صفحات العالم

النظام السوري يبرر قسوته بأهميته الاستراتيجية

 


رانية أبو زيد

ترجمة: عبد الرحمن الحسيني

يبقى الموقع، في العقارات، كما في السياسة في بعض الأحيان، كل شيء. ويعيش الرئيس السوري بشار الأسد في ضاحية جيوسياسية مفارقة جداً لسابقيه. لكنهم الآن بمثابة النظراء المخلوعين في تونس ومصر، بالإضافة إلى زعيمي ليبيا واليمن المترنحين. إنها القطعة المضطربة من الشرق الأوسط التي يقطنها خليط غير مريح من مجموعات عرقية ودينية غالباً ما تكون في حالة اهتياج. ويشكل الخوف من الفوضى العارمة وحالة عدم الاستقرار اللذين قد يفضي إليهما خلعه، الميزة الكبرى للأسد فيما هو يسابق الزمن لسحق الانتفاضة التي تشهدها بلاده منذ سبعة أسابيع، قبل أن يحمل العدد المرتفع بسرعة من الضحايا زعماء العالم على العمل بشكل أكثر قوة ضده.

وعلى الرغم من الشكوك التي تحوم على نطاق واسع حول التداعيات التي ستنجم عن تغيير النظام في سورية، فإن المجموعة الدولية تشدد، ولو بوتيرة بطيئة، موقفها من النظام البعثي الحاكم. وقد فرضت الولايات المتحدة عقوبات جديدة على ثلاث شخصيات سورية رفيعة، بمن فيهم شقيق الرئيس ماهر الأسد الذي يقود الفرقة الرابعة في الجيش، كما ووحدات الحرس الجمهوري المكلفة بإسكات الاحتجاجات في مدينة درعا الجنوبية حيث اندلعت الانتفاضة الحالية في منتصف آذار (مارس) الماضي. ومن جهته، وافق الاتحاد الأوروبي على فرض عقوبات على 13 مسؤولاً سورياً رفيعاً، لكنه يظل منقسماً حول شمول الرئيس بشار في القائمة أم لا.

ويمكن أن يكون التردد بخصوص استهداف الأسد نفسه نتاجاً لصورة “الشرطي الطيب” التي شذبها الرئيس خلال سني حكمه الإحدى عشرة. ووفق ذلك السرد، إن الأسد جيد ومتواضع وقريب من شعبه، لكنه محاط برجال سيئين، وخاصة كبار مسؤولي المخابرات الذين احتفظوا بمناصبهم من النظام الذي ورثه عن والده الرئيس الراحل حافظ الأسد. وفي هذه النسخة من الواقع، يبدو بشار وأنه طالما أراد تنفيذ إصلاحات، لكنه وجد نفسه عاجزاً نتيجة لتداعيات مثل تطورات 11/9 وحرب العراق وحرب لبنان في العام 2006. وحتى مع إرساله الدبابات إلى البلدات وترؤسه قتل ما يقترب من 600 محتج، واعتقال ما يصل إلى 8000 آخرين، فإن قصة “بشار الجيد” تصر على القول بأن زعماء العالم ما يزالون يخطبون وده من أجل لجم حمام الدم. ولعل من الكافي جعل معمر القذافي يغص وهو يحتسي شايه.

يقول شادي حميد، مدير الأبحاث في مركز بروكينغز في الدوحة، إنه حتى لو واكبت إجراءات النظام السوري ضد المحتجين المؤيدين للديمقراطية في وحشيتها، إجراءات قوات القذافي عندما اندلعت حركة الاحتجاجات في ليبيا، فإن أحداً لا يتوقع من حلف شمال الأطلسي (الناتو) أن ينشر طائراته المقاتلة لتوفير الحماية للسوريين. وما يزال القادة الغربيون يأملون في أن تتمكن “أدوات الدبلوماسية التقليدية” من ثني الأسد عن موقفه، كما يقول حميد الذي يضيف: “أعتقد بأن ثمة إدراكاً ما بأنه حيثما كان القذافي مخادعاً وغير منفتح على التوصل إلى اتفاق، فإنني أعتقد بأن هناك أملاً بأن يؤتي الضغط على الأسد ثماراً”.

ومع ذلك، يبدو أن البعض قد عيل صبرهم -بمن فيهم رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، صديق الرئيس الأسد وحليفه. فقد وجه الزعيم التركي مؤخراً انتقاداً لاذعاً لممارسات الأسد، وحذره من مغبة تكرار “حماقة أخرى”، في إشارة إلى المدينة السورية التي قصفها الرئيس الراحل حافظ الأسد وحولها إلى ركام في العام 1982، بسبب انتفاضة إسلامية في المدينة آنذاك. وقد قتل 10.000 شخص على الأقل في تلك الانتفاضة، على الرغم من أن الرقم الأكيد ليس معروفاً. ومن جهته، يقول عمار القريبي، رئيس المنظمة الوطنية لحقوق الإنسان في سورية، إن التغير المفاجئ التركي جاء لأن “الأتراك أدركوا أن وجود هذا النظام هو عامل يخلق عدم الاستقرار في المنطقة، وهو عكس ما يعتقد به الغرب”.

أما المشكلة المباشرة التي يواجهها الأسد، مع ذلك، فتكمن في أن القوة الوحشية لم تحقق الهدف المقصود منها. ويوم الجمعة الماضي، تظاهر عشرات الآلاف من المحتجين مرة أخرى في طول سورية وعرضها عقب صلاة الجمعة، رغم عرض النظام مراراً وتكراراً تصميمه على إطلاق النار عليهم. وقد قتل نحو 21 شخصاً في مدينة حمص في وسط سورية، وفق ما قاله ناشطون، فيما جرح أكثر من دزينة من الأشخاص، ونجمت دورة منتظمة من الاحتجاجات والوفيات، ثم الاحتجاجات الأخرى.

ويبدو أن كلا الجانبين قد حشرا نفسيهما في زاوية ضيقة. فعلى الرغم من أن الأسد تحدث عن إجراء إصلاحات وألغى قانون الطوارئ الذي مضى عليه 48 عاماً، فقد استمر نظامه في قتل واعتقال المحتجين. وحتى لو عدل الدستور بحيث يسمح بنظام سياسي متعدد الأحزاب وقدم تنازلات أخرى، فإن العديد من السوريين يريدون منه دفع ثمن الدم الذي أراقه في الأسابيع الأخيرة. وقد وصل المحتجون بسرعة إلى النقطة التي باتوا معها يعتقدون بأن وقف أعمالهم لا ينطوي على أمل أكبر من بقائهم الفيزيائي، مما يعني مواصلتهم للنضال. ويقول حميد: “إنها حالة خسارة في خسارة”. ويضيف: “إن المزيد من القمع، حتى لو آتى ثماره، سيزيح آخر ذرات شرعية النظام. وقد يشجع القمع الأقل المعارضة، ويفضي إلى تغيير النظام”.

وهذا ما يجلبنا ثانية إلى الجغرافيا: فسورية دولة محورية، وقد تكون مهمة استراتيجياً بشكل كبير لا تتحول معه إلى دولة فاشلة بسبب النزاع الإثني والطائفي، ولأن انهيار النظام قد ينطوي على إشعال النار في دول مجاورة تعاني من أوضاع ملتهبة. فإلى الشرق من سورية ثمة العراق الذي مزقته النزاعات، وإلى الغرب منها ثمة لبنان الضعيف والمتفجر. وفي الشمال، توجد المناطق الكردية المتوترة في تركيا، والتي تتاخم أكراد سورية المحرومين سياسياً والمهمشين منذ أمد بعيد. وفي الجنوب الغربي يوجد إسلاميو الأردن، بينما تظل إسرائيل، التي ما تزال تحتل مرتفعات الجولان السورية منذ حرب العام 1967، دولة عدوة. وإلى ذلك، تشكل دمشق أيضاً مركز ما يدعى “محور المقاومة” المعادي لأميركا وإسرائيل، والذي يضم إيران والجماعتين المتشددتين، حماس في غزة وحزب الله في لبنان، سوية مع سورية.

ما تزال التداعيات المحتملة للغموض السياسي في سورية غير واضحة، لكنها تنطوي على احتمالات خطيرة جداً. وكانت عقود من القمع البعثي قد أعاقت نجوم معارضة ديمقراطية منظمة. أما معارضو الأسد، فهم عبارة عن مجموعة متفاوتة من المفكرين المعمرين والإسلاميين المنفيين والشخصيات السابقة في النظام والمنزوعة الثقة فيها، من أمثال عبد الحليم خدام، النائب السابق للرئيس الذي خدم طويلاً في هذا المنصب بعد أن كان قد تقلد عدة مناصب في عهد والد بشار. (هل يستطيع الأسد إصلاح الحكومة من دون التسبب في سقوطه؟).

يقول الناشطون إن الخوف من المجهول والحسابات الجيوسياسية هي مسوغات بائسة للإبقاء على طاغية في السلطة. ويقول القريبي: “إذا حدث شيء، فإن سورية هي مصدر عدم الاستقرار في العراق وفي فلسطين ولبنان”. ويضيف: “وأعتقد بأن إضعاف النظام في سورية أو تغييره أو إصلاحه بحيث يصبح ممثلاً حقيقياً للمجتمع السوري سيفضي إلى تغير إيجابي في المنطقة”. وأحياناً يحتاج المرء إلى تغير دراماتيكي من أجل تحسين جوار صعب

التايم

كلنا شركاء

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى