صفحات الناسلقمان ديركي

النفر والنقطة/ لقمان ديركي

 

 

واتفقنا أخيراً مع المهرب. الرحلة بحرية، رومانسية، سفينة الحب، تايتانيك بلا غرق يا أبو شريك. قال بلم قال، اسمه قارب صيد جَرف، والإتفاق 6000 دولار عداً ونقداً من تركيا إلى إيطاليا. طبعاً أنت لن تشاهد المهرب إطلاقاً، أبو صطيف ملك البحار، فقط سيظهر اسمه على موبايلك لعدة مرات قبل الرحلة، وستسمع صوته عبر الموبايل وهو يصدر الأوامر باقتضاب، وستنفِّذ بدون وعي. لن تفكر، غير مسموح لك بالتفكير في حضرة صوت المهرب القادم من أعماق البحر على قولة الأستاذ نزار قباني. ووصلت الرسالة من تحت الماء.

انطلقْ يا فتى إلى حيث النقطة. خذ باصاً على حسابك وانتظر باقي الأوامر هناك. ساعة الصفر تقترب، انطلقنا أنا وصديقي بالباص كما لو أننا سواح. مائة كيلومتر والباص بنا يسوق، والأفكار في رأسي تدور. هل سننطلق؟ هل سنصل؟ هل سنغرق؟ كل الإحتمالات واردة يا أبو شريك. قال لي صديقي النَّفَر الذي مثلي، ووصلنا. صرنا في ساحة الميناء حيث موعدنا مع المجهول. البحر رايق يا أبو شريك، والشمس ساطعة، ونحن ذاهبون إلى إيطاليا، إلى مدخل الجنة، بوابتنا إلى أوروبا، وهناك في الساحة رأينا أكثر من مائة نَفَر سوري، رجال ونساء وأطفال، والكل ينظر إلى الكل، الكل يعرف أننا سنمضي معاً، هؤلاء هم رفاق الرحلة الجهنمية إلى الجنة.

وانتظرنا ونحن نحوم في الساحة حتى غابت الشمس، وانتظرنا حتى خيَّمَ المساء، وانتظرنا حتى أصبحنا في قلب الليل، ورن الموبايل في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، المهرب أبو صطيف معك، والأوامر أن نصعد في سيارة سوداء وصفها لنا.. فهرعنا إليها، وصعد معنا خمس نفرات آخرين فأصبحنا سبعة، نظرنا إلى الساحة فوجدناها وقد خلت من النَّفرات، الكل انطلق إلى سيارات أخرى، وكل سيارة أحدث من الثانية يا أبو شريك. ومضينا في موكب سوري بحت باتجاه طريق جبلي نزلنا منه إلى البحر. توقفت السيارات، هبطنا. الأوامر تصدر عبر حراس معهم عصي كي نسير بصمت في منحدر صخري باتجاه البحر، باتجاه النقطة.

جاء البلم. عفواً اللنش، واللنش عالي. كل نفر يمسك به حارسان ويرميانه إلى اللنش حيث يستلمه شخصان ويرميانه داخل اللنش. تماماً مثل عملية نقل البطيخ من الأرض إلى الشاحنة. أحسستُ بإحساس البطيخة يا أبو شريك عندما استلمني ثلاثة أشخاص باعتباري ضخماً نوعاً ما. ورموني، وتلقفني ثلاثة آخرون. أصبحتُ في اللنش، وأخرجتُ ثلاثة آلاف دولار من جيبي ودفعتها. فالإتفاق أن تدفع نصف المبلغ حال صعودك إلى البلم، عفواً اللنش.. أما النصف الآخر فتدفعه فور الدخول في المياه الإقليمية الإيطالية. لن تطأ قدماك بر إيطاليا قبل أن تدفع المبلغ كاملاً. هكذا اتفقنا مع أبي صطيف. وفجأة حدث ما لم يكن في الحسبان.

دوريات لخفر السواحل تحوم في المكان. لكن اتصالاً من أبي صطيف جاء للحراس، وبدأت تليفونات الثريا بالظهور. وكانت الأوامر أن يحركوا لنشاً خالياً باتجاه خفر السواحل. وبالفعل انطلق زورق فارغ باتجاه الدورية وتوقف بالقرب منها. رمى قبطان الزورق بنفسه من الزورق وعاد سباحة إلى البر، بينما انطلق قبطاننا مشفِّطاً بيختنا فتخَرْيَطنا أيما خَرْيَطة يا أبا شريك. ومضى مسرعاً بعيداً عن دورية خفر السواحل التي كانت منشغلة بالزورق الخالي، حتى وصلنا إلى اليخت الأساسي الكبير الذي سينقلنا إلى إيطاليا. هبطنا وانتقلنا إليه، وجلسنا ننتظر اللنش الذي مضى ليأتي بالدفعة الثانية من النَّفرات. فاليخت ذو الطابقين لن يمشي بمائة شخص. ما بتوفّي. كذلك تكلم رجال أبي صطيف. أبو صطيف الذي لم ولن نراه. وسكتَ النَّفر المستباح.. حتى عاد اللنش بمائة نفرات آخرين أكملوا نصاب قارب الصيد الجرف الذي انطلقَ باتجاه الشواطئ الإيطالية. وغداً نلتقي.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى