صفحات سوريةغازي دحمان

النضال السوري وقضية الحرّية العالمية/ غازي دحمان

تنطوي مواقف الشعوب الغربية من المأساة السورية على يأس واضح ومعلن من إمكانية حدوث تغيير مهم في حياة شعوب العالم الثالث، والشرق الأوسط منه تحديداً. فالاستجابة الإنسانية الضعيفة تجاه الكارثة الحاصلة في سوريا، ليس سببها تراجع الحس الإنساني في الغرب، بل هو مؤشر على أن مواقف هذه الشعوب تصدر من تحت ظلال موقف قبلي كوّنته عبر أحداث الأعوام الثلاثين الماضية، ولا يبدو أنها بصدد الخروج منه في ظل استمرار المعطيات المكونة لهذا الموقف على حالها.

بالطبع تحتاج عملية تفكيك بنية هذا الموقف، إلى أكثر من مجرد طرقها بأزاميل الاتهام بالإمبريالية والعنصرية وصراع الحضارات، وسواها من شعارات أيديولوجية، تبين أنها كانت توظف من قبل النخب الحاكمة، بهدف ترسيخ القطيعة مع الغرب، ولكي لا يكون لدى شعوبنا صوت مسموع ومعروف خارج تلك النخب، وذلك بهدف منع حصول أي اختراق لمنظومة قيم الاستبداد والعزل.

إذاً، يحتاج فهم هذا الموقف الغربي إلى معاينة أكثر موضوعية وصدقية، كما يحتاج إلى طرح الأسئلة الصادمة وتقبل إجاباتها. باختصار، يتطلب مواجهة هذا الموقف نزع غشاوة النوستولوجيا عن عيوننا، فلماذا نطلب من شعوب الغرب التعاطف معنا في الوقت الذي تصدر رؤيتنا لهم عن عنصرية بغيضة، تنطلق من رؤية إيمانية تشكك بإيمانهم، وما يستتبع ذلك من أنَفٍ من نمط حياة الغرب واستهجان منظومة قيمه، عدا عن تحميله وزر مسؤولية تخلفنا التاريخي!

قد يقول قائل أن تلك قضايا موجودة في حقل النقاش بين الشرق والغرب، وقد وجدت أطر عديدة لمحاولة تفكيكها والوصول بشأنها إلى مقاربات، مثل منتدى حوار الحضارات وسواها من المنتديات والمجالس المختلفة، لكن حال اليأس سببتها حوادث تراكمت في السنوات الأخيرة، وبخاصة بعد حربي أفغانستان والعراق، وما سببته تلك الحروب من مآسٍ عاشها الغرب نفسه، نتيجة الجهود الجبارة التي بذلها الغرب لصد الإرهاب والتطرف، الذي مثلته أفغانستان، أو لحماية المصالح الغربية من جنون حاكم العراق وتهوره. ورغم ذلك، فالنتيجة التي آلت إليها هو تحوّل البلدين إلى مستنقع للتطرف والفوضى. وشكّل هذا المآل صدمة للوعي الغربي، وحالة من اليأس تجاه العالم الإسلامي.

لم تخرج التجربة السورية، من حيث طريقتها التصديرية للعقل الغربي، عن إطار الفوضى الموصوف، فقد انعكست بوصفها حلقة في سلسلة الفوضى، أو حدثاً في تلك الصيرورة الدائرة في بلاد الإسلام، وإذا لم يكن من مهمة المقاتلين على الأرض، الذين يفتقدون حتى للوسائل القتالية اللازمة للدفاع عن النفس، إظهار صورة حقيقة نضالهم وأهدافه وانسجامه مع الفكرة الغربية عن التحرر وحق العيش بكرامة، فإن القوى الممثلة لهم في المعارضة ارتكبت الخطأ ذاته الذي وقعت به النخبة الفلسطينية يوماً حين اتكلت على قدسية قضيتها واعتبرت هذا الأمر كافياً بحد ذاته، بحيث يصير مستهجناً ومنافياً للأخلاق كل ما هو دون ذلك!

لكن بالمقابل أيضاً، فإن هذا اليأس الغربي من حال المجتمعات العربية، هو حالة يمكن وصفها بالعدمية، بالنظر إلى نتائجها التي تفوّت فرصة إمكانية تطوير مواقف هذه المجتمعات باتجاه حالة أرقى من الحرية والديموقراطية، وإمكانية تغليب التيارات المنفتحة والنخب الليبرالية، وبخاصة وأن الصيرورة التاريخية، أقله في فترة العقدين الأخيرين، تؤكد سير مجتمعاتنا العربية باتجاه الانفتاح والتناغم مع القيم العصرية، وأن حالة التطرف هي الحالة الاستثنائية سببتها ردود فعل على حوادث تاريخية معينة، ساهم الغرب في صناعة بعضها.

لا شك بأن الانتصار لحرية الشعوب، والعمل على تطوير رؤاها وتصوراتها، هو استثمار حضاري مهم للغرب وشعوبه، ويمثل بداية انتقال الحضارة البشرية إلى الموجة الحضارية الثالثة، والانتهاء من حالة التشوه الحالية التي طالما يدفع العالم الغربي، أكثر من غيره، ثمنها من رفاهيته وأمنه. إذ ثبت أن تطور جزء من البشرية أمر غير كاف لضمان سلامة العالم، وأمن البشرية، ما دام الجميع يركبون القارب نفسه، حتى وإن اختلفت درجات الركاب ومنزلتهم.

وتكمن أهمية الثورة السورية، في هذا المجال، في نوعية الخصم الذي تواجهه، فهو يمثل نمطاً من الأنظمة التسلطية المستهترة، التي تعتاش على الاستثمار في تهديد الأمن العالمي عبر تعمّده تدمير حياة شعوبها وقذفها بوجه العالم كمهاجرين وإرهابيين، أو عبر ارتكازه على إسلوب ابتزاز العالم باحتضان القوى الإرهابية وحمايتها.

كما تكمن أهمية الثورة السورية، من جهة أخرى في كونها تشكل إمكانية لتفكيك عقدة التحالف بين منظومة الإرهاب الديني والسياسي والمافيوي، الذي ترسخ في الشرق الأوسط، بوصفه نمطاً ابتزازياً شجع على توليد ديناميكية إرهابية موازية له في الفترة الأخيرة، ويحتل نظام الأسد في هذا النظام التشغيلي مكانة مهمة، بوصفه منتجاً ومسوقاً للإرهاب والفوضى.

إذا كان ثمة ضرورة لتغيير نمط الاستجابة الغربي تجاه قضيتنا، وهو أمر مهم وملح، فالأولى أن نقدم أنفسنا بطريقة أكثر تناسباً، وعلى الغرب أن يدرك أن فعلنا هو جزء من النضال الحضاري المشترك لتغيير الأوضاع يتوافق معه ولا يتعاكس، وإن استمرار صدوده، يعني أن عليه البقاء في وضع مستنفر دائماً، وأن رفاهيته ستبقى منقوصة، طالما لم ينخرط بصياغة هذه الحالة باعتبارها جزءاً من أمنه المباشر.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى