صفحات مميزةهدى زين

النظام السوري بين إشكالية الاعتراف و الإنكار …


هدى زين

تستند جدلية العلاقة بين السيد و العبد في فلسفة هيغل على مفهوم الاعتراف …حيث يتوجب على السيد أن يعترف بالعبد حتى يلبي رغبته في الحصول على اعتراف العبد به كسيد … فكل رغبة بشرية هي في نهاية الأمر تابعة للرغبة في الاعتراف و متوقفة عليها. و الحديث عن أصل الوعي بالذات يعني بالنسبة لهيغل الحديث عن صراع حتى الموت من أجل الاعتراف فالذات لاتتعرف على حقيقة ذاتها إلا من خلال تفاعلها مع الذات أو الذوات الأخرى بحيث تصبح كل ذات منها وسيلة للآخر و لاتتحرر من أشكال الاستلاب إلا عبر تحقيقها لوعي ذاتها. بتعبير آخر إن العبد يكون مجبرا على العمل لدى السيد و هذا العمل يتطلب منه تفاعلا مع الطبيعة و استخداما لأدوات العمل من أجل الانتاج مما يؤدي للسيطرة على الطبيعة و لشعور بتبعية السيد له وبالتالي إلى خلق ذات جديدة لنفسه و إدراك مبدئي لمعنى الحرية … و بناء عليه فإن علاقة المواطن السوري بنظام بشار الأسد هي علاقة العبد بالسيد ـ و تشبهها علاقة المواطن بالسلطة لدى بقية الأنظمة العربية المهترئة ـ و التي تمثل امتدادا لعلاقة العبودية بين المواطن والسلطة منذ أيام حكم حافظ الأسد … و لم يكن لهذه العلاقة أن تستمر طوال هذه العقود لولا اعتراف الطرفين ـ الحاكم و المحكوم ـ بشرعية هذا الشكل العبودي الذي يحكم علاقة السلطة بالمواطن في سوريا .. فمجرد السكوت على و الرضوخ إلى استبداد الحاكم و تسلطه هو نوع من أنواع الاعتراف بشرعية شكل العبودية ومن ثم بسيادة الحاكم وتفرده باتخاذ القرار … فالناس ينتجون وجودهم الاجتماعي و أشكال السلطة التي تسود علاقاتهم .. وعملية الإنتاج هذه لها تاريخ و هي خاضعة لمنطق و لقوانين موضوعية و ظروف ذاتية محددة …

إن قسوة الاستبداد السياسي الذي مارسه النظام السوري منذ أيام حافظ الأسد و التي تتجسد بمحاصرة الحريات و كبت نزعة الإنسان الطبيعية في التعبير عن ذاته و قمع حرية التفكير و الكلام و بالتالي ملكة النقد التي تميز الانسان من حيث هو إنسان عاقل وإجباره على الطاعة الكاملة للسلطة و الإخضاع النفسي من الداخل والخضوع العاجز لآليات السيطرة و التحكم وغيرها الكثير من أشكال القهر و العبودية … إن هذا الاستبداد الذي أدى إلى تفاقم التناقضات داخل المجتمع و الفرد و إلى حالة اغتراب الفرد عن نفسه وعن مجتمعه و الشعور بالعجز من تغيير الاثنين خوفا من زيادة استبداد العنف و القوة والضغط الاقتصادي و التضييق على سلوك و تفكير الفرد … إن التغييب و التهميش المستمر و المدروس لإنسانية و استقلالية المواطن السوري من خلال عدم السماح له في المشاركة في تقرير مصيرو سياسة البلد و انتهاك انسانيته بكل وسائل الاذلال الممكنة اذا فكر أن يعبر عن ذاته في نقد أي أمر له علاقة بشكل السلطة أو ممارساتها و إلغاء حقه في العمل الحزبي أو الاعلامي أو القضائي الحرو اختزال دوره في بناء مجتمعه إلى مستويات تحددها له السلطة و تفرض عليه أين و كيف و متى يستطيع أن يتحرك بحرية أي باختصارإن جعله مفعولا به في مجتمعه لا فاعلا فيه يؤدي بالضرورة إلى الأزمة … فحينما لا يكون الواقع الاقتصادي و السياسي و الاجتماعي عادلا في الحدود الدنيا أي حينما تذهب معظم ثروة البلاد إلى الفئة التي تحكم البلاد والأخرى التي ترتبط مصالحها بوجود هذه السلطة و حينما تحتكر هذه الفئة القرار السياسي و تحديد مصير البلاد في الداخل و الخارج و حينما لايكون المواطنون متساوون أمام القانون على أرض الواقع و يتم التمييز بين الكردي و العربي بين المسلم و المسيحي بين السني و الشيعي بين البعثي و كل ماسواه بين المؤيد و المعارض أو المحايد  وحينما يصبح الحاكم مقدسا لايمسه لا المطهرون و لا غيرهم و يتحول شكل السلطة إلى السلطة المحضة و يصبح كل شيئ بأمر من الأسد و الأسد يحل في كل مكان و انسان حينها لابد لهذا الواقع المتناقض أن ينتج أزماته وبنفس الوقت الحلول الممكنة لها … و هذا قانون خضعت له كل المجتمعات الإنسانية عبر التاريخ …

  ـ علينا فقط أن نقرأ التاريخ ـ  فالتناقضات التي أفرزها واقع الاستبداد السياسي في سوريا منذ أكثر من أربعين عاما و تفاقم هذه التناقضات و ازدياد عذابات المواطن و القهر السياسي أنتجت معها إمكانيات التحرر من هذا الواقع .. فمن داخل قمقم عبوديته تفجرت قدرات الشعب السوري لتحرير ذاته عندما بدأ بوعيها و بدأ ينتفض في وجه سلطة السيد ليتحرر من سيادته و ينتقل إلى سيادة ذاته … وهكذا بدأ الفعل الثوري .. و بدأ معه صراع الوجود الضروري من أجل الاعتراف … اعتراف النظام السوري بأن هناك شعب سلبت حقوقه و حرياته و كرامته و حاجته للكلام أي النقد و أن هذا الشعب يريد استرداد ماسلب منه بالاعتراف … طبعا ليس الاعتراف بالمعنى السطحي للكلمة أي ليس بالتصريحات البيانية و الكلامية … و إنما الاعتراف الدي يترتب عليه تبعات حقيقية لواقع جديد …

في هذه اللحظة التي تبحث فيها الذات أي الارادة الشعبية في سوريا عن الاعتراف و التحرر … يحدث الاصطدام الدموي العنيف بجدار السلطة الحديدي … فنظام “حافظ بشارالأسد” الذي أصبح وجوده مهددا بشكل غير مسبوق أخذ يستميت بالدفاع عن وجوده بطريقة هيستيرية … حيث يحاول بقوة دفع ممانعة عبر آليات نفي الآخر بقتله و تعذيبه و اعتقاله و تهجيره أن يوقف حركة التاريخ و أن يغير جهة حركتها … يحاول إعادة التاريخ إلى الوراء بكل عزمه أي بالعصي و الرصاص و الدبابات و التنكيل و القمع الرهيب … متسلحا بشيئ من أمل يائس و بقسوته و طغيانه لاستعادة قدرته على ترويض كل شيئ في البلاد ترويض الانسان والحيوان و الشجر و الحجر كما كان عليه عهد بدأ يمضي …

هذه المحاولات المستميتة من نظام “حافظ بشار الأسد” في دفع حركة التاريخ إلى الوراء هي تماما مايناقض منطق العلاقة الجدلية بين السيد والعبد لأن هذه الاستماتة في إلغاء إرادة الشعب تعني إنكارالنظام لوجود هذا الشعب فإرادة الشعب و مطالبه في الحرية و الكرامة و الاستقلال أصبحت مرتبطة في كينونة الشعب نفسها لأنه بدأ يعي ذاته .. وإنكار هذا عبر القتل و التعذيب و الاستبداد يعني أن النظام بدأ يحفر قبره بيده كما يقال بالمثل الشعبي فالنظام الذي كان سيدا حتى الآن يحتاج لشعب مستعبد حتى يعترف به كسيد… عندما يبدأ الشعب بوعي ذاته و تحريرها من العبودية تنتهي شرعية السيد و عندما يلجأ نظام “حافظ بشارالأسد” السيد بإنكار الآخر إنكارا شبه مطلق من خلال نفي الشعب عبر قتله و مصادرة حريته بزجه بالسجون و تعذيبه يعني أنه ينكرذاته كحاكم و شرعيته كسيد ولأنه بذلك ينفي وجود وإرادة من هو شرط لتحقيق سيادته… فإنكار إرادة الشعب يعني إذا نفي إنسانيته و حقه في الحياة الحرة الكريمة…

 إن الأزمة التي تمر بها سوريا أثرت على الحياة الاقتصادية و السياسية و التعليم و السياحة و على مجالات أخرى في البلاد لايمكن أبدا إنكارها و نظام بشار الأسد الحاكم اليوم غير قادرعلى ضبط هذه المستجدات مع أن ذلك أحد أهم وظائف الدولة و لأن هذا النظام لايمكن له إلا أن ينضح بما فيه فهو عازم على الاستمرار في الإنكار وعدم الاعتراف بعجزه عن إدارة البلاد وبحق الشعب بالتحرر من قيود عبوديته عبرظاهرة العنف المسلح ذات الطابع الشبيحي أو العسكري ومن خلال ممارسة عنف الترويض و التزوير و التعالي على عقلية الشعب السوري عبر الاعلام الرسمي … فهاهو يصدر قانونا بمنع التجمع و التظاهر في الشوارع و اعتبار التظاهر حالة شغب سوف يعاقب عليها المواطن بدفع غرامة مالية و بالاعتقال … إن صدور مثل هذا القانون في لحظة غليان الشارع و نضج الحراك الثوري فيه و إصراره على إسقاط النظام أمر يصعب استيعابه … فكيف يمكن لهذا النظام أن يتصور أن بعد كل مااقترفته يداه من سفك الدماء و إدمان القتل و الاعتقال التعسفي و التعذيب المنهجي و انتهاك البيوت و الممتلكات و التهجير المفروض و الهدر النرجسي لقيمة و كرامة المواطن السوري كيف يمكن لهذا النظام بعد هذا الصمود الاسطوري لهدا الشعب أن يصدر قانون منع التجمع أو التظاهر… كيف يمكن أن يقف على أطلال عقلية الأمن في الثمانينات و مابعدها بعد أن بدأ الشعب السوري يعي ذاته و بدأ يشم رائحة الحرية المختلطة برائحة الدم … إنه مرة أخرى الإنكار الذي يحمي النظام نفسه فيه و الذي لايمكن له مهما زاد فيه و أمعن أن يستطيع إلغاء الآخر لأن الحقيقة هي أن الآخر موجود و موجود بقوة و الحقيقة أن هذا الآخر الذي هو الشعب لايتوقف عن الاندفاع نحو الأمام باتجاه حركة التاريخ فهوأي الشعب المحيط و النظام اليابسة … هذه ليست سفسطة و لاعملية حسابية هذا هوالتاريخ و هذه هي الثورة … و هذه هي جدلية العلاقة بين السيد والعبد …

نظام “حافظ بشارالأسد” لن يكون قادرا على التصدي لإعصار لحظة التغيير التاريخية لأن موضوعية وجوده تكمن في اعتراف الشعب به على الأقل بالرضوخ له و هذا ماتجاوزه الشعب السوري … إمكانيات هدا النظام أصبحت محدودة و هو يمارسها بشكل يومي مثل وحش متوحش لايعي مادا يفعل و مادا تقترف أنيابه … إنه يقاوم جرعات الموت الأخيرة فيحاول مقاومة موته بتمويت الشعب … يقاوم الموت بالموت و الانكار بالانكار .. و لعله يموت قريبا …

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. عفوا للأخطاء الكتابية … أعيد الرد
    شكرا على هذا التحليل للعلاقة بين الشعب والسلطة … ولكنني أذكر أن الطرق التي يمارسها النظام السوري المتوحش من التنكيل والتعذيب والاهانة والاستعباد والأهم من كل هذا الضغط على النشطاء عبر اعتقال وتعذيب واهانة آبائهم أو أطفالهم أو نسائهم أو إخوتها قد يعيد الشعب السوري إلى المربع الأول الذي تقول الدكتورة هدى أنه قد خرج منه إلى غير رجعة وفقا لحتمية الصيرورة التاريخية … قد يعود الشعب السوري مرغما إلى الاعتراف بالنظام كسيد وقد نحتاج عندها إلى دورة تاريخية جديدة حتى نتنفس هواء الحرية إذا لم يتلقف المعارضون والمثقفون السوريون هذه اللحظة التاريخية بشكل يتناسب مع حجم التضحيات الضخمة التي يقدمها سوريو الداخل …
    نعم للتاريخ حتمية تفرض نفسها ” وللارادة الالهية حكمة تقضي بوجود نهاية للظلم كما يقول الاسلاميون ” ولكن هذه الحتمية التاريخية والارادة الالهية هي أيضا وحدها من تحدد اللحظة المناسبة لحصول هذا التغيير … القضية هي : هل سيتحقق هذا التغيير بأيدينا نحن وبتخطيط من عقول مفكرينا وبحركة فاعلة من نشطاؤنا نحن أم أننا سننتظر طويلا حتى يجود علينا التاريخ بحتميته …
    نحن بحاجة حقيقية لتدخل خارجي بطريقة ما ( كالحظر الجوي وقصف بعض المواقع الأمنية …. ) وهذا ما يجب أن تدفع إليه المعارضة اليوم .. وعندها فقط سنصنع بأيدينا الفجوة التي تنفذ منها الحتمية التاريخية وننعم بنتائجها …

اترك رداً على كمال كامل إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى