صفحات سوريةعدي الزعبي

النظام وحش مسلح لا صوت له ولا عقل


عدي الزعبي

‘الدكتاتورية سيئة أخلاقياً، لأنها ترغم المواطنين، ضد وعيهم وضد قناعاتهم الأخلاقية، على التعاون مع الشر، ولو بالصمت. إنها تحرم الإنسان من مسؤوليته الأخلاقية، وهو من دونها ليس إلا نصف إنسان، أو أقل.’

الفيلسوف النمساوي كارل بوبر.

الثورة السورية، أولاً وقبل كل شيء، ثورة أخلاقية. من خلالها، استعاد ملايين السوريين مسؤوليتهم الأخلاقية عما يجري في وطنهم. تحرر السوريون من الطاغية عندما رفضوا الصمت، ذلك الشبح الأجوف الذي زرعه في قلوبهم. يناضل السوريون اليوم لاسترجاع إنسانيتهم. هذه الإنسانية التي اعتقلها الطاغية وحوّل السوريين إلى أنصاف بشر. اليوم، يحمل كل متظاهر على كفه دماء الشهداء ودماءه. لن يرضى السوريون بعد اليوم أن يجلسوا متفرّجين على عصابة تحكم سورية بالدم والنار. هذا الوطن لنا، كما هتفوا مبكّراً ‘سورية لينا وما هي لبيت الأسد’. يعلم السوريون، أكثر من غيرهم، أن استعادة سورية من الطاغية، وقبول المسؤولية الأخلاقية عن كل فعل يقوم به الثوار، عملية صعبة. ولكنهم تحرروا من عقدة الخوف. كما تحرروا من السجن الكبير. السوريون مسؤولون عن مستقبل وطنهم. الشر، الذي يمثله النظام بكافة تصرفاته، وعلى رأسها حرمان السوريين من مسؤوليتهم الأخلاقية، سقط إلى غير رجعة. الحرية تعني سقوط الطاغية. الحرية، أيضاً، وبالتوازي مع سقوط الطاغية، تعني أن يتحمّل كل فرد مسؤولية الدم المراق، مسؤولية مستقبل الوطن، ومسؤولية بناء دولة القانون. وهذه المسؤولية، هي مسؤولية أخلاقية. لا يوجد أخلاق تحت حكم الطاغية. يبدأ المواطن في تحمّل مسؤوليته الأخلاقية، حين يعلن العصيان. لسنا عبيداً في وطننا. كل ما يحدث في سورية، أثناء وبعد الثورة، مسؤوليتنا وحدنا. وجود الطاغية وحاشيته، يعني أننا نعيش في مجتمع بلا أخلاق، حيث الصمت، الوجه الأبشع للشر، يحكمنا جميعاً.

الحرية تبدأ في مجتمع محكوم بالنار، بالفعل الأكثر شجاعة والأكثر تأثيراً. الفعل الذي يهدم صرح الطغيان من أساسه. أساس الطغيان هو الصمت، صمت المحكومين المتواطئ مع الشر، مع القتل والتعذيب والفساد. الصمت الذي يجثم على صدور المحكومين ويحولهم إلى آلات لا تعرف الكلام. المواطن أبكم، والصوت الوحيد في سورية هو صوت الطاغية. اكتشف السوريون أن لهم صوتاً أنقى وأعلى. أكثر من ذلك، اكتشفوا أن لهم أصواتاً متعددة. الصوت الواحد، كالحزب الواحد والقائد الواحد، من مخلّفات الطغيان. يغنّي السوريون في مظاهراتهم، يرقصون ويدبكون ويصرخون. يرسمون الكاريكاتير واللوحات. يقومون بمظاهرات الشموع وبمظاهرات نسائية وطلابية. وللسوريين أصوات تجعلنا نرى تنوع الوطن وإمكانياته اللامحدودة. حارس فريق كرة القدم، الساروت، والممثلة الشابة التي تعلن أنها علمانية، فدوة سليمان. الطبيب الشاب مؤسس تنسيقية الأطباء، ابراهيم عثمان. وشيخ الجامع الضرير، أحمد الصياصنة. آلاف الشباب الذين يقومون بمظاهراتهم، دون أن يسألوا عمن يدعم أو يعارض، في الداخل والخارج، من العرب أو من المجتمع الدولي، ثورتهم. المغتربون، الذين يشعرون بحرقة مستمرة، وبتقصيرهم الشديد، يساهمون بالمال والمظاهرات والتنسيق، قدر الإمكان، في دعم الثورة.

لم يسأل احد منهم عن وحدة المعارضة، أو عن القيادة الشرعية للثورة، أو عن مواقف روسيا وأمريكا. اكتشف السوريون أن لهم أصواتاً تملأ الفضاء وتعيد لهم حريتهم، وإنسانيتهم. المسؤولية الأخلاقية، التي استعادها هؤلاء، حين قرروا أنّ الشر لا يمكن السكوت عنه، أنهت عقوداً من الاستبداد. سقط الطاغية، حين استعاد السوريون أصواتهم. غناء يملأ الشوارع، فرح صاخب، بالرغم من الثمن الباهظ الذي يدفعونه. دماء أبنائهم وبناتهم، تعيد لهم ما خسروه. الصوت، النقي والصادق والواثق. الصوت المباشر والواضح والجميل. الصوت الذي يكتب في سورية العهد من جديد. في البدء كانت الكلمة.

في المقابل، نجد النظام السوري يتخبط في تصريحات مؤسفة لأي كائن عاقل. لم يستطع الطاغية وحاشيته أن يواجهوا الثوار. هم معتادون على الصمت. الثورة أجبرت الطاغية على أن يتحدث إلى أنصاره. هنا الطامة الكبرى. ليس للطغيان صوت عاقل. صوته رصاصه. ليس للطغيان عقل. ليس للطغيان وجود دون رصاصه. صوت الطغيان يلعلع في أحياء حمص، دمنا شاهد على وجوده، على غياب العقل.

مع الرصاص، نسمع ما يشبه الصوت. إنها محاولات الطغيان للتعمية على أصواتنا. أصوات النظام مكررة وفارغة وخالية من المعنى. انتصرت الثورة بوضوحها وصدقها. يكفي أن نصغي مرة واحدة لأنصار النظام، حتى نكتشف هول الفاجعة. وزير الخارجية أو المندوب في الأمم المتحدة، والخطابات الطويلة المملة، التي ترسل رسائل عدة في ثناياها، ولكنها لا تقول أي شيء مباشر. أعادت الثورة للسوريين أصل الكلام إلى ما نريد قوله. بقي النظام مملاً وخاوياً. ليس لأنصاره ولقيادته ما يقولونه. لم يتدرّب أي منهم يوماً على محاولة شرح أفكاره بوضوح، ومناقشتها مع الآخرين. فهو لم يتحدث يوماً إلى الآخرين. النظام الذي اعتاد الصمت، وشرّعه كركن وحيد في مملكة الخوف، لم يستطع، حين علت أصوات السوريين، أن يتكلّم. النظام وحش مسلّح، لا صوت له، ولا عقل.

ما تبقى هو محاولات الطغيان إعادة الصمت. الصمت نصره الوحيد. طالما بقيت أصواتنا عالية، يغيب الشر. الصوت عدو الشر. ننفض عن أرواحنا غبار الصمت الطويل. ننظف حناجرنا ونصدح بأغاني القاشوش. ارحل.

في عتمة الدرب، نرى أشباح القاشوش وغياث مطر تبتسم متعبة. سرقوا حناجرنا.

الصمت يرخي بظلاله على القصر. ليلاً، تجول الأشباح، بلا حناجر، في غرفه الباردة.

في صباح قريب، سوف يزلزل الصوت قصر ‘المهاجرين’: السوريون استعادوا حنجرتي القاشوش ومطر. ويعم الغناء الوطن. كلنا مسؤول.

‘ كاتب سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى