إياد شربجيصفحات سورية

النظام السوري والعلاج بالصدمة


إياد شربجي *

في الأشهر الأولى للثورة السورية وتحديداً في 9 آب (أغسطس) 2011 وصل إلى دمشق أبو الديبلوماسية التركية ووزير خارجيتها أحمد داود أوغلو حاملاً في حقيبته للأسد خطةً تركية متكاملة للتعامل الرشيد مع الحراك الثوري الشعبي الذي يواجه الرئيس السوري، وتقترح الخطة – وفق ما أعلن أوغلو حينها – التعامل مع الحراك الشعبي وفق مبدأ «العلاج بالصدمة» بحيث يقدّم النظام من تلقاء نفسه مكتسبات متتالية للشارع تفوق ما كان يطالب به في التظاهرات، وبما يشبه ضربة استباقية تسقط كل مبرراته للثورة ضد نظام حكمه، وتفضي في النهاية إلى تهدئة النفوس وإعادة الأمور إلى نصابها، فيرضى الناس بالمكاسب غير المتوقّعة، ويستمر الأسد بحكمهم كقائد إصلاحي يستجيب لمطالب شعبه… بل وزيادة.

لكن الأسد وبدلاً من أن يتجاوب مع تلك الوصفة – المجرّبة تركياً – فقد رماها في وجه ضيفه، وهو ما كان واضحاً في المانشيتات التي خرجت في وسائل إعلامه في الصباح التالي والتي كانت بمعظمها تتمحور حول جمل من قبيل:

«لا يحق لتركيا التي تقمع شعبها في جنوب شرقي البلاد إعطاء دروسٍ في الديموقراطية للغير – علاج الأزمة داخلي وسورية لن تسمح لأحد بمسّ سيادتها الوطنية»، ثم ليخرج الأسد ذاته بعدها في أقل من أسبوعين في حوار مع التلفزيون السوري يوم 21 آب ليكرر العبارات ذاتها، وليصعّد لهجة خطابه حول المؤامرة والعصابات المسلحة و…

إن المتابع سلوك النظام السوري منذ 15 آذار (مارس) 2011 وحتى الآن صار يدرك أن بشار الأسد لم يرفض حينها الخطة التركية، «العلاج بالصدمة»، لأنه لم يفهمها هو، بل لأنه اعتبر أن الأتراك هم من لم يفهموها كما يجب. فبشار مقتنع بأن والده حافظ الأسد هو مخترع وصاحب براءة هذه النظرية، وهو من طبقها في شكلها الصحيح خلال تعامله مع من ثاروا ضده من شعبه ومن اللبنانيين والفلسطينيين، وهي ما أبقى الأخير محكِماً قبضته على البلاد وجوارها طيلة ثلاثة عقود. وانطلاقاً من هذه القناعة الراسخة فإن بشار سيثبت أنه ابن أبيه والمحافظ على مجده ونجاحاته، وهو لن يقبل احتمال نجاح الفهم التركي للنظرية، أمام النجاح المطلق لطريقة فهم والده إياها.

منذ بداية الثورة اعتمد النظام السوري «العلاج بالصدمة» أسلوباً عملياً في قمعها، فكلما شعر بتحقيق الثوار مكسباً ما واجهه برد فعل قوي جداً يفوق الحدث نفسه، ويصبح فيه ما كان يُعتقد مكسباً وبالاً على أصحابه.

فالمنطقة التي تخرج فيها تظاهرات كبيرة ترفع معنويات الثوار يعمد النظام وبأقصى قوة متوافرة إلى اقتحامها وتفتيتها وقمع أهلها وإذلالهم ليتحوّل ما كان انتصاراً بالأمس إلى هزيمة اليوم؛ هذا تماماً ما حصل في الجامع الأموي بدمشق عندما أصبح محرماً على الثوار بعد أول تظاهرة خرجت من هناك في 18 آذار، وانسحب الشيء نفسه على ساحات المحافظة في درعا، والعاصي في حماة، والساعة في حمص، وغيرها من ساحات الثورة التي امتلأت بمئات الألوف يوماً وهي اليوم تغصّ بالجنود والدبابات وصور القائد الرمز وشعارات الانتصار له والموت للخونة، وهو ذاته ما حدث أيضاً في بابا عمرو التي كانت مفخرة للثورة وتحدياً للأسد في قلب نظامه، فاقتحمها جيشه وأعمل فيها شتى صنوف السلاح الشرعي وغير الشرعي، ودمرها عن بكرة أبيها ونكّل بأهلها وشرّدهم، ثم قام الأسد ذاته – وعلى رغم كل الخطر – بزيارة خاطفة إلى هناك برفقة كاميرات التلفزيون فقط ليحرق قلوب الألوف الذين كانوا يهتفون ضده هناك قبل أيام فقط.

الحدث الكبير الذي حصل في دمشق وتمثل بمقتل عدد من رجالات النظام الكبار يدخل السياق ذاته تماماً، فبعد أن قضى السوريون في شكل عام والدمشقيون تحديداً نهارهم يرقصون فرحاً برحيل عدد من قاتليهم، جعل الأسد ليلهم جهنّماً، وتحولت زغاريد الصباح إلى عويل وصراخ في المساء عندما أمطر دمشق (في سابقة تاريخية وخطيرة) بوابل مجنون من قذائف الهاون والمدفعية ورصاص المروحيات طيّرت الفرح من عيونهم، وزرعت صدمة كبيرة في قلوبهم، وماذا يكون صدمةً أكبر من التجرؤ على دمشق بكل ما تعنيه هذه المدينة من قداسة رمزية وتاريخية، عدا كونها العاصمة ومعقل الأسد الأخير ومكان سكناه، وسكنى رجالات المال والأعمال الدمشقيين الذين حابوه كثيراً طيلة الفترة السابقة.

ما لم يدركه الأسد حتى الآن، أن سياسة «العلاج بالصدمة» هي تحديداً ما جعلت حفرته تزداد عمقاً وغوصاً، أو لربما هو أدرك وندم لأنه لم يأخذ بها بنسختها التركية المعدّلة التي كانت لتنجيه حينها! وسواءً أدرك أم لم يفعل، فإن الصدمة الحقيقية لبشار الأسد ستكون عندما يجد شعبه يحطم باب غرفة نومه في قصره بعد أن يتجاوز بواباته وساحاته الخارجية، وهذا تماماً ما يعنيه أن يكون الجيش الحر اليوم يقاتل بهذا العدد والضراوة في قلب دمشق التي كان يخرج فيها الملايين ليهتفوا له يوماً.

* صحافي وكاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى