صفحات الناسعمار المأمون

النظام السوري مُخرّباً للـ “حياة”/ عمّار المأمون

 

 

افتتح النظام السوري أخيراً قناة تلفزيونيّة رسميّة، باسم “إعمار سوريا”، بوصفها “وساطة عقاريّة” تتيح فُرصاً استثماريّة، لإعادة تكوين الخراب الذي سببه، وتدّعي القناةّ بأنها “تنير الدرب لأبناء المدن السورية المهجرين والنازحين”، وتعرض لهم “أمثل الطرق للعودة إلى مدنهم، والفرص الاستثمارية الموجودة التي من شأنها أن تعيد الحياة إلى تلك المدن”،قبل ذلك، عام 2013، أقرّ النظام السوريّ، السياسات التنفيذية لإعادة الإعمار، والضرائب المرتبطة بها، كـطابع إعادة الإعمار، أحد أشكال المساهمة الشعبيّة غير المباشرة في “بناء البلاد”.

الممارسات الثقافيّة السابقة، هي الوجه الآخر للعنف الذي يمارسه النظام السوريّ وحلفاؤه، أو ما يسمى العنف التأسيسي، المرتبط بـ”بناء الدولة”، وإعادة تكوين مساحاتها الجغرافيّة، من أجل إنتاج شروط “الحياة الطبيعيّة”، عبر تهجير وقتل من يهدد هذه الشروط. فالنظام وكأي سيادة، يرى أن مهمته احتواء المكان والزمان وتكوينهما، وتقنين تدفق الأفراد، وهذا حدث مع ريف دمشق في المعضمية وداريا سابقاً، والغوطة حالياً، والتي زارها بشار الأسد أخيراً، كما رأينا في فيديو نشرته رئاسة الجمهوريّة السوريّة، إذ نراه يقود سيارته بين الخاضعين بصمت له، متجهاً نحو المناطق “المحررّة”.

مركزيّة الموت

تقنيات العنف، التي تسعى إلى إعادة تكوين شروط الحياة الإنسانيّة، تندرج تحت سياسات الموت أو الفناء necro-politics، والتي تحدد عبرها السيادة شروط “حياة” و”موت” الخاضعين لها، وأبرز أماكن ممارسة هذه السياسات، هي المستعمرات، ومخيمات اللجوء، ومباني الانتظار في المطار، وسجن غوانتانمو، وسجن أبو غريب، بوصفها مساحات استثناء، يخضع الفرد ضمنها، لعنف السيادة المباشر، في ظل غياب القانون الفعّال ووحشية السلطة، وهذا مشابه لمناطق سيطرة النظام السوريّ، إذ يحولها إلى احتمالات للاستثناء، تنحصر خيارات قاطنيها بالطاعة أو الموت.

يقف الأفراد في ظل الاستثناء على الهامش، بين القانون والعنف المباشر، هذه الوضعيّة تسمّى الحياة الصرفة وفق جورجيو أغمبين، ويكون فيها الأفراد مجرد لحم قابل للإفناء، هم ليسوا موضوعات قانونيّة، بل استثناءات مهددة بالاختفاء، بوصفهم أعداء محتملين للسيادة، وقتلهم ليس بجريمة من وجهة نظر السلطة. وفي حالة سوريا، لا يقتصر الاستثناء على أقبيّة أفرُع الأمن، حيث تحمي السيادة من يمارس القتل، بل ينسحب ذلك على الفضاء العام أيضاً، فالعاصمة دمشق مثلاً، أقرب لفضاء من اللاحسم، في لحظة ما، يمكن لفرد أن يتعرض للعنف الجسديّ، كون مفاهيم مخالفة القانون غامضة. الأمر أشبه بالحياة في المستعمرات، فالحواجز في مدينة دمشق يبلغ عددها تقريباً 280 حاجزاً، وقائمة منذ بدايات الثورة، بوصفها نقاطاً للاعتقالات العشوائيّة، تتحكم بالتدفق البشريّ، وتعيد تكوين فضاء المدينة عدوانياً. كما تحضر في المدينة مظاهر العنف المرتجل، الموجه ضد الأفراد من قبل ممثلي السيادة من دون تهم “قانونيّة”. هذا العنف العشوائيّ تمارسه أجهزة كاللجان الشعبيّة والقوات المسلحة الرديفة، ما يجعل الأفراد أشبه بـ”لحم بشريّ”، خاضعين بصورة قصرية، ولا يعلمون متى يمكن أن يستهدف أحدهم.

تتلاعب سياسات العداوة السابقة بشروط الحياة، هي لا تجعلها مستحيلة، بل تدني من حدود استمرارها، إذ ينهمك الفرد في احتياجات الفضاء الخاص “طعام، شراب، مأوى”، فسياسات تقنين الكهرباء، المبرمجة والعلنيّة، ونظام توزيع الغذاء ودخل الأفراد، والطوابير الطويلة لشراء الخبز والغاز، هي وسائل لجعل الفرد مشغولاً بمتطلبات جسده، ما ينزع عنه الفاعلية السياسية، والقدرة على الإنتاج. هي استراتيجيات تتلاعب بالزمان والمكان لجعل الأفراد متجانسين بوصفهم أحياء وخاضعين فقط.

إنتاج الطاعة

تترك مساحات الاستثناء السابقة الفرد أشبه بفريسة، مهدداً دوماً بالغياب وخاضعاً للرقابة، وهنا تبرز استراتيجية يمارسها النظام، لا ليكتسب شرعيته المفقودة، بل لضمان الامتثال لسلطته وتكريس حضورها، وذلك عبر فرض سلسلة من أشكال الأداء العلنيّ، التي تمكن الفرد من تجنب العنف، فالفرد في الحياة الصرفة، كأنه شخصية كافكاويّة معلق على أبواب “القصر”، ولا بد له من “أداء” الطاعة، ليضمن أمنه الجسديّ، كونه ليس مواطناً، هذا الأداء، له “سكريبت” تكرّسه السلطة، ويحوي سلسلة من الرموز والتصرفات التي يمارسها الفرد كي ينجو، كالمسيرات العفويّة، وتبنيّ الرموز الوطنيّة في كل مكان، وصور بشار الأسد على الثياب وفي المحلات والسيارات، إلى جانب الالتزام بلغة معينة ترسخ سطوة النظام، كأدبيات “الأزمة”، والحفاظ على البلاد” و”تهدئة النفوس” و”المؤامرة الكونيّة”، والتي تتداول علناً، ويُفرض على الخاضعين أن يرددوها، كما في المقابلات الرسميّة التي تُجرى مع سكان دمشق أو سكان الغوطة المهجرين، بوصفهم شهوداً على “إنجازات” السلطة، ينتجون خطابها خوفاً على حياتهم.

تصل ممارسات الطاعة أحياناً حد “الغروتيسك”، كمن يضع حذاء عسكرياً على رأسه، أو كالصحافي الذي التقط صور سيلفي مع الجثث في القصر العدليّ في دمشق العام الماضي، فالطاعة، أشبه بأداء علنيّ، يمكن للشخص استعراض مهارته فيه، كما في الفيديو الذي نرى فيه فتاة ترقص على أنغام موسيقى وطنيّة تحتفي بالقائد، والمفترض على “المشاهدين” أيضاً، التواطؤ معها لإنتاج الطاعة.

تسميم العالم

يسمم النظام السوريّ فضاء الحياة، على الصعيدين الرمزيّ والماديّ، ليخلق شروط “حياة سامة” في مساحات “الأعداء”، كريف دمشق، فالأسلحة الكيماوية التي تستخدم بصورة شبه دوريّة، لا تكتفي فقط بالقتل، بل تشوّه التكوين الذري نفسه للجسد السوريّ، الآن ومستقبلاً، كالولادات المشوهة التي يشهدها السوريون ممن نجو من الأسلحة الكيماويّة، حالات التشوه السابقة، تجعل الضحايا خاضعين لشروط لا يمكن لهم فيها، سوى السعي إلى تجنب الموت، أو الحفاظ على رمق الحياة، إن قرروا البقاء ضمن سوريا، فالنظام لا ينفي الحياة أو يبيدها، بل يخرب مكونات “الأرض” و”بيولوجيا” الأفراد.

هناك أثر آخر لهذه السموم بمعناها الرمزي، فالممارسات السلطوية العنيفة، تجعل الفرد يشكك بوحدته الفيزيولوجيّة، النموذج الأشد تطرفاً، يتمثل بالشخص الذي قام أخيراً بقطع عضوه التناسلي لتجنّب الخدمة العسكريّة، لكن، هناك كثيرون غيره، من القاطنين في مساحات الاستثناء، ويمارسون أشكالاً مختلفة من التشويه الذاتيّ، لتجنب الخدمة العسكريّة، كحقن الجسد بالمازوت، أو كسر العظام، فشروط الحياة السامة التي ينتجها النظام، انعكست على موقف الشخص من “لحمه”، إذ لا بد من تحويره ليحافظ الفرد على “حياته”، كاحتجاج على السلطة التي تُسيس “جسد” الفرد، وتفترض له شكلاً محدداً، كي يكون منتجاً ضمن المؤسسة العسكريّة الإلزاميّة.

درج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى