إيلي عبدوصفحات سورية

النظام السوري بوصفه نظاماً سلاحيّاً

 

إيلي عبدو *

يفتح مشهد طائرات «الميغ» وهي تتفنن في قصف المدن والقرى السورية شهية البحث عن البنية التحتية التي تحكم سُلوكيات النظام السوري وتأسس تركيبته العنفية. فالطائرة التي تقصف إعزاز والمدفعية التي تدُك داريا ليستا مجرد أدوات حرب يتم استخدامها في الوقت الراهن بهدف القضاء على الثورة. الطائرة والمدفعية أقرب إلى أن تكونا عناصر تكوينية تُشكل النواة الصلبة لنظام الأسد، بواسطتها وصل إلى السلطة وزرع الرعب في قوى المجتمع كي يبقى ويستمر. وإذا كانت السلطة المترنحة في دمشق تقوم نظرياً على مبادئ حزب البعث فإن التجربة الراهنة تشير إلى أن المعادل السلاحي لهذه المبادئ يتفوق عليها، بحيث تُصبح القذيفة أقوى من الوحدة العربية، والصاروخ أسرع من الحرية، والبراميل المتفجرة أكثر انتشاراً من الاشتراكية.

وبطبيعة الحال، تعاظُم الثورة لم يدفع النظام إلى استخدام الطائرات والمدرعات والصواريخ ضدها، بقدر ما تكشّف الجوهر السلاحي لديه وانفضحت بنيته الحقيقة. بعض المقاطع المصورة التي التقطها ناشطون سوريون تُظهر دبابات نظامية تقوم باقتحام القُرى الثائرة، واللافت في هذا المشهد صورة الرئيس بشار الأسد وقد تم الصاقها على جميع الفوهات التي تدُكّ منازل الآمنين. العلاقة بين الصورة والفوهة تبدو كثيفة الدلالة، فالفوّهة صنعت الرئيس، والرئيس كذلك صنع الفوّهة، وليس مهماً هنا، إن كان المعنيّ بالصورة بشار أو والده الراحل طالما أن البنية الإفرازية واحدة.

وهذا ما يجعل علاقة التماهي بين السلاح والحكم أساسية لفهم طبيعة الحرب التي يشنها النظام ضد شعبه.

ثمّة أيضاً سياق تاريخي إيديولوجي مرّ به الحكم البعثي يكشف بوضوح الطبيعة السلاحية للسلطة في سورية. فمن جهة هناك الإيديولوجية التي تبرر العنف الثوري من أجل الوصول إلى أهدافها، ومن أخرى هناك معزوفة الصراع مع إسرائيل التي من خلالها عمم البعث ثقافة السلاح والعسكرة على المجتمع كُلّه. والأهم من ذلك سلوكيات السلطة الحاكمة في نزاعها مع خصومها الإسلاميين والتي كان من نتائجها تدمير ثلث مدينة حماة وإخضاع سورية كلها. حيال ذلك، فإن العلاقة بين السلاح وبين نظام الأسد أكثر من وثيقة، ليس بوصف الأول أداة لكسب الصراعات وإنهائها، بل باعتبار الثاني مؤسساً لبنية السلطة ورافعتها الأساسية.

فالسوريون يذكرون جيداً رجل المخابرات الذي صارالصورة الأكثر تعبيراً عن شراسة النظام، وكيف كان يتجول في شوارع دمشق متقصداً إظهار مسدسه المحشور في خصره لإرهاب الناس وزرع الخوف في نفوسهم. في الحقيقة، أكثر من أربعين عاماً قضاها السوريون ونظامهم يحشر المسدس على خصره، وحين أرادوا التمرد لم يكتف بالمسدس بل إستدعى أدوات أشدّ فتكاً وتدميراً. وليس من الصدفة أن تُنهي السلطة الحاكمة نشاط جميع القوى السياسية في البلاد بالاعتقال والتصفية بعد انتصارها في حربها مع «الإخوان المسلمين» خلال حقبة الثمانينات.

والحرب هنا تلغي السياسة لتحل محلها فتتحول البلاد إلى ثكنة، طلاب المدارس فيها يرتدون زي العسكر ورجال الأمن يتجولون بسلاحهم، وكلما طالب الشعب ببعض حقوقه كان الرد بالسلاح. لقد عمل نظام الأسد بالضد من مقولة كلاوزِفيتس «الحرب هي مجرد امتداد للسياسة بوسائلَ أخرى»، إذ جعل السياسة مجرد إمتداد للحرب التي كانت جوهرها والعنصر الرئيس لتكوينها.

وإذا كانت هذه الطبيعة السلاحية الحربية لنظام البعث الأسدي لا تثير علامات تعجب واستغراب حول استخدامه الطائرات والمدفعية والبراميل المتفجرة للانتقام من الشعب الثائر، فإنها تطرح سؤالاً أساسياً يتعلق بمشروعية استخدام الثورة للسلاح مقابل سلاح النظام، إضافة إلى سؤال أهم: هل الثورة باتت تمتلك ذات الطبيعة السلاحية للنظام الذي تحاربه؟

تبدو محاولة الإجابة عن السؤال الأول الذي نال حيزاً كبيراً من نقاش الناشطين والمعارضين السوريين أقرب إلى تكرار أفكار سبق أن ذُكرت حول انعدام فرص السلمية في ظل نظام يمتلك هذا القدر من الوحشية، لكن ما يضاف هنا هو الطبيعة السلاحية للسلطة الحاكمة التي استبدلت منافذ السياسة بميادين الحرب وجعلت البندقية وسيلة وحيدة للمناداة بالحقوق المسلوبة. وكي نجيب عن السؤال الثاني لا بد أن نميز بين أطوار الثورة ومراحلها التي ارتبطت بردود فعل النظام، وبين الثورة نفسها كمبادئ ومنظومة أفكار تطالب بالحرية والديموقراطية. فالثورة مرّت بالتظاهرات والحراك المدني ومشاركة النساء ثم بالتسلّح والعسكرة وصولاً إلى الأسلمة والجهاد، وهذه الدينامية التلقائية تكشف أن للثورة هدفاً واحداً ووسائل عدة، تتحكم بممارستها على الأرض طبيعة الصراع مع الخصم. فيما النظام لديه الحرب فقط وسيلة واحدة تحكم طبيعة تكوينه منذ أربعين عاماً حتى اليوم، سواء تجلت هذه الوسيلة بوصول بشار إلى السلطة بتعديل دستوري لم يتطلب إجراؤه أكثر من دقائق، أو بإلقاء براميل متفجرة على المدن والقرى السورية. إن الأولى تؤسس للثانية.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى