صفحات الرأي

النظام الدولي..وحوش أسطورية في “السياسة الخارجية”/ د. ستيفن والت

 

 

هل سبق لك أن رأيت ذلك الحيوان الخرافي الذي يطلق عليه « الحصان وحيد القرن»؟ الإجابة المتوقعة هي أنك لم تره.. مثلي تماماً. فتلك الحيوانات هي وحوش أسطورية، تتمتع، كما تحكي الأساطير بصفات خارقة وسحرية- ولكنها للأسف ليست حقيقية. علاوة على ذلك لم أر أيضاً أي من المخلوقات الأخرى الشريرة، التي ابتكرها كُتاب الروايات الخيالية.

الخبر الطيب هنا أن هذه المخلوقات غير موجودة في الحقيقة، بل ولم توجد على الإطلاق، إلا في الأفلام الخيالية التي تعتمد على تقنية توليد الصور بالكمبيوتر؛ وبالتالي فإن أي شخص يدعي أنه يستطيع العثور عليها، أو خلقها، سينظر إليها على أنه معتوه.

أما في عالم السياسة، فيطلب منا عادة أن نؤمن بالحيوانات الأسطورية، وعرائس البحر، والعفاريت، والتصويت بالتالي للسياسيين الذين سيخلقون واحداً من تلك الكائنات الأسطورية (إذا كنا نريد ذلك)، أوسيقومون بإبادتها (إذا اعتقدنا أنها خطرة). والسياسيون الذين يطلبون منا أن نؤمن بأحد وحوشهم الأسطورية المدللة، إما أنهم يخدعوننا، أو يهينون ذكاءنا.

الأسوأ من ذلك، أن تضييع الكثير من الوقت، والجهد في البحث عن الحيوانات الأسطورية، أو العفاريت يصرف أنظارنا عن الفرص المتاحة، والأخطار الحقيقية، بما في ذلك الموضوعات الداخلية المهمة، مثل بنيتنا التحتية المتداعية، أو مدارسنا ذات الأداء المتدني.

“النووي” حلم الطوباويين

ومن هذا المنطلق، أقدم لكم قائمة بأهم خمسة وحوش أسطورية في مجال السياسة الخارجية، من تلك الحيوانات التي مازلنا نتظاهر بأنها حقيقية- على أمل أننا عندما نحددها بالأسماء، سنتمكن في نهاية المطاف، من التخلص منها: الأسطورة الأولى: نزع الأسلحة النووية التام والكامل. حلم الطوباويين لقرون بعالم خالٍ من الأسلحة، ومن الحروب، والصراعات السياسية الخطيرة؛ ومع ذلك فإننا لم نقترب على الإطلاق من تحقيق هذا الهدف- كما يقول الخبراء.

فمنذ اختراع التقنية النووية، دعا السياسيون المنتمون إلى طائفة من الدول – وفي بعض الحالات تعهدوا- بإزالة جميع الأسلحة النووية من العالم. بل إن الحقيقة هي أن باراك أوباما، أعلن أن هذا الهدف تحديداً هو هدف طويل الأجل للولايات المتحدة، وذلك في عامه الأول في الحكم، وكرر هذا الموقف عدة مرات منذ ذلك الحين..ربما يكون قد وعدنا أيضاً بوحيد قرن بدلاً من ذلك.

إذا ما تمكن العالم من التخلص من جميع الأسلحة النووية الموجودة فيه، فإن ذلك سيكون شيئاً جيداً في حد ذاته، ولكن ذلك، لن يحدث خلال حياتي ولا حياة أبنائي. لماذا؟ لأن الدول الوطنية لا تختفي، والقليل منها- على الأقل- يدرك أن الرادع النووي، يمثل طريقة جيدة جداً لمنع الآخرين من مهاجمتها.

وفي الواقع أن الأسلحة النووية، لم تنتشر بالسرعة التي كان الناس في الستينيات يخشونها؛ ولكن عدد الدول المسلحة نووياً، مازال ينمو مع ذلك؛ كما أن عدداً من الدول( كباكستان وكوريا الشمالية على سبيل المثال) يوسع ترسانته النووية، في الوقت ذاته الذي تبدأ فيه الولايات المتحدة، خطة تطوير كبرى لقدراتها النووية الخاصة.

والقول إن نزع السلاح بشكل عام أمر لن يحدث، لا يعني القول إن أجندة للحد من التسلح الأوسع نطاقاً غير ذات صلة، أومضللة؛ لأن الأمر أبعد ما يكون عن ذلك في الحقيقة: فهناك الكثير مما يمكن عمله- ويجب عمله- لتحسين أمن ترسانات الأسلحة النووية الموجودة حالياً، وتحسين القدرة على الحيلولة من دون تفاقم الأزمات، وتحقيق استقرار الأوضاع، وتثبيط عمليات الانتشار النووي الجديدة.

والتأكد من أن هذه الأسلحة المخيفة لن تستخدم أبداً؛ وأن البشرية ستقرر بشكل جماعي في المستقبل البعيد، تفكيك هذه الأسلحة مرة واحدة وللأبد، في الوقت نفسه تقريباً الذي قد نتوصل فيه إلى تقنية نتمكن من خلالها من معرفة كيفية دمج الحمض النووي للحمار الوحشي، ووحيد القرن.

الأسطورة الثانية:المارقون النوويون: في حين أننا نناقش هنا موضوع الأسلحة النووية؛ دعونا في الوقت نفسه نصرف وحشاً أسطورياً خطيراً هو الوحش المعروف بـ «المارق النووي». فمنذ فجر العصر النووي، دأب تجار التهديدات على الترويج لمزاعمهم القائلة بأن هناك دولا جديدة عديدة مسلحة نووياً، ستكون متلهفة على استخدام أسلحتها النووية للابتزاز، ولما هو أسوأ من ذلك؛ وإنه سيكون من المستحيل ردع تلك الدول، المستعدة للانتحار في هولوكست إشعاعي. والمارقون النوويون المحتملون شملوا تقريباً كل زعيم نووي طامح لا نكن له وداً مثل: جوزيف ستالين، ونيكيتا خروشوف، وماو تسي تونج، وعائلة كيم في كوريا الشمالي، مع تشكيلة متنوعة من الباكستانيين والعراقيين، والليبيين، والإيرانيين.

ولكن التظاهر بأن المارقين النوويين يمثلون ظاهرة حقيقية، يشوه النقاش الحقيقي الذي يدور بشأن كيفية التعامل مع الانتشار النووي- حيث يجعل – من بين أشياء أخرى عديدة- الحرب الوقائية أمرأً أكثر جاذبية- ويصرف الاهتمام والجهد عن اتخاذ المزيد من الخطوات الواعدة، لإدارة موضوع الأمن النووي. ومن هنا قد يكون من الأفضل أن نتعامل معهم- المارقون- على أنهم من نسج خيالنا- كما هم في الواقع.

خرافة «العقل المدبر»

الأسطورة الثالثة: العقل المدبر الإرهابي: ابن العم المباشر للمارق النووي هو العقل المدبر الإرهابي، المنشغل دوماً بتدبير المؤامرات المحكمة، شديدة التدمير، لإجبار العالم على الركوع على ركبتيه. فأشخاص مثل أسامة بن لادن، وزعيم تنظيم «داعش» أبو بكر البغدادي، وجهوا تهديدات مخيفة للعالم؛ ولكن الخبر الطيب أنهم لم يقتربوا أبداً من النجاح في قلب حكومة أجنبية؛ أو كسب الملايين من الأتباع، أو تهديد طريقتنا في الحياة. ولكن ذلك، في الوقت ذاته، لا يعني أنني أنكر أن بعض التنظيمات الإرهابية قد دبرت، ونفذت هجمات ناجحة، كانت هجمات الحادي عشر من سبتمبر هي أكثرها ضرراً وتدميراً حتى الآن. ولكن كلمة العقل المدبر تستحضر للأذهان صور الأشرار الأذكياء الذين نراهم في الأفلام، والذي يتفوقون بذكائهم على عقولنا الضعيفة، ويحبطون جهودنا لإيقافهم، ومنعهم من إلحاق دمار رهيب بالعالم البريء.

لا يكف «جون مولر»- الزميل البارز في معهد دراسات الأمن الدولي بجامعة أوهايو، وغيره من الباحثين عن تذكيرنا بأن أغلبية الإرهابيين المعاصرين، هم في الحقيقة أشخاص محدودو الكفاءة؛ وقادرون فقط على شن هجمات محدودة النطاق، تسبب أضراراً محدودة؛ كما أنهم أظهروا أنفسهم بشكل متكرر على أنهم غير قادرين على تخطيط، وإدارة عمليات معقدة، يمكن أن تجعل دولة مستقرة تجثو على ركبتيها.

بيد أن كل ذلك لا يمنع من القول إن الإرهاب مشكلة، وإن الأرواح التي فقدت بسببه، تمثل مأساة مروعة، وإن هؤلاء الذين يستخدمونه يعتبرون مجرمين خطيرين؛ ولكن عددا محدودا منهم هو الذي يتمتع بمهارة معقولة، في حين أن معظمهم ليس كذلك؛ كما لا يرتفع أي منهم لمستوى «العقل المدبر»؛ أو يمكن يمثل تهديدا وجوديا.

بالتالي يجب على المحررين، والخبراء، وكتاب خطب الرؤساء، أن يشطبوا هذا المصطلح من قاموسهم، لأن هذا الوحش بالذات غير موجود- لحسن الحظ.

مفاوضات لا تنتهي

الأسطورة الرابعة: «حل الدولتين» في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، أشبه بحيوان أسطوري آخر يتعامل معه الناس على أنه حقيقي، حتى وإن لم يره أحدً.مع ذلك، مازال الناس يواصلون القول إنهم مازالوا ملتزمين بهذا الهدف( حل الدولتين)؛ وهو ما يبدو إلى حد ما مثل القول إنهم مازالوا ملتزمين بالمحافظة على استمرار الحمام الزاجل، وطائر الدودو، والماموث( نوع منقرض من الفيلة).

أرجوكم لا تسيئوا فهمي؛فأنا لا استمتع بالتنويه بهذه الحقيقة، لأنني كنت من الذين أيدوا حل الدولتين، ودافعت عنه علناً منذ سنوات ليست بالبعيدة. ولكنني توصلت في خاتمة المطاف، إلى استنتاج مؤداه، أنه – حل الدولتين- لن يحدث؛ وأن أي أحد – بما في ذلك رئيس الولايات المتحدة نفسه – ينفق وقته، ورأس ماله السياسي من أجل هذا الهدف، إنما يضيع وقته في الحقيقة، بل ويساعد على مفاقمة درجة سوء الوضع؛ لأن ضياع أسابيع وشهور في مفاوضات لا تنتهي حول عملية السلام، يسمح للاحتلال بالاستمرار والتجذر، ولا يقربنا من أي حال عادل أو دائم، ويجعل الولايات المتحدة تبدو ضعيفة، ومنافقة، وفاقدة للفعالية.

لو كانت الولايات المتحدة، قد تصرفت حيال هذا الأمر وفق قيمها المعلنة، لكانت قد دفعت بقوة في اتجاه الأمن الفلسطيني والإسرائيلي؛ ونحو جعل الشعبين يتمتعان بكافة الحقوق السياسية والقانونية. هذا ما كان يجب لحل الدولتين أن يحققه. وأنا لا أعرف ما الذي يخبئه المستقبل لهذا الحل، ولكني أعرف بالتأكيد أن السياسيين الذين يقولون لكم إن سياستهم تقوم على دفع «حل الدولتين» قدماً إما أنهم يقولون ذلك عن جهل، أو أنهم يضللون أنفسهم، ويحاولون خداعنا.

الشكوى من الحلفاء

الأسطورة الخامسة: الحلفاء الذين لا يحصدون مكاسب من دون أي تكاليف. سأقر هنا بأننا ربما نكون قد شاهدنا شيئاً من هذا خلال فترة الحرب الباردة، ولكن الأمر بات خيالياً الآن. فمنذ سنوات الخمسينيات، دأب صناع السياسة في الولايات المتحدة، على الشكوى من أن حلفاء أميركا في أوروبا وآسيا لا يتحملون نصيبهم العادل، من تكاليف جهود الدفاع المشتركة. وفي هذا السياق، أصدر مسؤولو “الناتو”، بشكل متكرر، نداءات جادة يدعون فيها أعضاء الحلف للوفاء بالحد الأدنى من الإنفاق الدفاعي؛ ولكن هذه النداءات، نادراً ما لقت آذانا صاغية، ونادرا ما حققت الأهداف التي تتوخاها، أو ساعدت على إدامتها.

وفي الحقيقة أن المشكلة أكبر من ذلك. وأنا هنا أتساءل على نحو جدي، كيف يمكن لشركاء «الناتو» الأوروبيين، أن يكون لديهم عدد سكان يفوق عدد سكان روسيا أربع مرات؛ وينفقون على الدفاع أكبر مما تنفقه روسيا سنويا باربع مرات أيضا، ومع ذلك لا يزالون غير قادرين على الاعتماد على أنفسهم في المحافظة على أراضيهم، من دون الحصول على الكثير من المساعدات من الناتو؟

الإجابة على هذا السؤال هي أنهم لا ينفقون هذه الأموال بشكل جيد، أو متعقل. ولكي نكون صادقين مع أنفسنا، فإن جزءا كبيراً من هذه المشكلة يرجع إلى خطأ من جانب الولايات المتحدة، لأنها تحب إدارة التحالفات، ولا تحصل سوى على الأبخرةـ عندما يحاول الأوروبيون أن يكونوا أكثر جدية لحد ما بشأن تطوير سياسة خارجية، وسياسة أمنية خاصة بهم.

أساطير أخرى

هذه ليست الوحوش الأسطورية الوحيدة التي يتضمنها دفتر حيوانات السياسة الخارجية؛ فالحيوانات الأخرى المفضلة تشمل: «النظام العالمي المستند إلى القواعد»؛ و عقيدة «مسؤولية الحماية»؛ والفكرة التي كانت رائجة يوماً ما ولكنها انقرضت اليوم، المتعلقة بـ«جولات التجارة العالمية المتعددة الأطراف». وبمقدور المرء الإعجاب بالدوافع التي تقود بعض الناس للبحث في كل مكان، عن هذه الحيوانات الأسطورية، ولكن عليه أن يعرف أن هناك جانبا سلبيا لهذه الجهود.

فهناك العديد من المشكلات الحقيقية، والأمثلة على حدوث تقدم حقيقي، التي يمكن لنا أن نركز اهتمامنا عليها. ويجب علينا أن نعرف أنه كلما زاد الوقت الذي ننفقه على تتبع، أو القلق بشأن أشياء، غير موجودة في الحقيقة؛ كلما قلت بالتالي احتمالات تمكننا من التعامل مع المشكلات، وتوقعات المستقبل، التي توجد معنا كل يوم.

أشخاص- مثل بن لادن، وزعيم تنظيم داعش«أبو بكر البغدادي- وجهوا تهديدات مخيفة للعالم؛ ولكنهم لم يقتربوا أبداً من النجاح في قلب حكومة أجنبية؛ أو كسب الملايين من الأتباع، أو تهديد طريقتنا في الحياة.

لا أعرف ما الذي يخبئه المستقبل لـ”حل الدولتين” ولكن السياسيين الذين يقولون لكم إن سياستهم تقوم على دفعه يفلون ذلك عن جهل، أو أنهم يضللون أنفسهم، ويحاولون خداعنا=

عدد الدول المسلحة نووياً، مازال ينمو وعدد من الدول (كباكستان وكوريا الشمالية على سبيل المثال) يوسع ترسانته النووية، في الوقت ذاته الذي تبدأ فيه الولايات المتحدة، خطة تطوير كبرى لقدراتها النووية الخاصة.

مازال الناس يواصلون القول إنهم مازالوا ملتزمين بحل الدولتين في القضية الفلسطينية وهذا يشبه القول إنهم ملتزمون بالمحافظة على استمرار الحمام الزاجل، وطائر الدودو، والماموث( نوع منقرض من الفيلة)!

هناك حيوانات أسطورية أخرى تشمل: “النظام العالمي المستند إلى القواعد” و عقيدة “مسؤولية الحماية” والفكرة المتعلقة بـ”جولات التجارة العالمية متعددة الأطراف”

(كادر1)

نبأ مهم

طالما أن الولايات المتحدة مستعدة لدعم الدفاع عن حلفائها الأثرياء، فإن توقع أنهم سيفعلون قدراً أكبر بكثير مما يفعلونه في الوقت الراهن في هذا الشأن، يشبه توقع أن المكسيك ستسهم في دفع تكاليف الجدار الفاصل بين حدودها الجنوبية، وحدود مع الولايات المتحدة. أعني بذلك أنك لا بد أن تكون معتوهاً، كي تتوقع أن ذلك يمكن أن سيحدث.

(كادر2)

جهود دفاعية منقوصة

دعونا نتوقف عن التظاهر بأن الإدارة القادمة، ستقنع- بطريقة سحرية- حلفاءنا في مختلف أنحاء العالم بالتنقيب عميقاً، والبدء في عمل النوع نفسه من الجهود الدفاعية التي نقوم بها. صحيح أن الصعود الصيني يحث على استجابات أكثر قوة في آسيا، لكننا نجد، مع ذلك، أن دولاً حليفة مثل اليابان، وأستراليا، وفيتنام، وكوريا الجنوبية، مازالت تبذل جهوداً دفاعية أقل من تلك التي تبذلها بكين، بينما يناشدون الولايات المتحدة بعمل المزيد بالنيابة عنهم.

* د. ستيفن والت أستاذ الشؤون الدولية بجامعة هارفرد

المصدر | خدمة «واشنطن بوست وبلومبرغ نيوز» – ترجمة الاتحاد الظبيانية

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى