رستم محمودصفحات سورية

النظام السوري والتسوية الإقليمية/ رستم محمود

 

 

يبدو جلياً من خلال كل المحاولات التي بُذلت لاجتراح أية تسوية للمسألة السورية بين السوريين والنظام السوري، أن النظام لم يأخذ أياً منها بجدية ونية حسنة، بل كان على الدوام يعتبرها مجرد ممارسة سياسية سطحية على هامش «معركته» الكبرى التي يخوضها. كان النظام يتقصد الإيضاح أنه من خلال انخراطه في هذه «المفاوضات» إنما يفاوض المعارضين السوريين كممثلين لقوى إقليمية ودولية، وأنه وحده يمثل «الدولة السورية» وأن المعارضة السورية «الحقيقية» ليست سوى ممثلة لمصارعي النظام السوري الإقليميين.

يتخيل هذا المنطق التسوية في شكل بالغ البساطة، وهو أن يقدم النظام السوري على تقديم جملة من التنازلات السياسية في المعادلات الإقليمية لمختلف الدول، كأن يعود لإحداث توازنات في أشكال ارتباطاته السياسية، بين إيران وتركيا وبين روسيا والولايات المتحدة، والقبول بنفوذ سعودي ومصري في الداخل اللبناني، وتخفيف الضغط على الحلفاء العراقيين لدول الخليج العربي، وأشياء شبيهة بتلك. دون أي مسّ بالمسألة السورية داخلياً. مقابل ذلك، يجب أن تقوم هذه الدول بممارسة ضغوط هائلة على القوى السياسية والمسلحة السورية، وتسليمها مصيرها ومصير السوريين لهذا النظام، دون أية حماية أو تغطية، ليعود إلى نمط سيطرته المطلقة على كل الداخل السوري.

يعي النظام السوري أنه في أزمة كبيرة، رغم كل ادعائه الجسارة والتماسك، وأنه لا يستطيع بأي شكل أن يتابع ممارسته الراهنة، فهي باتت تجرف بيئته الداعمة بقوة، وكذلك باتت السيطرة الإيرانية على مفاصل الواقع العسكري تهدد بإخفاء النظام السوري تماماً، لكنه بالمقابل يدرك أن أية تسوية سياسية حقيقية مع السوريين وفتح الحياة السياسية والعامة في البلاد، ستؤدي مباشرة للإطاحة بكل أُسسه الموضوعية وشرعيته لدى مناصريه. لذا فإنه يتقصد اجتراح «حل» ما مع القوى الإقليمية.

 

ما يستعصي على النظام السوري في هذا الاتجاه هو ثلاثة موانع مركبة، يستحال معها أية إمكانية لحدوث تلك التسوية الإقليمية:

يرتبط الأمر الأول بأن مسألة بقاء النظام السوري واستمراره بالشكل الذي كان عليه، إنما تشكل مساً مباشراً بالأمن القومي لعدد من الدول الإقليمية، بالذات لتركيا ودول الخليج العربي، لأنه يعني ببساطة التسليم لهذا النظام ومن خلفه النظام الإيراني بالاستخدام الأرعن للقوة المحضة والعنف المباشر لفرض أجندتهما السياسية، وأنه يمكن أن يحصل ذلك مستقبلاً في الكثير من الأمور الداخلية التي تمس أمن هذه الدول. لذا فإنه يستحيل لهذه الدول أن تميل للقبول بعروض النظام السوري.

من جهة أخرى فإن النظام السوري ما زال لا يعي بأنه لم يعد ذلك الطرف الإقليمي المهاب، الذي كان يسيطر على عديد من الملفات الإقليمية الفعالة، بل بات بنفسه مجرد ورقة مهترئة بيد النظام الإيراني، وأن كثيراً من الأوراق التي كانت بيده منذ عقد التسعينات وحتى بداية الأحداث في البلاد، إنما باتت متمردة على النظام نفسه وحتى أقوى منه، وفي حزب العمال الكردستاني وحركة حماس وحزب الله أمثلة عن ذلك.

أخيراً يتخيل النظام في شكل خاطئ أن العلاقة بين هذه القوى الإقليمية والأطراف السورية السياسية والعسكرية إنما هي علاقة تبعية مطلقة، مثلما كانت علاقته بكل القوى الأصغر منه أو الأكبر منه على حد سواء، لكنه لا يدرك أن هذه القوى الإقليمية إنما تسيطر في شكل جزئي ونسبي على بعض القوى السورية فحسب، لأن الأساس في ما يجري إنما يتعلق بمصير الشعب السوري وخياره المطلق بانتزاع حقه بأحداث تحول في علاقته مع سلطته الحاكمة. خير دليل على ذلك أن السوريين الذين بقوا محاصرين لشهور في كيلومترات قليلة، وتم قصفهم بكل أنواع الأسلحة، وتخلى عنهم العالم كله، لكنهم مع ذلك لم يخضعوا للشروط التي يتخيلها النظام السوري عن شكل تسويته الإقليمية.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى