينغ وواقعيّة غاندي

أكثرُ مستخدمي مصطلح “اللاعنف المطلق” هم مناهضو مفهوم اللاعنف، الذين يعتبرونه غيرَ فعّال في نيل الحريّة. هنا يُطرح السؤالُ التقليديّ على اللاعنفيّ: “ماذا تفعل إذا حاول مُسلّحٌ قتلكَ أو قتْلَ أحد أفراد عائلتك؟” تَصعُب الإجابةُ طبعًا، لكنّ سؤالاً افتراضيًّا كهذا لن يلقى سوى إجابةٍ افتراضيّة ألا وهي: إقناعُ المعتدي بالتوقّف عن الاعتداء، ولكن الدفاع عن النفس أيضًا.

ثمة وجهتان للتعامل مع مفهوم اللاعنف: مثاليّة كينغ الواهية، وواقعيّة غاندي الذي يقول “بما أنّنا لسنا أرواحًا طاهرةً، فإنّ اللاعنف الكامل نظريّ تمامًا كخط أقليدس المستقيم. منذ أن وُجد الإنسانُ في المجتمع، وهو لا يمكنه إلاّ أن يكون متواطئًا مع بعض أشكال العنف.”

في 20/9/1958، قامت امرأةٌ بطعن كينغ. أثناء طعنه، لم يدفعْها حارسُه الشخصيّ بعيدًا، ولم يواجهْها كينغ بأيّة حركة دفاعيّة. لربّما فضّل أن تبقى صورتُه في أذهان الناس صورةَ رسولٍ كامل السلميّة، لا يَستخدم العنفَ ولو في حدّه الأدنى. لكنّ هذا السلوك، في رأيي، يحمل بدائيّةً ومثاليّةً قد تضرّان بالنضال الذي يخوضه: فلو أودت الطعنةُ بحياته لخسرتْ حركةُ الحقوق المدنيّة قائدَها وحكيمَها. من هنا وجب تخطّي مفهوم “اللاعنف المطلق” هذا، خصوصًا أنه يحوِّل المناضلين السلميين إلى أشخاص يفتقرون إلى الصلابة في معركتهم ضدّ النظام أو الاحتلال.

في المقابل، قال غاندي في كتابه كلّ البشر إخوة: “عندما يكون علينا أن نختارَ بين الجبن والعنف، يجب أن نختار الحلّ العنفيّ. لمّا سألني ابني البكرُ عمّا كان يُفترض به فعلُه عندما شهد محاولةَ الاغتيال التي أوشكتْ أن تودي بحياتي سنة 1908… أجبتُه أنه كان من واجبه الدفاعُ عني، وبالعنف إذا لزم الأمر.” وفي مكانٍ آخر من الكتاب يَطرح غاندي فرضيّةً قد تصحّ في أيّ مكانٍ من العالم: “تخيّلوا مثلاً مجنونًا مسعورًا يمسك بيده سيفًا ويقتل كلَّ إنسان حيّ يصادفه في طريقه. نحن مجْبرون على الإمساك به حيًّا أو ميتًا. عندئذٍ سيعترف المجتمعُ بفضل مَن تمكّن من هذا المهووس، وسنكون كلّنا ممتنّين له لقيامه بهذه الخدمة لصالحنا.” من هذا الافتراض نَفهم أنّ اللاعنف الغانديّ (الذي أميل شخصيًّا إليه) يقطع الطريقَ على اللاعنف اللوثريّ، ويضع “اللاعنف” في إطاره الإنسانيّ وسياقه الواقعيّ.

هل تقود البنادقُ إلى الحريّة؟

الأنظمة القمعيّة تعشق لعبة العنف، وهي منحتْ نفسَها حقًّا حصريًّا في امتلاك أدوات القهر واستخدامِها. وعندما تلجأ المعارضة إلى العنف المضادّ، تجد نفسَها أمام نظامٍ يتفوّق عليها عسكريًّا بحيث تعجز، رغم شجاعة أفرادها، عن مجابهته.

أحيانًا تعمد حركاتٌ سياسيّةٌ إلى حرب العصابات في مواجهة النظام. وغالبًا ما تطول هذه الحربُ فتؤدّي إلى خسائر كبيرةٍ في الأرواح، وإلى استنزاف الطرفين معًا. لكنّ قدرة النظام على المواجهة تبقى أكبر، خصوصًا أنّ قدرة الدولة على التنظيم، بالإضافة إلى مواردها البشريّة والماديّة، أعظمُ من قدرة المعارضة ومواردها.

ومن سلبيّات حرب العصابات أيضًا أنّ النظام الدكتاتوريّ قد يزيد من قمعه للفئة التي يضطهدُها إلى حدّ الإبادة أو التطهير العرقيّ، خصوصًا في المناطق التي تحظى بثقل شعبيّ للمعارضة.

وعلى خلفيّة تأثير الأجهزة العسكريّة الثورية في القرار المركزيّ، تتعسكر الحركاتُ السياسيّة المعارضة مع الوقت، وتضعف قدرتُها المؤسّساتيّة، وتغيب عنها الديمقراطيّة. وعندما تبلغ المعارضة العنفيّة الحكمَ تدير الدولةَ بطريقةٍ عسكريّةٍ وغيرِ ديمقراطيّة ــ ومن هنا واجبُ البحث عن أساليب نضاليّة مغايرة تقاوم نشوءَ “بديلٍ” يشبه الأنظمة المستبدّة.

ثم إنّ النضال العنفيّ يقتصر على قلّةٍ قليلةٍ من الناس، قادرةٍ على شروط العمل العسكريّ وصعوباته وتحدّياته. وهذا ما يؤدّي إلى إقصاء شرائحَ واسعةٍ من المجتمع عن النضال ضد النظام القائم.

كما أنّ النضال العنفيّ يقود أحيانًا كثيرةً إلى حروبٍ أهليّة، خصوصًا أنّ الأنظمة تلعب على العصبيّات الفئويّة في المجتمع، دينيّةً أو عرقيّةً أو طائفيّةً أو غيرها، وتُحاول حرفَ الصراع ليكون صراعًا فئويًّا. وهكذا، عوض إسقاط النظام القمعيّ، يتمّ ترسيخُه عبر دوّامةٍ من العنف تُغْرق البلادَ في حروبٍ لا تنتهي.

أما الثورات العنفيّة التي نجحتْ في إسقاط أنظمة دكتاتوريّة فأشهرها في الصين وكوبا، وأدّت عادةً إلى إحلال أنظمة عسكريّة. ومثلها الانقلاباتُ العسكريّةُ في العالم العربيّ خلال نصف القرن الماضي، وهي أيضًا أرست أنظمة عسكريّة قمعيّة.

وتشير التجاربُ النضاليّة المختلفة إلى أنّ ضحايا النضال اللاعنفيّ أقلُّ بكثيرٍ من ضحايا الحروب العسكريّة التي عادةً ما تقود إلى عمليّات كرّ وفرّ بين النظام ومناهضيه. وقد تكون تجربة الثورة الليبيّة أوضحَ مثال: فضحايا الاحتجاجات السلميّة ضدّ النظام وصل إلى 2000 شخص، بينما تصاعد هذا العددُ إلى أكثر من ثلاثين ألفًا عندما تحوّلت الثورةُ إلى العنف وتدخَّلَ الناتو. وما يزيد الطينَ بلّة حجمُ الدمار الذي لحق بالمدن الليبيّة، وحوّلها إلى مدن أشباح يحكمها العسكرُ من كلا الطرفين، النظام والمعارضة، قبل أن تنتصر “الشرعيّة” الجديدة.

عن قوّة الأنظمة وضعفها

يعتمد النظامُ في وجوده وقوّته واستمراره على تعاون الناس معه، اقتصاديًّا واجتماعيًّا. وتتقلّص قدرتُه على البطش بازدياد المشاركين في الحركة الاحتجاجيّة وبتلاشي خوفهم ـ فاستخدامُ العنف ضدّهم هو أقصى ما يُمكن أن يعاقبهم به. ويمكن تصنيفُ أساليب النضال اللاعنفيّ ضمن ثلاث خانات: 1) الاحتجاج والإقناع. 2) المقاطعة واللاتعاون. 3) التدخّل.

الاحتجاج والإقناع اللاعنفيّان يأتيان على شكل تظاهراتٍ واستعراضاتٍ ومسيراتٍ واعتكافات. أما اللاتعاون فاجتماعيّ، واقتصاديّ، وسياسيّ. وأما التدخّل اللاعنفيّ، فيشمل أساليبَ نفسيّة وجسديّة واجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة، مثل الإضراب عن الطعام واحتلال مباني النظام وإنشاء حكومة موازية بديلة عن حكومته. وقد يكون “التحدّي السياسيّ” من الخطوات الأولى التي تستخدمها الحركاتُ المدنيّة السلميّة لتحقيق أهدافها.

التحدّي السياسيّ معركةٌ تستخدم وسائلَ سلميّةً يَضْعف أمامها النظامُ. فلا شكّ في أنّ تصاعد حركة النضال السلميّ، وتصاعدَ مواجهة النظام العنفيّة لها، سيؤثّران في البنى المكوِّنة للنظام: إذ قد يرفض عددٌ من العناصر الانصياعَ إلى الـ “أوامر العليا،” وقد يستقيل عددٌ من الضبّاط والعناصر، وقد تنضمّ مجموعاتٌ أمنيّةٌ (سابقًا) إلى المدنيين في ساحات النضال اللاعنفيّ. وكلّ هذا يؤدّي إلى زعزعة استقرار النظام ويسرّع في انهيار أدواته القمعيّة المباشرة.

تتطلّب الأساليبُ اللاعنفيّة أن يقوم الناسُ بأعمالٍ لم يعتدوها في حياتهم اليوميّة، مثل توزيع المناشير وتشغيل مطابع سريّة والإضراب عن الطعام أو الجلوس في الشوارع تعطيلاً للحركة اليوميّة، وذلك تعبيرًا عن اللاتعاون مع النظام القائم. وقد يتطلّب النضالُ اللاعنفيّ من الناس أن يمارسوا حياتهم الطبيعيّة بطرقٍ مختلفة: كأن يُطلب إليهم أن يقصدوا أماكنَ عملهم عوضًا من الإضراب، ولكنْ شرط أن يتعمّدوا العملَ ببطءٍ وبفعّاليّة أقلّ من العادة.

والحال أنّ قدرة الناس على القيام بالنشاطات الاحتجاجيّة بسهولة تزيد من نسبة المنخرطين في النضال التحرّريّ السلميّ، على عكس النضال العنفيّ الذي يقتصر ـ كما ذكرنا ـ على شريحة محدّدة قادرة عادةً على تحمّل أعباء العمل العسكريّ.

الثورة المصريّة نموذجًا

قد تكون الثورة المصريّة في كانون الثاني 2011 أبرزَ نموذج حيّ عن نجاح إستراتيجيّة سحب الشرعيّة ورفض التعاون مع النظام. فقد احتلّ جزءٌ كبيرٌ من المصريين ميدانَ التحرير في القاهرة، ومكث فيه نحو مليونيْ شخص أسبوعين تقريبًا رافضين الخروجَ منه قبل تحقيق مطالبهم، على الرغم من حظر التجوّل والتجمّعات والقمع والقتل على أيدي أجهزة الأمن وميليشيات الحزب الوطنيّ الحاكم.  ومع استمرار التظاهرات والإضرابات في مختلف المحافظات والمدن المصريّة، شُلّ الاقتصادُ وحركةُ المواصلات، خصوصًا مع انخراط النقابات في الحركة الاحتجاجيّة. وخلال أسبوعين، انهارت الأجهزةُ الأمنيّة، ما دفع بالنظام إلى اللجوء إلى مأجورين للتنكيل بالمحتجّين ولإجبارِهم على اللجوء إلى العنف. لكنّ انضباط هؤلاء كانت كبيرة، وعوضًا عن الانخراط في العنف المضادّ فإنهم عملوا على تعرية النظام عبر إلقاء القبض على عدد كبير من المأجورين (البلطجيّة)، فصوّروا اعترافاتِهم وبثّوها على شبكة الإنترنت.

*ولكنْ هل يُعتبر احتلالُ مباني النظام وحرقها عملاً سلميًّا؟ إنّ سقوط المباني في يد المحتجّين يعني عجزَ النظام عن حماية ذاته، وبدءَ فقدانه لشرعيّته أمام ضربات الحركة الاحتجاجيّة؛ كما أنّ سقوطها، خصوصًا تلك التي تحمل رمزيّة كبيرةً كمجلس النوّاب والوزراء و القصر الجمهوريّ، يحدّ من قدرة النظام على التحرّك، ما يُسرِّع في انهياره. وأخيرًا فإنّ سقوطها لا يصنَّف في خانة العنف لأنّ المحتجّين حرصوا على إخلائها من موظّفيها كي لا يتأذّى أحد.

*وماذا عن “موقعة الجمل”؟ أهي عملٌ لاعنفيّ؟ فلنذكرْ أنّ مجموعاتٍ من المرتزقة ورجال الأمن ركبوا الجِمال، وهجموا، وبأيديهم السياطُ، على المحتجّين السلميين في ميدان التحرير في القاهرة، موقعين عشراتِ الجرحى. لم يكن أمام المحتجّين إلا المقاومة بأيديهم العارية، فانتظموا في مجموعاتٍ من خمسة أشخاص أو أكثر تستهدف جملاً معيّنًا لِتُنزل البلطجيّ عنه فتضربه وتعتقله. وهكذا استطاعوا وضعَ حدّ للمرتزقة من دون أن يقتلوا أيًّا منهم.

إنّ “العنف المحدود جدًّا” قد يكون مفروضًا أحيانًا. ولكنْ ينبغي عدمُ تضمين العنف في الإستراتيجيّة العامّة للنضال، ولا في الوسائل المحدّدة مسبّقًا ــ فلذلك تأثيرٌ سلبيٌّ على مسار الحركة الاحتجاجيّة.

الانتفاضة السوريّة: كُرة الثلج السلميّة

في سوريا، وفي محافظة درعا تحديدًا، أدّى عنفُ النظام إلى ارتفاع المحتجّين إلى عشرات الآلاف، وإلى استقالة نائبيْن عن المحافظة من مجلس الشعب، وعددٍ من أعضاء مجلس المحافظة. هكذا، خسر النظامُ إحدى المحافظات نتيجةً لأسلوب تعاطيه مع المحتجّين، وهو أسلوبٌ يُقابله إصرارٌ شعبيٌّ على سلميّة الاحتجاجات بشكل عامّ.

فمنذ اللحظة الأولى لم تغب “السلميّة” عن التحرّكات، وكان شعار “سلميّة.. سلميّة” من الشعارات الأبرز في أوّل مسيرةٍ عفويّةٍ في دمشق. وهذا أدّى إلى انخراط فئاتٍ مختلفةٍ في الانتفاضة. وقد يكون مشهدُ مواجهة المحتجّين في درعا للدبّابات بصدورهم العارية خيرَ معبِّرٍ عن سلميّة حركة الاحتجاجات بشكل عامّ.

في النموذج السوريّ، نلحظ أنّ الجدل المتعلّق بسلميّة الانتفاضة أو عدم سلميّتها قد أصبح هو الأساسَ في تأييد الانتفاضة أو عدمه. وكان النظام قد عمد منذ اللحظة الأولى إلى اتّهام المحتجّين بالتسلّح ومحاولةِ النيل من الأمن الوطنيّ. وهذا ما دفع المحتجّين إلى المزيد من التمسّك بشعار “سلميّة.. سلميّة.” وقد تكون العبارة التي أطلقها أحدُ المحتجّين، “سلاحُنا في وجه النظام هو هواتفنا النقّالة،” عاكسًا قدرة هؤلاء على تعرية النظام وجرائمه بسلاح الصورة.

راح إعلامُ النظام يعرض عبر شاشات التلفزة مجموعاتٍ “تعترف” باستخدامها السلاحَ أثناء الاحتجاجات، وبقتلها مواطنين ورجالاً من الشرطة والجيش، وذلك بهدف نزع شرعيّة الانتفاضة وتثبيت حقّ النظام في استخدام العنف. لكنّ المشاهد المسجّلة في مختلف المدن السورية تُظهر ميليشياتِ النظام حصرًا، وحتى يومنا هذا لم يتأكّدْ بشكل قاطع وجودُ مسلّحين بين المحتجّين.

ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ بعض الاشتباكات التي جرت في مناطق حدوديّةٍ سوريّة، بين مجموعاتٍ منشقّة وأخرى تابعةٍ للجيش، كان هدفها، بحسب بعض المنشقّين، “تأمين ممرّاتٍ آمنةٍ لهروب المدنيين من بطش الجيش.” وهنا تبرز نقطة مهمّة، وهي أنّ استخدام العنف ضدّ الجيش لم يأتِ بقرارٍ مركزيّ من الثورة (البيانات الصادرة عن المحتجّين والناشطين واضحة في رفض الانجرار إلى العنف) بل على يد مجموعة عسكريّة منشقّة تدافع عن عدد من المدنيين.

اليوم، يُسجَّل تصاعدٌ في حدّة الانتفاضة السوريّة التي راحت تعتمد أساليبَ نضاليّةً مختلفةً في مواجهة النظام، وأبرزُها “التظاهراتُ المنزليّة” التي قامت بها نساءٌ سوريّات احتجاجًا على قتل الأمن السوريّ للطفل حمزة الخطيب (لم يتعدّ الخامسة عشرة من عمره) بحجّة أنه كان ينوي اغتصابَ نساء الضبّاط. أما أكثر الخطوات تقدّميّةً على صعيد مواجهة النظام فهي البدءُ باللاتعاون الاقتصاديّ، القائمِ أساسًا على مقاطعة الشركات التابعة للعائلة الحاكمة والامتناعِ عن دفع الفواتير والضرائب للدولة تحت شعار “لن ندفع ثمنَ الرصاص لقتلنا.”

لقد أثبتت الانتفاضة السوريّة أنّ المحتجين يتقنون قوانينَ المواجهة مع النظام القمعيّ. وهي، ككرة ثلجٍ صلبة، تكبر يومًا بعد يوم، لتشكّل نموذجًا آخرَ يترجم سلميّة النضال من أجل الحريّة.

فلسطين: العنف أضاع البوصلة!

يحتدم النقاشُ حول العنف واللاعنف في مواجهة الاحتلال الإسرائيليّ: أنلْقي السلاحَ جانبًا، بينما الإسرائيليّ يمتلك أعتى أنواع الأسلحة يُدمّر بها مُدننا وقرانا ويقتلنا يوميًّا؟ إنه سؤال يُطرح فور الحديث عن المقاومة المدنيّة السلميّة في وجه الاحتلال، ويحمل في طيّاته الإجابةَ التي يُريدها طارحُه. لكنْ، في المقابل، ثمة أسئلة أخرى كثيرة.

الاحتلال، كالأنظمة المستبدّة، يحتاج في استمراره إلى تعاون الشعب الذي يحتلّه. هنا، تتشابه المواجهة مع النظام والاحتلال. والاحتلال، كالأنظمة، لا يحترف سوى العنف في مواجهة من يقاومه؛ وبالتالي، فإنّ مقاومته بالسلاح هي لعبٌ على أرضٍ يفضّلها، في حين أنّ لجوء الشعب إلى وسائل نضاليّة لاعنفيّة يعني فرضَ قواعد لعبةٍ جديدة.

قبل أن نفصّل الحديث في الوضع الفلسطينيّ، لا بدّ من تحديد هدف المقاومة: أهو تحرير الأرض، أمْ قتلُ بضعة جنود ومستوطنين؟ إنّ مقولة “العنف هو الطريقُ الأقصر في معركة التحرّر والتحرير” هي مقولة يردّدها مناصرو العنف ضدّ الاحتلال، لكنّها أثبتتْ فشلَها تاريخيًّا. فبعد ستة عقود من استخدام السلاح ضدّ الاحتلال، ما هي النتيجة؟ كلّ شيء تقلّص. فلسطين، التي كانت تمتدّ من النهر إلى البحر، تحوّلتْ إلى مجرّد ضفّةٍ وقطاع، تتوزّع سلطتيْهما فصائلُ حكمتْ وما زالت تحْكم بفاشيّة. أما أقصى إنجازات المقاومة المسلّحة فتتلخّص بالآتي: فتح معْبر من هنا أو من هناك؛ إطلاق صاروخ يثير الذعرَ ويدمّرَ رصيفًا في مستوطنة؛ إرسال استشهاديّ يُسقط أكبرَ عددٍ ممكن من القتلى والجرحى الإسرائيليين؛ القيام بعمليّة عسكريّة “نوعيّة” تؤدّي إلى قتل بعض الجنود أو المستوطنين. وكلّها عمليّات لا تقدّم ولا تؤخّر في جوهر الصراع، بل تؤدّي إلى استمرار دوّامة العنف. إلى ذلك، فإنّ هذه الأفعال تُجابَه من قبل الاحتلال بردود فعلٍ هوجاء لا تتناسب وحجمَ الضرر التي تحْدثه المقاومة.

من جهة، اتّبعنا مقولة “لا صوتَ يعلو فوق صوت المعركة،” فلم نشأ البحثَ ـ ولو نظريًّا ـ عن مخارجَ أخرى للقضيّة، ورفضنا الاعترافَ بإمكانيّة إيجاد وسائلَ لاعنفيّة للمقاومة. ومن الجهة المقابلة، يمضي الاحتلالُ في قضمٍ يوميٍّ لحقوق الفلسطينيين، مُسيطرًا على قواعد الصراع، خصوصًا أننا نواجهه بلغةٍ يتقنها أكثر منّا: لغةِ العنف.

غير أنّ سيطرة العنف على الصراع لا تعني خلوَّ التجربة الفلسطينية من المقاومة المدنيّة اللاعنفيّة. وعلى هذا الأساس نلقي الضوءَ على تجربة “انتفاضة الحجارة” اللاعنفيّة عام 1987، ثم نقارنها بالانتفاضة الثانية التي انطلقتْ عام 2000 واتّسمت بمجملها بالعنف المسلّح. وقد استندنا في هذا الصدد إلى دراسة لا للعنف نعم للمقاومة، الصادرة عن “حركة حقوق الناس،” للدكتور وليد صليبي، وهو من أبرز الناشطين في العالم العربي الداعين إلى اللاعنف في مواجهة الاحتلال الإسرائيليّ.

قد تكون تجربة انتفاضة الحجارة اللاعنفيّة أكثرَ الأعمال المُقاوِمة التي أتت بنتائجَ مباشرةٍ على الشعب الفلسطينيّ، وبما يفوق كلَّ العمليّات المسلحّة منذ أيام الاحتلال الأولى. لم تكن الانتفاضة عبثيّة بتحرّكها وسلوكها، بل ذات استراتيجيّة واضحة: عدمُ الانجرار إلى العنف الذي يتقنه الاحتلال. وهكذا مضى الشعبُ الفلسطينيّ نحو انتزاع الاعتراف بوجوده من الاحتلال الذي كان، منذ ما قبل نشوء الدولة الاحتلاليّة، يرفض الاعترافَ بوجوده. كما استطاع الفلسطينيون نيلَ التضامن العالميّ؛ فمثلاً شجب مجلسُ الأمن أساليبَ القمع التي استخدمتها إسرائيل، ولم تستطع الولاياتُ المتحدة استخدامَ حق النقض (الفيتو). كما تعالت أصواتٌ يهوديّة تطالب بوقف “الاحتلال،” وهي ما كانت لتعلو لولا لاعنفيّةُ الانتفاضة: فقد اقترح برونو كرايسكي، أولُ مستشار يهوديّ للنمسا، طردَ حزب العمل ووزير الدفاع إسحق رابين من الاشتراكيّة العالميّة؛ وأصدرتْ شخصيّاتٌ يهوديّة مشهورة إعلانًا قالت فيه: “نخجل من أن نكون يهودًا”؛ وكتب المخرجُ والممثّل السينمائيّ اليهوديّ المعروف وودي آلن مقالةً أثارت ضجّةً كبيرةً في الأوساط اليهوديّة؛ وصدرتْ لدى بعض مؤيّدي إسرائيل في الولايات المتحدة مقالاتٌ تقارن الوضعَ في إسرائيل بالأوضاع في إيرلندا وجنوب إفريقيا حيث سياسة الفصل العنصريّ، واعتبروا أنّ على إسرائيل الاختيارَ بين إقامة الديمقراطيّة أو البقاء دولةَ “الديانة الواحدة.”

أما بالنسبة إلى تأثير الانتفاضة في الداخل الإسرائيليّ، فيمكن تسجيلُ الآتي: (1تظاهر للمرّة الأولى في التاريخ الإسرائيليّ 80 ألف شخص من “حركة السلام الآن” تحت شعار “فليسقط المحتلّ”. 2) أصدر 620 أستاذًا جامعيًّا إسرائيليًّا بيانًا قالوا فيه: “احتلالنا يضع إسرائيل في خطر.” 3) للمرّة الأولى في إسرائيل تُقفَل جريدة ديرتش هونيتروتز بسبب تغطيتها الأحداثَ في الضفّة وغزّة، ومنع رئيسُ مجلس إدارة التلفزيون والراديو الإسرائيليين من بثّ فيلم يُظهر جنديًّا إسرائيليًّا يضرب رأسَ فلسطينيّ بالحائط ويكسر ذراعَه .4) أصدر كتّاب إسرائيليون بيانًا بعد زيارتهم غزّة قالوا فيه: “لا نستطيع قمع شعبٍ إلى الأبد…”

وفي ما يتعلّق بانعكاسات الانتفاضة على الجيش الإسرائيليّ بالتحديد، إليكم بعض ما جرى: 1) وقّع 1600 ضابط إسرائيليّ عريضةً أعلنوا فيها أنّ “استمرار سياسة الاستيطان وإيديولوجية إسرائيل الكبرى والإبقاء على الوضع كما هو أمورٌ تشكّل خطرًا على أمّتنا.” 2) رفض 160 ضابطًا التطوّعَ في الجيش. 3) حرّض نوّابٌ وضبّاطٌ الجنودَ الإسرائيليين على رفض الطاعة. وقد كتب أحدُ الضبّاط الكبار رسالة إلى الجنود قائلاً: “أطلبُ إليكم عدم تلطيخ شرفكم بإطاعة أوامر تقضي بكسر عظام مدنيين يعيشون في ظلّ الاحتلال، كما أطلب إليكم حماية كرامتكم كرجال. قد تكون دعوتي إلى العصيان مخالفةً للقانون، إلا أنه من واجب كلّ يهوديّ ما زال يملك ضميرًا أن يرفض إطاعة هذه الأوامر.” 4) صَدَرَتْ أحكامُ سجن في حقّ عدد من الضباط المتمرّدين (الجدير ذكرُه أنّ هؤلاء قادوا غزواتٍ سابقة). 5) انخفض الاستعدادُ للتطوّع في الخدمة العسكريّة بنسبة 47 في المئة. 6) كانت لسياسة قمع الانتفاضة انعكاساتٌ سلبيّة على نفسيّة الجنود الإسرائيليين. فقد اعتبر 157 عالمًا نفسيًّا إسرائيليًّا أنّ الجنود يواجهون خطرَ الفساد، ولاحظ جهازُ علم النفس في الجيش الإسرائيليّ علاماتٍ خطيرةً على الجنود. وكان الجنود الإسرائيليون يعبّرون عن قلقهم بتصريحات من قبيل: “لا أستطيع النوم، كيف يطلبون منّا أشياء كهذه؟”، “إنهم يقتلون روح شبابنا.” وقد اعتبر عددٌ من المؤرّخين العسكريين أنّ هناك “خطر انحلال الجيش الإسرائيليّ الذي لم يعد جيشًا بل مجموعة زُمر.”

يُمكن فهمُ هذه التحوّلات داخل الجيش الإسرائيليّ. فهو مُدرّبٌ على مواجهة العنف، لا على مواجهة أيّ تحرّك لاعنفيّ. هو يُتقن مواجهة عسكر يحملون البنادق ويطلقون القذائف، لا مدنيين عُزّل سلاحُهم حجارةٌ يلقونها على الدبّابات.

في المقابل، انطلقتْ عام 2000 الانتفاضة الثانية، “انتفاضةُ الاقصى،” على إثر زيارة شارون للمسجد الأقصى في القدس المحتلّة. هذه الانتفاضة، التي اتّسمت بالعنف، واجهتها إسرائيلُ بسهولة؛ فقد التفّ الشعبُ حول الخيارات العنفيّة للسلطة، خصوصًا أنّ الدولة “في حالة الدفاع عن النفس أمام العنف الفلسطينيّ.” وهكذا لم تستطع الانتفاضة الثانية اختراقَ الداخل الإسرائيليّ، وخسرت التضامنَ العالميَّ معها أيضًا: فالداخل الإسرائيليّ لم يصمتْ إزاء قتل “مواطنيه،” والخارج اعتبر ما يجري مجرّد “دوّامة عنف” متبادلة بين الفلسطينيين والإسرائيليين ولا بدّ من وقفها.

أما عن انعكاسات انتفاضة الأقصى على الرأي العامّ الإسرائيليّ والعالميّ، فنشير إلى حدثين بارزين: 1) مقتل جنديين إسرائيليين في 12/10/2000، وهذا أول عمل عنف بارز أقدم عليه الفلسطينيون في الانتفاضة الثانية على إثر القمع العنيف الذي تعرّضوا له وأدّى إلى سقوط عشرات الضحايا من بينهم. 2) حصار رام الله الذي تبع القمّة العربيّة في لبنان وعمليّة نهاريا الانتحارية التي سبقتْ هذه القمة.

قبل مقتل الجنديين الإسرائيليين، ندّدتْ معظمُ المواقف العالميّة بالزيارة الاستفزازيّة التي قام بها شارون إلى المسجد الأقصى. وعلى سبيل المثال: 1) اتّخذ مجلسُ الأمن قرارًا انتقد فيه إسرائيل لإفراطها في استخدام السلاح (امتنعت الولاياتُ المتحدة عن التصويت وعن استخدام حقّ النقض). 2) اعتبر الاتحادُ الأوروبيّ أنّ المواجهات الدامية التي وقعتْ في القدس والأراضي الفلسطينيّة نتيجةٌ لعمل استفزازيّ. 3) انتقد الرئيس الفرنسيّ جاك شيراك شارون بشدّةٍ واصفًا الزيارةَ بأنها “عمليّة غير مسؤولة.” 4) في مدريد ندّد وزيرُ الخارجية الإسبانيّ بالاستفزاز المباشر الذي قام به شارون.

لكنّ على إثر مقتل الجنديّين الإسرائيليّين صدرتْ مواقفُ عالمية عدّة، منها: 1) دان كوفي أنان قتلَ الجنديين الإسرائيليين ووصف الحادث بأنه “بشع.” 2) اعتبرتْ وزارةُ الخارجيّة الفرنسيّة قتلَ الجنديين عملاً خطيرًا وطلبتْ إلى السلطة الفلسطينيّة معاقبةَ الفاعلين .3) ندّد الرئيس الأميركيّ بيل كلينتون بشدّة بقتل الجنديين. 4) برّرت محطّة سي. أن. أن. الأميركيّة حربَ إسرائيل على مقرّات السلطة الفلسطينيّة، وأضافت إلى عنوانها الرئيس (“أزمة في الشرق الأوسط”) عنوانًا آخر هو: “قتلُ جنديين إسرائيليّين في رام الله”؛ وفي المساء بثّت الشريط الذي يُظهر عمليّة القتل، في ما يشبه “إقامة توازن” مع شريط قتل الطفل محمد جمال الدرّة .5) كتبت الحياة اللندنيّة: “جاءت مشاهدُ مقتل الجنديّين الإسرائيليين على أيدي متظاهرين فلسطينيين في رام الله، والهجوم على المدمِّرة الأميركيّة في مرفأ عدن، لتنسفَ بدايةَ التعاطف الذي بدأ يتولّد في الشارع الأميركيّ نتيجة المشاهد التي بثّتها وسائلُ الإعلام على مدى أسبوعين للقوات الإسرائيليّة وهي تطلق النارَ على مواطنين فلسطينيين عزّل… وقد استمرّت محطّاتُ التلفزة ببثّ مشاهد إلقاء جثة جنديّ إسرائيليّ من النافذة، والشابّ الفلسطينيّ الذي يتباهى بيديه الملطّختين بدماء هذا الجنديّ. وأعطت هذه المشاهد نوعًا من الراحة لمؤيّدي إسرائيل الذين عادوا ليصوّروا العربَ كمجموعةٍ بربريّة، وإسرائيل كضحيّة.”

كان يُفترض أن يحظى الشعبُ الفلسطينيّ بالتضامن العالميّ بعد العنف الذي تعرّضتْ له رام الله والمدن الأخرى أثناء الحصار، وأدّى إلى قتل المئات وتدمير أحياء بأكملها. لكنّ حادثة قتل الجنديين أتت بنتائجَ عكسيّة، فتمّ التعاطي مع المشهد العامّ على أنه “دوّامة عنف،” وتمّت مساواةُ أعمال الجيش الإسرائيليّ بقتل الجنديين. وعليه، أصدر مجلسُ الأمن قراره رقم 1402 الذي يساوي بين هجمات الإسرائيليين وعمليّات الفلسطينيين، فحاز موافقة جميع أعضاء مجلس الأمن، وقد نصّ على ما يأتي: 1) مطالبة الطرفين الإسرائيليّ والفلسطينيّ بالوقف الفوريّ لإطلاق النار. 2) المطالبة بالانسحاب الإسرائيليّ من المدن الفلسطينيّة، بما في ذلك رام الله. 3) القلق الشديد تجاه التفجيرات الانتحاريّة والهجوم على رئاسة السلطة الفلسطينيّة .4) دعوة الطرفين إلى التعاون التام مع المبعوث الأميركيّ إلى الشرق الأوسط. كذلك صدر بيان عن رئاسة الاتحاد الأوروبيّ ساوى بين العنفين الإسرائيليّ والفلسطينيّ. وأجمعت الدول الـ15 الأعضاء في الاتحاد الأوروبيّ على حقّ إسرائيل الشرعيّ في مكافحة الإرهاب وردّ “العمليّات الوحشيّة” ضدّها. وطالب الاتحاد الأوروبيّ إسرائيلَ بالمحافظة على السلطة الفلسطينيّة ورئيسها اللذين من واجبهما “مكافحة الإرهاب” ومعاقبة المسؤولين عن العمليّات الانتحاريّة الأخيرة .

هكذا، لم تتمكّن الانتفاضة الثانية من استكمال الإنجاز الذي حققته الأولى، بل سُجّل تراجعٌ في التضامن العالميّ مع القضيّة الفلسطينيّة التي لم تستطع شقّ طريقها إلى داخل المجتمع الإسرائيليّ الذي وقف خلف الآلة العسكريّة “ليُدافع عن نفسه.” وبالتأكيد خسر الشعب الفلسطينيّ هذه المعركة لأنه استخدم السلاح الذي يتفوّق فيه الاحتلال: العنف!

بعد مرور أكثر من ستة عقود على الصراع، آن لنا أن نُحاول قراءته من منظار آخر غير منظار العنف، وبعيدًا عن الخطابات الرنّانة والتهويل والتخويف الذي أسر فلسطينَ في أطرٍ دينيّةٍ وعنفيّةٍ ضيّقة. آن الأوان أن نلجأ إلى سبل مختلفة تمّ اختبارُها… وبنجاح.

ويبقى أنّ المقاومة اللاعنفيّة ليست مجرّد حلمٍ يُراود قلّة، بل هي نضالٌ طويلٌ وشاقٌّ يمكنه أن يرسم “خريطة طريق” لتحرير فلسطين وتحرُّر العالم العربيّ.

دبي

*كاتب وناشط مدنيّ من بيروت.

الآداب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى