صفحات العالم

النفوذ الإيراني وتصدع المنطقة/ حازم صاغية

 

 

بعيداً عن نظرية المؤامرة الرائجة عندنا، وبعيداً كذلك عن أيّ مشاعر قوميّة أو شوفينيّة عربيّة مناهضة للإيرانيّين، يمكن القول إن الصعود الخميني البادئ مع إطاحة الشاه في 1979 كان السبب الأبرز والأهم في التصدع الذي تعانيه اليوم بلدان عربية كثيرة.

وهنا لابد من استدراك أساسي: فالحكم الإيراني لم يخترع بالطبع تناقضات العالم العربي الكثيرة، ولا هو استجلبها علينا انطلاقاً من عدم. ذاك أن تلك التناقضات موجودة وقديمة وصلبة التأثير، إلا أن الحكم المذكور وسياسته كانا السبب الخارجي الأبرز في تعريض بعض المجتمعات العربية لامتحان قاسٍ أفضى إلى تفجير بعضها وتعريض بعضها الآخر للانفجار. وذلك بالضبط لأن ذاك السبب الخارجي استطاع، من خلال تفاعله مع دواخل تلك البلدان ومع عصبياتها وتراكيبها الأهلية، أن يتحول سبباً داخلياً أيضاً.

ففي حقب ما بعد الاستقلالات العربية، وعلى رغم هشاشة النسيج الوطني القائم في معظم بلداننا، تمكنت الحرب الباردة واستقطابها من أن تصون الخريطة على الشكل الذي ارتسمت عليه بعد انهيار السلطنة العثمانية. وهنا يمكن استرجاع ثلاثة تحديات كبرى فشلت في أن تفجر الخريطة القائمة، على رغم كل ما أحاط بها من توقعات بالغة التشاؤم:

  • أولاً، في 1948 حين قامت إسرائيل بعد الانسحاب البريطاني من فلسطين الانتدابية، لم يتأدّ عن نشأة «دولة لليهود» تفسخ أيٍ من بلدان الشرق الأوسط العربي على أسس دينية وطائفية أو عرقية. صحيح أن كلاماً كثيراً تم تداوله وتعميمه في العالم العربي عن وجود مخطط إسرائيلي لتقسيم بلدان المنطقة إلى دويلات طائفية وعرقية، إلا أن ذلك لم يحدث.
  • ثانياً، وفي مطالع الستينيات، نشبت الحرب الأهلية العربية- العربية الأولى في اليمن. وكما هو معروف، حدث ذلك بعد الانقلاب العسكري الذي قاده عبدالله السلال ضد حكم الإمام بدر حميد الدين. ولئن أعلن السلال قيام الجمهورية التي هرعت مصر الناصرية لتأييدها عبر التدخل العسكري المباشر والكثيف، فيما بادرت السعودية وبلدان أخرى بمساعدة الإمام البدر، فإن ذلك الصدام الداخلي- الإقليمي لم يؤد إلى تقسيم اليمن، بل تمكنت الأطراف المعنية، اليمنية والعربية على السواء، من التوصل إلى تسوية في أواخر ذاك العقد. هكذا صينت وحدة اليمن في نهاية المطاف.
  • ثالثاً، ومع الحرب الأهلية- الإقليمية التي اندلعت في لبنان عام 1975، وكانت الحرب الأهلية الثانية الكبرى في التاريخ العربي الحديث، شاع التخويف الواسع من «مؤامرة» لتقسيم لبنان تكون في الوقت ذاته، وفقاً لذاك السيناريو، تمهيداً لتقسيم المشرق العربي برمته. لكن ذلك لم يتحقق أيضاً، ولم تنشأ بالتالي «الدويلة المسيحية» التي كثر التحذير منها. لقد امتدت، على نحو أو آخر، تلك الحرب الدامية طوال عقد ونصف العقد لتنتهي بمعاهدة الطائف في 1989 التي ضمنت، ولو على نحو هش، بقاء الوحدة اللبنانية.

على أنه في مطالع عقد الثمانينيات شرعت الأمور تتغير. ذاك أن الحرب الحمقاء التي شنها رئيس العراق يومذاك صدام حسين على إيران، قوّت وفعّلت لدى الأخيرة رغبتها في التوسيع الإمبراطوري لنفوذها كما كان يعبر عنه شعارها عن «تصدير الثورة الإسلامية». فما بدأ ضرورة حربية واستراتيجية لمكافحة صدام وإلحاق الهزيمة بجيشه ما لبث أن تحول إلى توجه راسخ وثابت لدى القيادة الخمينية.

وهذا الطموح وجد ما يلبّيه بعد الانسحاب الأميركي من العراق، الذي مُهّد له بتفاهمات مع الإيرانيين، ولكنْ خصوصاً باستعداد القوى السياسية الشيعية في العراق لإبداء أقصى الكرم والسخاء حيال طهران وإهدائها جزءاً من السيادة الوطنية العراقية للتغلب على التحديين السني العربي والسني الكردي. وها هو العراق اليوم، ومن دون أن ندخل في التفاصيل أو أن نرصد تطوّرات أحداثه على مدى العقد المنصرم، يتحوّل بلداً متصارعاً ذاتياً ومعرّضاً للانشطار إلى كيانات ثلاثة على الأقل: شيعي عربي وسني عربي وكردي.

ولكنْ قبل العراق، قدّم لبنان الذي كان يعيش حربه الأهلية- الإقليمية، الفرصة الذهبية لإيران من خلال إنشاء «حزب الله». ولم يكن بلا دلالة أن يولد هذا الأخير في مناخ الحرب العراقية- الإيرانية كذراع لطهران. هكذا كانت عمليات خطف الرعايا الأجانب في بيروت للتأثير على الغرب كي يتوقف عن انحيازه إلى بغداد. وحتى اليوم، لا يزال «حزب الله» وسلاحه السبب الأبرز والأهم (وإن لم يكن الأوحد) المعيق للوحدة الوطنية اللبنانية.

وفي اليمن، وفي مناخ الدعم الإيراني للحوثيين ومسلحيهم، في الشمال، ولـ«الحراك الجنوبيّ» في الجنوب، تتزايد الصعوبات التي تقف في وجه بقاء اليمن واحداً، سيما وأن العاصمة صنعاء باتت هي نفسها مهددة بالسقوط على أيدي الحوثيين. وقد يقال بحق إن ثمة مطالب مشروعة لدى هذه الجماعات، بما فيها حق أبناء الجنوب في تقرير مصيرهم، وفي الانفصال إذا شاؤوا ذلك، إلا أن الدور الإيراني يضاعف تعقيدات الحل السلمي لهذه المسألة ويهدد دائماً برفع جرعة العنف والدم.

أما في فلسطين، فلا يُنسى أن الرعاية الإيرانية لـ«حماس» في الفترة السابقة، ترافقت مع محاولة انفصال غزة عن الضفة الغربية ونشوء سلطتين متوازيتين، وفي أغلب الأحيان متعاديتين.

وبدوره حال التدخل الإيراني في سوريا دون إسقاط نظامها، وبذلك زاد قدرة الحرب الأهلية على ابتلاع الثورة، ومن ثم تعريض البلاد، تحت وطأة انفلات العنف والأحقاد وتفاوت الأوضاع والسلطات التي خضعت لها مناطقها، لاحتمال التقسيم. وحتى «داعش» التي يرتبط ظهورها ونموّها بعديد الأسباب، يستحيل الفصل بين ظاهرتها وبين نظامي الأسد والمالكي المدعومين من طهران. فالمنطقة، بكلمة أخرى، لا تحتمل هذا النفوذ الإيراني.

الاتحاد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى