صفحات العالم

النظام السوري يقود الانتفاضة السورية ضده؟!


عبدالامير الركابي

النظام السوري هو الذي يقود “الانتفاضة السورية”، الآخرون فجروها ويستمرون في إدامتها فقط، لا توجد “ذات سياسية مفكرة” في سوريا اليوم، خارج “النظام”. يكفي أن نتابع كل ما قيل من قبل أعداء النظام، منذ البداية. قيل أنه يريد تغيير الطابع السلمي للانتفاضة، وهو يخطط لجعل السلاح وسيلتها، وهذا ما حدث. يهمه التهديد بحافة الحرب الطائفية، أو الاهلية، وهذا قائم الآن.

على المنقلب الآخر، تغيرنوع القوى التي تصدت لقيادة الانتفاضة. ففي الأشهر الأولى، كانت القوى الغالبة هي قوى “المجتمع المدني”، والتيارات العلمانية. الاتراك، حقنوها حقنا بالاخوان المسلمين، كما أبلغني أحد وجوه المعارضة، ومنظِّريها المعدودين، والكل يتفق على أن سوريا، لا أرجحية للأخوان المسلمين فيها. دفق الانتفاضة العارم، وشراسة النظام، ودمويته التي لا توصف، مع إستهداف الصف الأول من المحركين، في الشارع، أزالت القشرة الأولى الموجِّهة على الأرض، وهذا أنتج قدراً من الضياع، من التفلت والفوضى، وجعل حيازة السلاح وإستخدامه هدفاً. كانت المراهنة في البداية، أن تستمر الانتفاضة سلمية، لكنها إنتهت أخيراً لمصلحة التسلح والقتال. لكن من ينظِّرون للإنتفاضة والمعارضة، لم يعترفوا بعد، ولا يريدون الإعتراف، بأن النظام يقولب الانتفاضة، ويقودها كما يريد. السؤال الآن: من يقود الإنتفاضة السورية. ومن سيستمر في قيادتها؟

في الخارج، المعارضة هي الأخرى من دون “ذات سياسية مفكرة”، لا على صعيد إستيعاب حركة وإيقاع الحراك في الداخل، ولا على الصعيد الدولي، التخبط هنا سيد الموقف، لا توجد جهة “تقود”، لا نفسها ولا من معها، أو من يحيطون بها. المحرك الرئيسي هنا، هو الدفع الدولي. وفي هذا المجال، ثمة جهل. تصرف تحكمه التخيلات والتمني. إعتقاد بأن المجتمع الدولي الغربي، سوف يحوِّل وجود المعارضين في الخارج قوة فعل، بناء على آليات تحركه هو، وعلى قوة حضوره المباشر.

مؤتمر تونس، أثبت أن هذه هي بالضبط “ذات” المجلس الوطني. الفشل في استحصال موقف مرض، ولو بالحد الأدنى، شرذم المعارضة ومزقها، وهذا دليل على طبيعة الأولويات المحركة، والداعمة للالتقاء، بين شتى الآراء والأهواء. المعارضة طبعاً، ليست هي من يؤثر، في ما يعرف بالحراك الشعبي على الأرض. ليس لها أي دور في التحولات الجارية فيه. وبالمقارنة بينها وبين النظام، تبدو مكتوفة الأيدي، سندها ومجال فعلها كله، معلق على دفع القوى الدولية وحسب. الحراك الشعبي عملياً متروك للنظام. وهذا الأخير، يتعامل معه بطريقته. الخطة الوحيدة “الناجحة” الفعالة، المؤثرة في سوريا ويا للاسف، هي خطة “النظام” الامنية الدموية. هذا إذا قلنا طبعاً، أن الأمر يتعلق بتحولات الانتفاضة، التي هي محور حديثنا.

 قدم النظام ببراعة لحلفائه الدوليين والاقليميين، كل ما يحتاجونه، “عصابات مسلحه”، و”جيش منشق”، قدم “القاعدة”، وساعده في ذلك، أيمن الظواهري، و”حماس”. حتى وزيرة الخارجية الأميركية، قالت أخيراً، بأنها، لا تريد أن تدعم “القاعدة” و”حماس” في سوريا. دول الخليج، تبدو أكثر فأكثر فائضة الحماسة، لأسباب تصبح أكثر فاكثر غير مفهومة. بحيث ان من يخمن، يذهب في تفسير دوافعها الى الاسوأ. روسيا والصين وحتى إيران، لم يعد أي منها محرجاً الآن. تركيا تتراجع، ولا توافق حتى على إيجاد ممرات إنسانية. هذا ما قاله ممثلوها في تونس، بينما المعارضات السورية، تضع اللوم على الموقف الدولي: أي موقف دولي؟ الذي تتخيله هي.

قريباً، سيكون هنالك مؤتمرآخر، لأصدقاء سوريا، يعقد هذه المرة في تركيا، ولا أحد يعرف، ما الذي سيفعله النظام بـ”الإنتفاضة”، وكيف وإلى أين سيقودها من الآن حتى وقته. هو أجرى إستفتاء على دستور جديد، أسقط بموجبه قيادة “حزب البعث” للدولة والمجتمع، وأقر تعددية على قياسه، الأميركيون يقولون إن هذه خدعة غير مقبولة. ولكن إذا صفيت جيوب المقاومة المسلحة، فإن ما يتبقى أمامنا هو مأساة إنسانية، تحفز إجراءات أخرى استكمالية، تحسن خطة التغيير المقترحة، والمطبقة من قبل النظام حتى الآن.

والغالب أن الجامعة العربية، ستكون قد خرجت من اللعبة بعد تخبطاتها، فالزخم الدولي الذي تصورته، أصبح الآن مجرد وهم، وهي ليست مثل المعارضة، معلقة على التمنيات، فقط لا غير.

 واضح، أن ما نشهده، ليس مثال “القيادة الحكيمة” للانتفاضة، كم من الدماء أسيلت، كم من الوحشية مورست. النظام بحد ذاته يقود الانتفاضة بحنكة دموية، وثمن باهظ جداً. وهو متماسك ولا يبدو أن من يتصورون إحتمال إهتزازه، يقولون ما يقولونه بناء على إختبار ملموس. وهذا يضعنا أمام إحتمالات محبطة. الأفق الوحيد الباقي لتجنب الأسوا منها، أن تتوافر – وإن كان ذلك مستبعداً، من دون دفع وتوجيه من خارجها – روح مبادرة لدى المعارضة السورية، بحيث تقتنع، بأن الدور الروسي حاسم ومهم للغاية، وأن دفع التغييرات الحالية خطوة أخرى، لا يمكن تحقيقه من دون روسيا والصين. كما أن صوغ موقف يتناسب والسقف الدولي الناشئ، أمر يصب في مصلحة الإنتفاضة، قبل أن يأخذها النظام الى “الفوضى”، ولا يعود هنالك أي قانون، يضمن اعادتها، الى منطق السياسة الذي يبرر وجود المعارضة كقوة، يفترض أنها تمثل الطرف الثاني في المعادلة.

 لا يعني ذلك أن من يسمى “المجتمع الدولي”، أي الغرب، لا دور له، فمن اللازم أن يحظى أي تدخل روسي – صيني لإيجاد حل مقبول، بدعم الغرب وضغطه على معسكر “الفيتو”. ولكن هل المعارضة قادرة يا ترى، على حمل توجه كهذا، بكل حساسياته وتلوناته، وتعقيده المتزايد؟ هل هي أصلا موحدة ومتضامنة، وتملك الخبرة، التي تؤهلها لخوض معركة “حل”، ضمن واقع دولي متبدل، وآفاق دموية، وإحتمالات خسارة، وتحمل مسؤولية تاريخية؟ إزاء كل هذه الاسئلة، يكاد المرء يتوقع النتيجة الاسوأ. فسوريا ليس فيها معارضة جديرة بالانتفاضة الحاصلة في بلدها. موت السياسة الطويل، أو قتلها، له نتائج يتم حصدها الآن. إلا أن سوريا، لم تنتج يوما سياسة مستقرة، يحكمها إنتظام “وطني”. وهي إنتقلت من “الانقلابات” إلى “بناء دولة”، على محرك المواجهة مع الخارج، أي دولة نواتها ولحمتها، أجهزة الأمن والاستخبارات، وإقصاء السياسة والمجتمع. من أين والحالة هذه، تأتي الخبرة اللازمة التي هي بأمس الحاجة إليها؟

 الإنتفاضة ضد هذا النوع من “الدولة”، في ظروف عربية ودولية بعينها، لا تعني حتماً، أن المجتمع يملك البديل الضروري. وهذه معضلة كبرى، سيكون على المتعاطين من السوريين بالأفكار، أن ينكبّوا عليها. لكن حتى هذا، غير متوقع قريبا. فالنزعة السورية في التفكير، ميالة للإنشائية، وسوريا فيها نبت “حزب البعث العربي الاشتراكي”، الذي شُيِّع الآن في سوريا، بعد تشييعه في العراق.

تنظيرات أخرى خرجت من سوريا، ميّزها نمط من التفكير “القومي” الكارثي النتائج، على العروبة والقومية.

لعل التطورات تعطي للمعارضة دوراً في قيادة، الإنتفاضة، فلا تستمر حالة “ديكتاتورية” قيادتها، كما هي الآن، بيد النظام. يريد السوريون، الخلاص من ديكتاتورية النظام على المجتمع، ينتفضون، فيمارس النظام ديكتاتورية دموية على الانتفاضة، ولا مخرج واضح في الأفق… يا للبؤس.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى