صفحات العالم

النظام السوري بين المخرج العربي والتدويل

  رضوان السيد

كان دأب النظام السوري منذ الثمانينات من القرن الماضي الاعتماد في استقراره واستمراره على الرضا الأميركي والدعم الإيراني. وبالرضا الأميركي كان يستغني عن الحذر تجاه إسرائيل وينال تكليفات في مناطق مختلفة، وبالدعم الإيراني كان يظهر بمظهر الدولة المُمانعة، والحامية للأقليات الشيعية ومصالحها بالعراق ولبنان، وأحيانا في الخليج أيضا. وفي أواخر الثمانينات ومطالع التسعينات، ومع انكفاء مصر، وتضاؤل التأثير العراقي، اضطرت المملكة العربية السعودية إلى الاعتراف بالنظام السوري وكيلا في منطقة غرب الفرات، ونِدَّا في المبادرات العربية للتصدي للأزمات، واجتراح الحلول.

واستنادا إلى هذه المعادلة بذل الرئيس حافظ الأسد – ورغم اشتداد مرضه – في سنواته الأخيرة، جهودا هائلةً لتوريث ابنه بشار فوائد هذه المعادلة: الأميركان للرضا واستمرار التكليفات، والسعودية ومصر للشرعية العربية المهمة من جانبهما، وإيران للتمكين من الجهة المادية واستمرار دعم الاحتجاجات الشيعية في لبنان والعراق. بيد أنّ بشارا الذي ورث الحكم ما ورث التقدير السليم للإمكانيات والقدرات. وللإنصاف فإنّ متغيراتٍ عاصفةَ حصلت عشية وفاة الأسد الأب وبعدها، فما أمكن للابن أيضا أن يتخذ من نموذج والده مثالا للسلوك في الأزمات. وهكذا ونحو عام 2005 ما كان قد بقي من سياسات الأب غير: تجنُّب الأزمات مع إسرائيل، والدخول في تحالُف استراتيجي عَلَني مع إيران. وفي ذلك الوقت كان السعوديون قد سحبوا سفيرهم من سوريا، كما كان الأميركيون قد وجَّهوا إنذارات للأسد الابن تلاها سحبُ السفير الأميركي أيضا، وما عاد إلى دمشق سفير أميركي لنحو السنوات الست، ثم ها هو قد انسحب الآن من جديد! وإذا كان السفير الأميركي السابق قد انسحب عام 2004 للشكوى من التدخل السوري في العراق المحتلّ، وفي لبنان المضطرب؛ فإنه انسحب هذه المرة لتدخُّله هو – أي السفير – في أحداث الربيع العربي الجاري في سوريا.

ومن الطريف وذي الدلالة أنّ مشكلات سوريا السابقة مع النظامين الدولي والعربي كانت ناجمةً عن التدخُّل السوري هنا وهناك، في حين تبدو مشكلاته الحالية ناجمةً عن اتهامه للجوار العربي وللنظام الدولي بالتدخل في سوريا! وهذه هي الفائدةُ الأُولى من أحداث الربيع. ذلك أنّ نظام الأب والابن كان عامل اضطرابٍ بالمنطقة، ودائما من أجل المطامح والمطامع، واقتناص أدوار يبيعها بعد ذلك أو خلاله للأميركيين أو الإيرانيين أو حتّى الإسرائيليين، ويبتزّ بها العرب من سعوديين وفلسطينيين ولبنانيين. فهو ما كان يتلقّى أُعطياتٍ عربية سياسية أو مادية، لأنه أنجز للعرب هذا الأمر أو ذاك، بل لأنه هدَّد بتفّرقة كلمة الفلسطينيين أو قتْل اللبنانيين أو تعميق جراح العراقيين.. إلخ.

ما حسب النظام السوري بعد ثورة الشعب عليه حسابا للعرب. وهو قال ولا يزال يقول إنّ الاضطراب الشعبي عليه يقوم به مندسّون وإرهابيون عرب مُرسَلون من دولٍ عدة، داخلة في «المؤامرة» الدولية عليه. وهكذا فإنه لا يزال يخاطب الدوليين، أو الأميركيين، وعند الضرورة يخاطب إسرائيل. فقد أخبر الإسرائيليين عبر قريبه رامي مخلوف في بدايات الربيع السوري، أنّ أمنَهم مرتبطٌ بأمنه، وأنه إذا سقط نظامه، فلن يأمنَ الإسرائيليون من بعد. وعاد قبل أيام – مباشرةً هذه المرة – لتهديد العالم كُلّه؛ بأنّ سوريا هي صَدْعٌ زلزالي، وتقسيمها سوف يقسّم المنطقة كلّها. ولا حاجة للردّ على هذه الرؤى النشورية، رؤى أمارات القيامة. فالشعب السوري الثائر لا يريد تقسيم وطنه، والأميركيون أيضا لا يريدون تقسيم سوريا أو حتى التدخل فيها كما يقولون. ونحن العرب نعرف النظام السوري من جهة، وهو الذي قسّم سوريا طائفيا وإثنيا وأمنيا، كما نعرف الولايات المتحدة وحلولها الديمقراطية بالعراق! ما أردْناه من وراء إيراد هُواسات الرئيس الأسد الجديدة، أنه لا يزال يخاطب الولايات المتحدة ولا يخاطب العرب! فقد اجتمع العرب قبل شهرين ونيّف ووجَّهوا تحذيرا للنظام السوري، ودعَوهُ لمحاورة المحتجيّن وممثليهم. وأجابهم الرئيس عبر وسائل إعلامه التي ينطق فيها بنُصرته بعض اللبنانيين بأنهم لا يقدرون على شيء، وأنهم لا يرقون إلى رتبة المتآمرين، بل هم أدواتٌ تستعمل ضدَّ نظام الممانعة العَصي على الإسقاط! بيد أنّ هؤلاء العَجَزة والأدوات عادوا فاحتجوا بالجامعة العربية، وعادوا فوجَّهوا إنذارا إلى نظام الممانعة بإيقاف العنف والقتل والعبور إلى الحوار. وبدأ الأسد يشتم العرب من جديد، ثم توقف فجأةً، وقرر الاستماع إليهم، وذلك لسببين: مقتل القذافي بهذه الطريقة الشنيعة، وإلحاح أنصاره من الروس والصينيين عليه أن يقبل المبادرة العربية. وبعد جولتين من المحادثات بدمشق والدوحة، اجتمعت الجامعة العربية (الأربعاء 3/11/2011) على مشارف انقضاء مُهْلة الأسبوعين للنظر في إمكان التوصل إلى اتفاق مع النظام السوري على أساس وقْف العنف وبدء الحوار، أو الذهاب إلى اتخاذ إجراءاتٍ ضدَّه.

ما أراه هو أنّ الذي حصل ويحصل لن يُنهي العنف، كما لن يؤدّي إلى اتخاذ إجراءات. فبعد ثمانية أشهُرٍ من العنف العنيف ومن القتل الذريع، لن يدخل العقل إلى رأس النظام أو أطرافه فضلا عن قيم حقوق الإنسان وحرياته. وإنما يريد النظام التظاهُر باحترام إرادة الروس والصينيين من طريق الدخول في لعبة مع العرب ومع المعارضين السوريين، بحيث تشيع الخلافات بين المعارضين في مَنْ يقبل التفاوُض مع النظام وَمَنْ لا يقبلُه، وبحيث تظهر خلافات بين أعضاء اللجنة الوزارية العربية، في مَنْ يرى أنّ النظام السوري معقول بينما المعارضون غير معقولين، فضلا عن تفرّقهم وتشرْذمهم. وهذا يُكسبهُ وقتا من وجهة نظره، وقد يدبُّ اليأسُ في نفوس المتظاهرين تحت وطأة القتل والاعتقال والتهجير والتجويع، وفقد الأمل بتدخُّلٍ دولي لحمايتهم من طريق قرارٍ في مجلس الأمن.

هذه المقاصد من وراء المهادنة المفاجئة والظاهرة للعرب ومبادراتهم، واضحةٌ للمعارضين بالداخل والخارج. وهي تستلزم تكتيكاتٍ تُفِشلُ تلك الغايات والمقاصد. فالنظام السوري ما احترم أبدا شعبه وإرادته، ولا احترم العرب ونواياهم الحَسَنة. وحتّى أصدقاؤه الأتراك استنصر عليهم بالإيرانيين حتى كادت العلاقات تتوتر بين القطبين الإسلاميَّين الكبيرين. فهو شأن أبيه عاد لدعم حزب العمال الكردستاني في إغاراته داخل تركيا، وتسبّب بقطع العلاقات بين البلدين عمليا. وقد برئ الإيرانيون لدى الأتراك من ذلك وصرَّحوا بالأمر عَلَنا. فالمشكلة في هذا النظام أنه ما انتبه منذ أكثر من سنتين إلى التغيير الاستراتيجي الجديد بالمنطقة، سواء على مستوى تغيُّر سياسات الولايات المتحدة، أو على مستوى أحداث الربيع العربي.

لا يستطيع المعارضون، وليس من الحكمة الإعراض عن الحوار على برنامجٍ للإصلاح مع النظام بالجامعة العربية. وبالطبع لن يتفقوا مع النظام على تزمين البرنامج، وعلى مَنْ ينفذه. لكنهم يملكون أن يضعوا شرطا لكلّ شيء: وقف العنف، وسحب الجيش وقوى الأمن من شوارع المدن والبلدات. واستطرادا لن ينفّذ النظام السوري ذلك أيضا. لكنْ من المفيد الإصرار على عدم الدخول في الحوار إلاّ بعد وقْف العنف بتاتا، وترك الناس يتظاهرون. ولن تستمر المماحكات لأكثر من أسبوع ثم يعود النظام السوري إلى سابق عهده في إنكار العرب، والإنكار عليهم، وشكواهم إلى الصينيين والروس، وإلى الأميركيين والأوروبيين أيضا، إنما أولا وقبل كل أحد إلى الإيرانيين الذين سوف يستدعيهم هم وزعيم حزب الله وآخرون من العراق وربما من الجزيرة العربية، لوضع استراتيجية مُضادّة تعتمد التهديد بالحرب.

هناك مستجدّان يجعلان النظام السوري من مخلَّفات الماضي: ثورة الشعب العربي والشعب السوري من أجل التغيير في الجمهوريات الوراثية الخالدة، وفقد النظام في سوريا للسماحات والتكليفات. والخيارات أمام النظام متعددة إنما لها نهاية واحدة: مصير بن علي، أو مصير مبارك، أو مصير القذافي!

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى