صفحات الناسلقمان ديركي

النفر فجَّر ثورة.. وانتشر/ لقمان ديركي

 

 

النفر إنسان أليف. يدخل إلى بلدان الجوار بكل احترام، حتى لو دخلها تهريباً. ويتطبع بعادات أهل المنطقة، كما أنه يحافظ على النظافة ويحاول أن لا يساهم في تلوث البيئة.

النفر لا يرتكب الجرائم، لا يسرق، لا يسمع، لا يتكلم، لا يتألم.. النفر كائن مخلوع، من جذره مشلوع، يبحث لنفسه عن موطئ قدم. النفر صموت، لكنه عندما يتكلم يسرد تاريخه الطويل أكثر من تاريخ دولة. وهو يصب القهوة من الدولة. ومع الرشفة الأولى يشعل النفر سيجارة وهو يتأمل الأفق.

والأفق وما أدراك ما الأفق، إنه الوطن، أو بالأحرى قصته في الوطن. يقتات النفر على الماضي، وكلما انتهى الصحن أتى بصحونٍ أُخَرْ. النفر يجعل من الماضي خيالاً أكثر من المستقبل، لكن عينه على موج البحر، يتابع النشرات الجوية، يهتم بارتفاع الموج. وعندما يروق البحر يتصل بالمهرب، قصيدته المفضلة: إني ذكرتكِ بالبلمِ مشتاقا… والأفق طلق ووجه المهرب قد راقا.

يتحول النفر مع أول موجة عاتية تهجم على البلم إلى شيخ متدين وإمام جامع متمرس. وعندما تطأ قدماه أرض اليونان الصديق، يتحول إلى أوروبي عتيد. يتقلص في البرودة، ويتمدد في الحرارة، ينكمش في الجلسات الجدية، وينجلق عند أول مزحة. يحب كل المواطنين في بلاد الغربة، ولكنه يحب وطنه أكثر.

والنفر كلما أكل تذكر أن الأكل في وطنه أطيب. له على كل أطعمة البلدان الأخرى ملاحظات، يحدثهم عن المحشي والكبة بشغف. ويعِد السكان الأصليين بأكلة يبرق. له ملاحظات على اللحامين واللحمة في المنفى. فعشقه لحم الغنم العواس البلدي.

حلوة يا بلدي، أغنية النفر المفضلة وهو يهرب من البلد. وصورة السيلفي وبرج إيفل خلفي من هواياته المفضلة. لكنه لا يبصم في فرنسا. يمر بها في رحلته التاريخية إلى ألمانيا، أو منها إلى السويد. لا حدود تقف في وجه النفر، يقطع البحار، يغرق أو لا يغرق، لا يهم. فالنفر يعشق البلم، ومن لم يركب البلم ليس بنفر.

هكذا يقول النفر البحري قبل أن يتحول إلى نفر بري يجتاز الغابات من اليونان إلى مقدونيا، أو إلى بلاد الألبان. لكن إذا ما تنكَّرَ جيداً وصبغ شعره باللون الأشقر مضيفاً إلى ذلك تسريحة المونديال الشهيرة يصبح نفراً جوياً بامتياز.

يمر من المطارات لكن بعد عدة محاولات. يبتسم عندما يقبضون عليه، ولا يتذمر. لا يشكو. فهو يعرف أن الرضا بما هو عليه الحال مطلوب، لأنه في بلاده مطلوب. مطلوب للجيش، مطلوب للمخابرات، مطلوب للموت، مطلوب للإعتقال. فالنفر إنسان مهم في بلاده، تهتم به كل أجهزة الدولة، تلاحقه، تراقبه، تقتله، ولمَ لا؟ إنه نفر، هو خطير على الدولة أكثر من الخطر. وجوده يهدد العروش، ويدمر الجيوش. لذا عليه بالرحيل. عليه بشم الهوا بعد أن أكله مراراً. لا يعاني النفر في الغربة من الغربة إلا على مائدة الطعام. يتذكر طبخات الوطن، لذلك يسرع بلم شمل أم الأولاد، ويفكر غالباً بافتتاح مطعم.

النفر فجَّر ثورة وانتشر.

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى