صفحات مميزةعمر قدور

النظام… اللعنة/ عمر قدور

 

 

ذهبت طي النسيان سريعاً صورة قاسم سليماني وهو يشرف على المعارك جنوب سورية. بدلاً منها سيفضح مؤيدو النظام أنفسهم من أن الدعم الإيراني كان مشروطاً بارتهان مؤسسات وأراضٍ حكومية، أي أن إيران ليست الأم الحنون التي تهب بلا مقابل. مؤيدو النظام، الذين واظبوا على إنكار الواقع منذ أربع سنوات، ليسوا جاهزين بعد للإقرار بانتهاء صلاحية نظامهم، فضلاً عن عدم جاهزيتهم لرفع العتب عن الحليف الأكبر والإقرار بأن مغامرته السورية كانت بمثابة لعنة حلت عليه، وإذا أتيح له استرداد ديونه المالية يوماً، على الأرجح عبر دول إقليمية مانحة لا بسيطرته على الممتلكات المرتهنة، فهو لن يسترد أبداً هيبته ونفوذه اللذين مرّغهما النظام في وحله.

بخلاف العراق ولبنان وحتى اليمن، تورطت إيران في دعم لا أفق له. الأمر لا يتوقف على ميزان الأكثرية والأقلية العددي كما يُروّج تبسيطاً، بل يتعلق أساساً ببنية قامت على الفساد والإفساد طوال أربعة عقود، ولم يكن مفاجئاً لمن يعرف بنية النظام ألا ينجح الدعم الخارجي سوى في تأخير سقوطه، وفي التسبب بمزيد من التدمير والإبادة العشوائيين للمناطق الخارجة عن السيطرة. ينبغي هنا إعادة النظر تماماً بتلك السرديات التي بناها كتّاب من أمثال باتريك سيل عن «مملكة حافظ الأسد» القوية، ورُوّجت في الإعلام على أنها حقائق. فتضخم البنية المخابراتية والعسكرية للنظام رافقه، كشرط لازم ربما، تضخم أكبر في مستوى الفساد لا يستثني حتى الجيش والمخابرات، إن لم يبدأ منهما.

تأخر سقوط النظام، لا منذ اندلاع الثورة ضده فحسب، وإنما منذ ربع قرن عندما عصفت التغيرات الكبرى بالعالم. ذلك لا يعني انضواءه العضوي ضمن المنظومة الشرقية الآفلة، بل بسبب انعكاس التغيرات العالمية على التوازنات الإقليمية. ميزة حافظ الأسد، إذا كانت له ميزة فعلية، هي في المشاركة ضمن النظام الإقليمي، وقد تصح تسميتها بشبكة الأمان الإقليمية، التي كانت قائمة على محور «الرياض/القاهرة/دمشق». ولاعتبارات تخص المعسكرين كان المحور الثلاثي ضرورياً لإطفاء الأزمات، من دون أن يكون كافياً لعقلنة نظام ترفض بنيته ما هو متاح من فرص ذهبية.

في أوج حالات المحور الثلاثي حصل الأسد على تفويض شبه مطلق لإنهاء الحرب الأهلية اللبنانية، ولئن كان متوقعاً حصوله على مكاسب من تدخله فلم تكن بنيته تسمح بسلوك سبيل أفضل مما سلك. وصولاً إلى اغتيال الرئيس الحريري والعديد من أفراد النخبة السياسية والثقافية، كان النظام بمثابة اللعنة التي حلت بلبنان وقضت على فرادته ضمن محيطه. في السنوات الأربع الأخيرة فحسب صار بوسع العالم مشاهدة صورة مكبَّرة (بالتأكيد بفظاعة أشد) عما لاقاه اللبنانيون، وعن المصير الذي كان ينتظرهم في ما لو لم يُجبر النظام على الانسحاب من لبنان. لقد كان رستم غزالي، المقتول أخيراً، خير تعبير عن بنية صلدة لا تقبل التأثر بالمحيط اللبناني، وربما لم تكن إقالة سلفه (غازي كنعان المقتول أيضاً) إلا لأنه اقترب قليلاً من تفهم الحساسيات والتوازنات اللبنانية.

قد يكون عراق صدام حسين هو ما أخّر النهاية الإقليمية للنظام، فخطيئة اجتياح الكويت أعطت للأسد فرصة الانضمام إلى التحالف الدولي وكسر العزلة التي كان يعانيها. مرة أخرى، لم يأتِ استغلال الفرصة بجديد على صعيد التغير في نهج النظام، فالانضمام إلى التحالف الدولي أتى ضمن منطق «الفهلوة» واللعب على الحبال لا وفق قراءة المتغيرات العالمية، وسرعان ما أعقبه تعاون مع النظام العراقي على خرق العقوبات الدولية المفروضة عليه، ومن دون مكاسب سياسية. المكاسب اقتصرت على أموال تجارة النفط غير المشروعة التي ذهبت إلى رؤوس كبرى في النظام. في التجربة العراقية أيضاً، غداة إسقاط صدام، كان في مقدور النظام الاستفادة من التغيرات القادمة والحصول على مكاسب اقتصادية لسورية وعلى قدر من النفوذ، إلا أن طبيعته، ولعنته التي حلت بالعراقيين، دفعته ليكون ممراً ومعسكراً للإرهابيين الذين روّعوا العراق باستهدافهم المدنيين. حتى عندما أتته فرصة المساهمة البنّاءة في لعب دور وسط في العراق، من خلال دعم قائمة إياد علاوي الفائزة بأكبر عدد من المقاعد عام 2010، أهدرها مساهماً في دفع العراق تحت المظلة الإيرانية، ومن دون أن يكون له شرف المشارك في أية مكاسب.

مع ذلك، قد يكون العقد الأخير عقد أفول النظام إقليمياً. فهو بسبب إجباره على الانسحاب من لبنان فتح النار على المنظومة الإقليمية التي كان احدى دعائمها، وبغية الانتقام تولى أمر زعزعتها، حيناً من خلال لعب دور العرّاب للقطب التركي الصاعد ودائماً بلعب دور الوكيل لحكم الملالي. في كل الأحوال، لم تعد أمامه فرصة استعادة شيء من دوره السابق، والقليل مما استعاده في لبنان يُسجّل لإيران وميليشيا حزب الله بدلالة ضآلة تأثر الساحة اللبنانية بما تعرض له خلال السنوات الأربع الأخيرة. غير أن الصعود الإيراني والتركي في العقد الأخير يعني في ما يعنيه انتهاء النظام الإقليمي السابق، وعلى نحو خاص انتهاء النظام «بوصفه الحلقة الأضعف» كحاجة إقليمية ودولية.

لقد بُني أغلب التحليلات على أن الأسد الأب نقل سورية من الصراع عليها إلى المشاركة في الصراع على المنطقة، وذهب بعضها إلى أن الأسد الابن أهدر تركته وأعادها إلى ما كانت عليه. لكن أغلب التحليلات أهمل الفرص التي أضاعها النظام، حيث كان ممكناً بوجود سياسة عقلانية تنامي الوزن الإقليمي للبلاد على أسس راسخة وثابتة، وحيث لم يكن ممكناً وجود مثل هذه السياسة العقلانية في الخارج مع تعيّنه المطلق كنظام مخابرات وفساد معمم في الداخل.

مع هذه البنية، تجوز لنا استعارة وصف «اللعنة» على رغم عدم عقلانيته، وهنا لا بد من التشديد على حقيقة يعرفها السوريون: فالتوسع في لبنان ترافق مع إحكام القبضة الأمنية وازدهار الفساد في الداخل، أي أن لعنة النظام أصابت الداخل والخارج على نحو متزامن، ولن يكون مستغرباً في ما بعد أن تصيب أقرب الحلفاء.

لم يأت من فراغ إعلان السوريين في 2011 أنهم يثورون على حافظ الأسد، الآن ربما حانت اللحظة كي يقتفي العالم أثرهم.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى