صفحات العالم

النظام السوري: عناصر القوة والضعف


محمد خليفة

بعد تصاعد الجدال والتقويم لخطوة مجلس التعاون الخليجي بالدخول على خط الأزمة السوريّة، واحتدام النقاش في أروقة جامعة الدول العربية على مستوى وزراء الخارجية أخيراً، بين الرؤيتين القطرية والسوريّة، يبدو تسجيل النقاط الهم الأبرز من أجل تظهير الحلول المقترحة للأزمة. لدينا الرؤية القطرية ودعوتها المبطنة إلى رحيل النظام في سوريا، وتجاهل حتى الإشارة إلى الضحايا العسكريين، وفي الجهة المقابلة، لدينا محاولة سوريا وضع بعض المقترحات الهادفة إلى تقديم خطة شاملة للإصلاح في الدول العربية وجامعتها، والغمز من القناة القطرية ومن خلفها الدول الخليجية. دول تفتقر إلى أدنى مقومات الديموقراطية والمشاركة السياسية، التي لا أثر لها في دساتيرها، وإن تضمنتها، فهي عناوين فضفاضة، لا وجود لها في أرض الواقع.

يحتدم الصراع، إذاً، داخل الجامعة التي مهما حاولت تلميع صورتها، تبقى أعجز من أن تفرض أو تصوغ حلولاً للثورات والأزمات المتنقلة، من قطر عربي إلى آخر، إذ لا تسمح موازين القوى للجامعة بأن تؤدي ذلك الدور، نتيجة تفويض الأمر إلى جهات دولية، تملك خططاً للحلول وحتى للبناء والإعمار. والنموذج الليبي واضح في ذلك المجال، إذ عقدت مؤتمرات الدول المانحة لإعادة إعمار ليبيا، والحرب كانت مستعرة ومعركة سقوط النظام لم تكن قد حُسمت. وما الخلافات داخل حلف الناتو واعتراضات بعض الدول، إلا دليل على الأطماع بتقاسم الحصص والمغانم، في بلد غني بثروته النفطية والغازية. ولم يعد خافياً على أحد أنّ النموذج الليبي تكرار واستنساخ للنموذج العراقي الذي سبقه، إذ أُعدت خطط إعادة إعمار العراق مع خطط احتلاله، وجرى تلزيم الشركات الأميركية والبريطانية من أجل تلك المهمة، قبل سقوط نظام صدام حسين.

ماذا يعني ذلك؟ يعني أنّ الدول الخليجية، وعلى رأسها السعودية، ومن ورائها قناتا العربية والجزيرة القطرية، تحاول أن تدخل على خط الأزمة السورية تماشياً مع المواقف الأميركية، التي إما حسمت خيارها وقررت الاستغناء عن خدمات آل الأسد، واستبدال النظام السوري بنظام لا يعرقل خططها في منطقة الشرق الأوسط، وإما أنّ واشنطن تحاول إيصال الأمور إلى حافة الهاوية، لكنّها تدرك أنّ النظام السوري يتقن اللعبة جيداً، وقد يتنازل في اللحظة الأخيرة ويقدم تسهيلات عدّة في قضايا خارجية، لها علاقة وثيقة بالعراق، وحساسة في إيران وحيوية في لبنان.

إذ تحاول دول مجلس التعاون الخليجي الالتحاق بالركب الأميركي، لتحافظ على بقاء حكامها في السلطة، ومنع المد الثوري عن دولها، واللحاق بالدور التركي، والجري ولو في الفراغ، بحثاً عن دور خليجي، وتحديداً سعودي، لتعويض الحليف المصري، الذي سقط نظامه المتماهي مع الأنظمة الخليجية. تقوم السعودية بذلك لوقف المد الشيعي، والوقوف بوجه التأثيرات الإيرانية في دول الخليج، وكذلك من أجل عدم التسليم النهائي لتركيا بالتحكم في مصير السنّة في المنطقة. وذلك خاصة في ظل الخطاب الأردوغاني، الذي يحاول استمالة الرأي العام العربي والإسلامي عبر البوابة الإسرائيلية، وتشديد الموقف مع تل أبيب.

أمام تلك الوقائع تبدو صورة النظام السوري في وضع مشوّش وحرج. فقد تخلى الأتراك عن النظام، بعد علاقات ممتازة معه، وابتعدت السعودية عنه، وهي لوقت قريب كانت تشاركه في العديد من القضايا، وتحاول بناء قاعدة متينة يجري التفاهم عبرها لمعالجة مشاكل تتعرض لها بعض الدول، بينها لبنان والعراق. وأخيراً، غادر اللاعب القطري ساحة الأمويين وأدار الظهر لنظام بشار الأسد عبر التصريحات الخطيرة لأمير قطر بأنّ الشعب السوري لن يتوقف عن مواصلة ثورته من أجل التغيير، وجرى نسيان التقارب السوري ـــــ القطري الذي أنتج اتفاق الدوحة في 2008.

لكن تلك الصورة تقابلها صورة أخرى، تحدث توازناً قوياً لمصلحة نظام الأسد، وهي صورة تحمل في طياتها ملامح ومؤشرات داخلية، ودلالات ومواقف خارجية، تدل على أنّ النظام السوري يملك أوراقاً تساعده على البقاء، وتجعله مطمئناً إلى مجريات الأحداث رغم خطورتها.

أما بالنسبة إلى المؤشرات الداخلية، فأهمها الحركة شبه الطبيعية للعاصمة دمشق، وعدم تأثير الاحتجاجات في سير مرافق الدولة، ومواصلة الملاحة الجوية والبحرية عملها، وإن كانت الحركة البرية قد تراجعت بسبب الأحداث الجارية، وخاصة في بعض المناطق المتاخمة للحدود مع الأردن وتركيا ولبنان. إلى جانب ذلك، يستمر تماسك الأجهزة الأمنية، وعلى رأسها الجيش، إذ لم تحصل انشقاقات كبيرة في صفوفه، كما كان متوقعاً من بعض الدول، وظلّت القيادة العسكرية ممسوكة وخاضعة للقيادة السياسية (بالرغم مما يشاع عن احتكار القرار العسكري من قبل ماهر الأسد شقيق الرئيس)، ومؤتمرة بأمرها وتنفذ سياساتها. سياسات جاءت قاسية في بعض المدن، وأوقعت أعداداً كبيرة من الضحايا في صفوف المدنيين، وتركت ندوباً في جسم المجتمع السوري لن تندمل بسهولة، بل تحتاج إلى وقت طويل لاسترجاع الثقة بين المتضررين وأهل النظام، في حال بقائه. نظام يلزمه عمل جبار لإعادة اللحمة الوطنية إلى الشعب السوري.

ومن نقاط القوة التي يمتلكها النظام الحالي، تماسك الجسم الدبلوماسي الخارجي، الذي ظلّ ينفذ تعليمات وزير الخارجية، ولم تسجل استقالات تذكر لدبلوماسيين سوريين، مع أنّ خطوات كهذه لا تمثل خطراً على أصحابها الموجودين خارج سوريا، الذين قد يجدون تسهيلات مغرية للإقدام على أمر مماثل، وخاصة في بعض الدول الداعية إلى إسقاط النظام ورحيله.

ونظرة سريعة الى الثورتين المصرية والتونسية تدلل على الأهمية التي اكتسبتها الجماهير الشعبية وتحركها في العاصمتين، وحصول تململ في الجيشين في تنفيذ أوامر السلطات التي كانت قائمة، مما أطبق الخناق على الرئيسين زين العابدين بن علي وحسني مبارك، وعجل في سقوطهما.

هذا بالنسبة إلى الأوراق الداخلية التي يمسك بها النظام السوري، رغم هيبته التي تزعزعت بقيام قسم كبير من الشعب بمعارضته والدعوة الصريحة إلى إسقاط الرئيس والمطالبة بإعدامه أخيراً.

أما بالنسبة إلى نقاط القوة الخارجية، فتتجلى في الموقف الروسي المعارض لأيّ قرار بالتدخل العسكري أو تشديد العقوبات ضد النظام السوري. فلروسيا عمق استراتيجي في سوريا، يبقيها على تماس مع دول الشرق الأوسط، وهي لا تريد ترك الساحة للأميركي منفرداً، يقرر ويهدد المصالح الروسية في المنطقة. وتطوّر الموقف الروسي بالوقوف مع نظام الأسد، وخاصة بعد نشر نظام الدرع الصاروخي لحلف الناتو في تركيا. ويوجد كذلك، موقف الصين، الذي لا يزال متردداً في السير وراء الصوت الأميركي في مجلس الأمن.

ماذا عن الموقف الإيراني؟ أكدت معظم المصادر والتحليلات أنّ المرشد الأعلى للثورة الإيرانية والسلطات العليا في إيران، حسمت أمرها، وقررت الوقوف إلى جانب النظام السوري ومساعدته بكافة الوسائل المادية والسياسية. وتسربت مواقف في غاية الخطورة، رأت أنّ النظام خط أحمر، وممنوع أن يسقط، لأنّه يمثل رئة لإيران تتنفس منها هواء المنطقة الساخنة. وسقوط النظام السوري يعني انهيار شريك استراتيجي، يمثّل ضمانة للمصالح الإيرانية، التي تبدأ بلبنان وفلسطين ولا تنتهي في العراق.

وكما رأت تركيا أنّ ما يحصل في سوريا شأن داخلي تركي، ردّت عليها إيران بأنّ سقوط النظام السوري ضربة موجعة لإيران، قبل أن تكون مدمرة لسوريا. أوجد ذلك توازناً بين تركيا وإيران، اللتان تتنافسان على أداء دور وازن في المنطقة.

إضافة إلى الورقة الإيرانية التي يحملها النظام السوري، هناك ورقة حزب الله في لبنان. يمكن الحزب أن يقلب المعادلة، عندما يشعر بالخطر الداهم الذي يهدد وجوده، لأنّ سقوط نظام بشار الأسد يعني تجفيف منابع الإمداد العسكري للحزب، مما يضعفه على المدى الطويل، رغم ما يشاع عن أنّ لديه مخزوناً هائلاً من السلاح. وفي حال سقوط خط الدفاع الأخير عن المقاومة، الذي تمثله سوريا، سيؤثر ذلك في مستويين. الأول، انهيار خطوط الإمداد العسكري عن الحزب، والثاني، افتقاد الملجأ الآمن لقيادة الحزب في حال تعرض لبنان لحرب إسرائيلية. ونظرة ثاقبة لهذين المستويين تكفي لإدراك أسباب عدم انتصار إسرائيل في حرب تموز 2006، إذ لم تقصر سوريا في تأمين الإمداد العسكري، وفتح أبوابها للنازحين من المناطق اللبنانية، وخاصة من الجنوب والبقاع، لتمثل لهم حاضنة وتمنع استغلال نزوحهم لإضعاف المقاومة.

إذاً الصراع محتدم والأزمة السورية غير محصورة في دائرتها الجغرافية، بل هي، بتوصيف أدق، أزمة المنطقة برمتها، وعلى ضوء نتائجها ستقوم أحلاف جديدة وتسقط أخرى قديمة، وتزول ثالثة كانت قيد البناء، كما ربما سيجري التأسيس لمنظومة إقليمية أمنية، يكون على رأسها من انتصر في تلك الحرب الضروس، التي قد لا يستخدم فيها الكثير من السلاح.

سوريا محاصَرة ومحاصِرة، مُحرجة في مكان، وقوية في أمكنة، لكن من الإنصاف القول، إنّ أحداً لا يمكنه التنبؤ كيف ستنتهي الأزمة، ومن سيخرج حياً من تلك المعركة، ومن سيسقط.

* باحث في العلاقات الدولية

الأخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى