صفحات العالم

النظام السوري يزيد من ازمته تفاقما


د. بشير موسى نافع

منذ فجر الأحد 31 تموز/يوليو، بدأت وحدات مدرعة من الجيش وعناصر أمنية ومجموعات ميليشيات موالية للنظام السوري هجوما دمويا لاقتحام وإخضاع مدينة حماة. في الوقت نفسه، كانت قوات عسكرية وأمنية أخرى تهاجم مدينة البوكمال، وتقتحم الأحياء المتطرفة من مدينة دير الزور، إضافة إلى بلدتي الحراك في أقصى الجنوب السوري والمعضمية في ريف دمشق.

مع اقتراب اليوم من نهايته، كانت قوات النظام قد أوقعت في شعبها أكبر عدد من القتلى في يوم واحد. طبقاً لتقارير وكالات أنباء رئيسية، سقط في حماة وحدها ما يقترب من مائة قتيل، كما سقط عدة عشرات من القتلى في المدن والبلدات الأخرى.

وزعت من حماة صور قتلى بلا رؤوس، وشريطاً يظهر صبياً قتل ذبحاً بيد ميليشيات النظام. واجه أهالي المدينة جيشهم بصدور عارية، في مشاهد غير مسبوقة لمجموعات الشبان تتجه إلى مصدر النيران لا هرباً منها، لتعطيل تقدم القوات المهاجمة إلى الأحياء السكنية. ولأن الهجمة على المدينة لم تتوقف، لم يستطع الأهالي الوصول إلى المقبرة لدفن شهدائهم. في اليوم التالي مباشرة، صدر عن الرئيس بشار الأسد رسالة إلى الجيش السوري، أشاد فيها بولاء المؤسسة العسكرية والأعمال المجيدة التي تقوم بها في مواجهة الشعب.

ما يجمع المدن والبلدات السورية التي تعرضت للهجوم البشع في اليوم السابق لبداية شهر رمضان الكريم أنها شهدت بعضاً من أكثر التظاهرات الشعبية حشداً في الأسابيع القليلة الماضية. ولكنها لم تكن الوحيدة على هذا الصعيد، فخلال الشهور الأربعة الماضية، قطعت الثورة السورية مسافة هائلة، من مظاهرات محدودة ومعزولة في أنحاء متفرقة من البلاد، ضمت بضعة آلاف أو مئات، إلى حركة شعبية واسعة النطاق، احتشد في خضمها الملايين ومئات الألوف من السوريين، تغطي كافة أنحاء الوطن السوري. والواضح أن قيادة النظام تستشعر الخوف والعجز من احتمال تصاعد الحركة الشعبية خلال شهر رمضان، الذي توفر صلوات الجماعة في أمسياته فرصة يومية للحشد الجماهيري، بعد أن أصبحت المساجد مراكز التجمع والانطلاق الرئيسية للمظاهرات. بإخضاع حماة، مدينة الحشد الشعبي الأكبر في أيام الجمعة، وصاحبة الموقع الرمزي الكبير في تاريخ العلاقة الشائكة بين نظام الحكم والشعب، يظن قادة النظام أنهم سينجحون في احتواء الحراك الشعبي ومنع تصاعده في الأسابيع القليلة القادمة. على نحو ما، ثمة من يعتقد في أوساط النظام أن النجاح في قمع الحراك الشعبي هذا الشهر سيكتب الفصل الأخير في معركة الوجود التي يواجهها الحكم.

إحدى مشاكل النظام الرئيسية، وقطاع واسع من حلفائه في الجوار العربي الإسلامي، أنه لم يأخذ الحراك الشعبي في بدايته مأخذ الجد، وتعامل معه باستخفاف متسرع، انعكس في اللغة التي استخدمها الرئيس في خطابه الأول أمام مجلس شعبه، وفي الاستخدام غير المحسوب لوسائل القمع، من القتل إلى الاعتقالات. لم يدرك النظام وقادته طبيعة الثورة السورية وعلاقتها الوثيقة بتيار الثورة العربية الممتدة من الماء إلى الماء، واعتقد أن الأمر لن يستمر طويلاً وأن قواته وأجهزته لن تلبث أن تخمد الحركة الشعبية وتقتلع منظميها وقادتها. وعندما بات من الواضح أن إعلام النظام، أن أجهزته الأمنية، والفرق العسكرية الموالية التي نشرها في كافة أنحاء البلاد، أعجز من احتواء الحركة الشعبية وهزيمتها، وأن الحركة لا تزال مستمرة بعد أربعة شهور طوال من القمع، بات الارتباك السياسي والإجراءات الدموية الفجة السمة الرئيسية لمقاربة النظام للحركة الشعبية.

مع نهايات تموز/يوليو، كان قد أصبح واضحاً أن الثورة السورية وصلت منعطفاً حرجاً: لا النظام يستطيع هزيمة الشعب أو إخماد حركته، ولا الشعب وقوى المعارضة السياسية، التقليدية منها والجديدة، وصلت في حراكها إلى مستوى إطاحة النظام أو حتى إجباره على تقديم تنازلات ملموسة وجادة على طريق انتقال سورية نحو الحرية والديمقراطية والحكم العقلاني. لم تتبق في جعبة النظام (وحلفائه خارج سورية) من وسيلة إلا واستخدمها لهزيمة الشعب، من الروايات الصريحة في زيفها وكذبها، إلى القتل والتدمير والاعتقالات؛ ومن الإصلاحات القانونية السطحية، غير ذات المعنى والأثر، إلى مؤتمرات الحوار الأقل معنى وأثراً. ولكن الحركة الشعبية أيضاً بدت وكأنها وصلت إلى سقف ما. صحيح أن المظاهرات الحاشدة لم تعد تقتصر على أيام الجمعة وحسب، وأن النظام بات يواجه أزمة اقتصادية ومالية متفاقمة. ولكن الصحيح أيضاً أن النظام يتلقى دعماً كبيراً من إيران، حليفه الأوثق على الإطلاق؛ كما أن الطبيعة الغريبة لقيادة المؤسسة العسكرية تجعل من الصعب، وربما من المستحيل، أن ينحاز الجيش بكليته للشعب، على الطريقة المصرية أو التونسية.

في المقابل، استمرت حركة الانشقاقات على الجيش بوتيرة منخفضة وغير مؤثرة، ولم يشهد جسم الدولة أو نظام الحكم (وكلاهما شيء واحد في الحقيقة) أية انقسامات بارزة. إضافة إلى ذلك، بدا أن الضغوط الخارجية على النظام، الإقليمية منها والدولية، قد تراجعت نسبياً، أو أصبحت أقل ثقة في قدرتها على التأثير في الحرب الدائرة بين النظام وشعبه.

مع نهاية تموز/يوليو، باختصار، كان الشعب في أغلبه يقف في مواجهة جسم الدولة/ النظام في كليته، بدون أن تبدو احتمالات مرجحة لتراجع أي منهما عن موقعه، أو قدرة أي من الطرفين على إيقاع الهزيمة بالآخر. الأسابيع القليلة القادمة ستكشف عما إن كان ميزان القوى سيميل إلى هذا الجانب أو ذاك. ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن الساحة السورية غارقة في الغموض، وأن ليس ثمة مؤشرات كافية لاستشراف المستقبل القريب.

قدرة الشعب السوري على مواصلة حراكه من أجل الحرية هو المؤشر الأول على الاتجاه الذي يمكن أن ينحاز إليه ميزان القوة بين الشعب والنظام.

والملاحظ في مساء اليوم التالي للهجمات العسكرية ـ الأمنية الدموية على حماة ودير الزور والبوكمال والمعضمية والحراك، أن كافة أنحاء سورية شهدت سلسلة جديدة من المظاهرات، بما في ذلك أجزاء من المدن والبلدات الواقعة تحت نيران قوات الجيش والأجهزة الأمنية.

وبتصاعد سياسة القمع الدموي غير المبرر، يبدو أن الجيش لم يعد على التماسك الذي بدا عليه في المرحلة السابقة، وأن الانشقاقات عن الجيش لا تستمر وحسب، بل وتطال أعداداً أكبر ومستويات عسكرية أرفع. ولد الجيش السوري في لحظة فريدة من التاريخ العربي، لحظة مواجهة القوى الإمبريالية الغازية وسعي العرب المستميت للحفاظ على استقلالهم الوليد. ومنذ استقلال سورية، خاض هذا الجيش سلسلة من الحروب دفاعاً عن المقدرات السورية والعربية. وبالرغم من الهزائم التي مني بها هذا الجيش في عدد من الحروب العربية ـ الإسرائيلية، فهذا جيش عربي بامتياز، جيش سورية وشعبها، ومن المؤلم أن النظام الحاكم قد حول قطاعاً واسعاً من الجيش إلى أداة فئوية للحفاظ على وجوده وقمع خصومه، وزج به منذ أبريل/ نيسان الماضي إلى حرب ضد الشعب. خروج مجموعات متزايدة من الجيش على سياسة النظام وقادته وانحيازها للشعب ومطالبه ستكون واحدة من أهم المؤشرات إلى اتجاه ميزان القوى.

ويتعلق المؤشر الثالث بتحرير أحد الميادين الكبرى في العاصمة دمشق والاحتفاظ به، مما سيؤكد قدرة الحركة الشعبية على كسر إرادة النظام وأجهزته. أما المؤشر الرابع فيتعلق بمعضلة الثورة السورية الأبرز: مدينة حلب، التي لم تلتحق حتى الآن بصورة قاطعة ومؤثرة بركب الحركة الشعبية، بالرغم من أنها شهدت بعض التظاهرات المتفرقة والمحدودة.

خارجياً، يتعامل العالم والجوار العربي الإسلامي مع المسألة السورية باعتبارها أزمة سياسية، يمكن حلها بمزيد من الضغوط السياسية على النظام، سواء بالتصريحات أو العقوبات المحدودة أو التهديد بالقانون الدولي. وليس ثمة شك أن الخارج لا يملك وسائل ضغط كافية على النظام السوري. والأمران في الوقع متلازمان إلى حد كبير. فالنظام يتعامل مع الأزمة التي يواجهها باعتبارها مسألة حياة أو موت، وليس مسألة سياسية؛ وهذا ما يجعله أقل اكتراثاً بمواقف الخارج الإقليمي والدولي. ويتصور قادة النظام أن بإمكانهم الارتكاز إلى تحالف إقليمي، يصل طهران ببغداد بدمشق وبيروت، وموقف روسي صيني رافض لتصعيد الضغوط الدولية. من جهة أخرى، ترفض كافة قوى المعارضة السورية، والقطاع الأكبر من الشعب السوري والشارع العربي، أي تدخل خارجي في الشأن السوري شبيهاً بالتدخل في ليبيا. ولكن الأمور قد لا تستمر خارجياً على هذا الوضع. فليس ثمة شك في أن تصاعد مستويات القمع الذي يتعهده النظام سيضعف في النهاية الموقف الروسي – الصيني، ويجعل من الصعب التصدي للقرارت الدولية المحتملة ضد النظام وقادته، سيما إن تحركت القوى العربية الشعبية لمساندة الأشقاء في سورية، على غرار اجتماعات واعتصامات التضامن التي نظمت بالقاهرة طوال عدة ايام، والمظاهرة الحاشدة التي شهدتها مدينة الرباط مساء يوم 31 تموز/يوليو.

طالما استمر نمط استجابته للحراك الشعبي على ما هو عليه، فإن إطالة أمد الثورة السورية ليست في مصلحة النظام بالتأكيد، ولا في مصلحة حلفائه. نظام يخسر شرعيته ومصداقيته لدى القطاع الأكبر من شعبه لا يمكنه الاستمرار في الحكم وكأن شيئاً لم يتغير. وخسارة الإيرانييين والروس داخل سورية وفي الشارع العربي لا يمكن تقديرها. ولكن الخطر أن تطول هذه المواجهة بين النظام وشعبه إلى الحد الذي يهدد وحدة الشعب والوطن السوريين. المؤكد على أية حال أن أوهام النظام حول قدرته على إخماد الثورة التي يواجهها بعدد آخر من المجازر كانت متسرعة إلى حد كبير. ما نجحت فيه المجازر في الحقيقة كان أن ضاعفت من أزمة النظام تفاقماً.

‘ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى