صفحات العالم

النقاش الموجع عن مآلات الثورة/ ماجد كيالي

 

 

«ماذا لو أعلنت سورية استسلامها للأسد؟» هو عنوان لمقال حازم الأمين ، لكنه، على الأرجح، ليس دعوة للاستسلام، ولا نعياً للثورة السورية، كما قد يشتبه بعضهم، وإنما هو سؤال تحريضي، يصدر عن وجع، وعن حسّ أخلاقي، وربما عن غضب إزاء القوى التي تلاعبت، أو تحكّمت، بمسار تلك الثورة، وأوصلتها إلى ما وصلت إليه.

يسند حازم سؤاله الاستنكاري – النقدي إلى واقع الصراع السوري، وأوضاع المعارضة، بارتهاناتها واضطراب خطاباتها وطرق عملها، على الأغلب، وإن كان يحيل ذلك، في هذه المرحلة، إلى حدث تفضيل «الاتحاد الديموقراطي» (الكردي) دخول قوى «قريبة من النظام» إلى مدينة عفرين «بدلاً من دخول الجيش التركي إليها، وتفضيل أنقرة دخول النظام ذات المدينة بدلاً من بقائها تحت سيطرة حزب بي يو دي». وعنده حتى «قيادة الائتلاف السوري المعارض» انضوت تحت هذا الخيار، لقربها من السياسة التركية. ويرى الأمين أن ذلك يعني «اختناق كل المشاريع التي تستبعد النظام عن الحل النهائي»، و «هزيمة فعلية لما تبقى من قوى المعارضة»، إذ «لم يعد في الأفق إلا بشار الأسد، وهذا ينطوي بدوره على فاجعة وعلى مأساة.» كما يعتقد بأن «تزامن الحدثين (عفرين والغوطة) يوحي بأن الحل في سورية ينطوي على قبول بالوظيفة الدموية للنظام» من جانب «موسكو وأنقرة وطهران… وواشنطن».

ولا ينسى أن يذكّر بأن «رعاة المعارضات السورية» الذين «قبلوا بتسليم المدينة للنظام، سبق أن أهدوه مدينة حلب». ويختم الأمين مقاله قائلاً: «الهزائم تتتالى… البحث عن عدد أقل من القتلى هو الخيار الأسلم…»، مع الدعوة إلى ذهاب «وفد الائتلاف السوري إلى دمشق بدل أن يذهب إلى محيط عفرين وأن يُعلن من هناك استسلامه»، باعتبار أن ذلك «قد يفضي إلى عدد أقل من القتلى، ناهيك بأنه يُحرر الائتلاف من وظيفة المستتبع المُهان…». وهي دعوة، تستدعي التحفظ ولا جدوى منها، لأنها صادرة عن روح غاضبة ومستنكرة ومليئة بمشاعر المرارة والخذلان وثقل المأساة.

الجدير ذكره أن هذه الأفكار ليست جديدة، إذ سبق لعديد من المساندين توق السوريين إلى الحرية والكرامة أن تحدثوا عن ذلك في فترات مبكّرة، ضمنهم حازم الأمين، وهو ما سبق أن عرضته في مادتي: «في رثاء الثورة السورية أو نقدها» ، انطلاقاً من إدراك الأخطار التي باتت تتعرض لها ثورة السوريين، مع تحولها نحو العسكرة (صيف 2012)، وإخراج غالبية الشعب من معادلات الصراع ضد النظام، وتشريد الملايين منه في الخارج، وما استتبع ذلك من ارتهان المعارضة بكياناتها السياسية والعسكرية لأطراف خارجية، وتصدر الكيانات التي تتغطّى بالدين، ما أدى إلى إزاحة الثورة عن مقاصدها الأساسية المتعلقة بالحرية والكرامة والمواطنة والديموقراطية، ما أضر بها، وزعزع مصداقيتها وصورتها عند شعبها وفي العالم وخدم النظام. وكنت عرضت، وقتذاك، آراء في مقالات لحازم صاغيّة: «الربيع العربي: متى نقول إنه فشل»، وحسام عيتاني: «قبل نعي الثورات». وعصام الخفاجي «في رثاء الثورة السورية» ،  وسامر فرنجيّة: «العودة إلى الثورة»  وياسين الحاج صالح: «انهيار الإطار الوطني للصراع في سورية»، من دون إغفال كتابات وآراء ميشيل كيلو وبرهان غليون وعمر قدور وسميرة المسالمة وأكرم البني وحازم نهار وفايز سارة وعلي العبدالله، كأمثلة.

هكذا، فعندي أن مشكلة الثورة السورية تحددت منذ البداية، على الأغلب، بضعف استقلاليتها، وافتقادها إلى إجماعات وكيانات سياسية وطنية، وارتهانها للمداخلات والتلاعبات الخارجية، وحصرها الصراع مع النظام بالوسائل المسلحة. وأن مشكلة المعارضة بكياناتها السياسية والعسكرية، التي تصدرت الثورة وتحكمت بخطاباتها ومساراتها وطرق عملها، أنها لم تراجع تجربتها، بطريقة نقدية ومسؤولة، طوال السنوات الماضية، وأنها ظلت تتابع طريقها على رغم الانكسارات والتراجعات والتعقيدات، منطلقة في ذلك من عقلية رغبوية ومزاجية أو من عقلية قدرية أو تبعاً لتوظيفات وإملاءات خارجية.

ثمة اعتقادان خاطئان يمكن أن تتركّز عليهما، أيضاً، المسؤولية عن تدهور أحوال الثورة والمعارضة، والكارثة التي ألمت بالسوريين، أولهما، الاعتقاد بإمكان حصول تدخل خارجي من أي مستوى (لا ننسى جمعة «التدخل الخارجي»)، ولو حتى على مستوى فرض مناطق حظر جوي أو مناطق آمنة، عزّز من ذلك التصريحات الأميركية والتركية بخاصة، لا سيما عن الخطوط الحمر وبأن الأسد عليه أن يرحل، ونزع شرعية النظام في جامعة الدول العربية، يضاف إلى ذلك نموذج ما حصل في العراق وليبيا سابقاً، والتشجيعات على العمل المسلح. وفي المحصلة، فإن السوريين تعرّضوا، على هذا الصعيد، لإنكار منقطع النظير، إذ لم تفعل الدول المشجعة شيئاً لتجنيب السوريين الأهوال التي تعرضوا لها، حتى على مستوى وقف القصف والتدمير والتشريد، حتى الآن، بل إنها سمحت بدخول إيران وروسيا إلى جانب النظام في الصراع ضد شعبه.

وثانيهما، الاعتقاد بحتمية انتصار الثورة دفعة واحدة (ما يذكّر بمآلات ما يسمى «ساعة الصفر» و «ملحمة حلب» مثلاً)، علماً أنه في السياسة وفي الثورات، وفقاً للتجارب التاريخية، لا توجد حتميات، فالثورات قد تنتصر أو تنهزم، كما قد تنحرف عن مقاصدها أو تتم السيطرة عليها، كما يمكن أن تحقق أهدافها بطريقة تدريجية أو جزئية. ويبدو أن بعض قيادات المعارضة لا يدرك ذلك، وبعضاً آخر لا يمتلك الجرأة السياسية والأخلاقية لتوضيح هذه الحقيقة المرّة لشعبه، على نحو ما صرّح الأمين في مقاله، وصرح بها الخفاجي بكل قوة (آذار/مارس 2014). الأمر الذي كان يفترض، قبل الوصول إلى هذه المآلات المأسوية، تخفيف وتائر فاعليات الثورة، وضمنه تخفيف الصراع المسلح بدل تصعيده، للحفاظ على طول النفس، وتجنيب البيئات الشعبية مزيداً من الكوارث، وبالتصرف على أساس أن الثورة أثبتت ذاتها، في هذه المرحلة، بخروج الشعب إلى الشارع، إلى مسرح التاريخ، في مواجهة النظام للمرة الأولى، وتعبيره عن ذاته في صيحته: «الشعب يريد إسقاط النظام»؟ باعتبار كل ذلك مرحلة أو «بروفة» بانتظار مرحلة قادمة أنسب؟ («أسئلة لا تناقشها المعارضة السورية»، «الحياة»، 2/8/2016).

ولعله كان الأجدى انتظار تلك اللحظة، أو الظروف والمعطيات المناسبة، للاستثمار بها والبناء عليها، بدلاً من مزيد من التخبط والارتهان وتحميل السوريين أكثر من قدرتهم، وهو ما حصل بعد صيف 2012. والمعنى أن ثورة بوتائر صراعية أقل، وتطورات كفاحية متدرّجة، مع بقاء السوريين في أرضهم، وحرمان النظام من استخدام أقصى قوته، كانت أفضل بكثير مما حصل، والذي أدى إلى كارثة على السوريين، وثورتهم، كما بينت التجربة. وبالتأكيد فإن ذلك كان أفضل وأكثر جدوى من المكابرة والإنكار أو من الندب وإلقاء اللوم على الآخرين.

الحياة

 


 

ماذا لو أعلنت سورية استسلامها للأسد؟/ حازم الامين

خُير حزب الاتحاد الديموقراطي (بي يو دي)، وهو الحزب الأوسع انتشاراً بين أكراد سورية، بين أن يدخل الجيش التركي مدينة عفرين، وأن تدخلها ميليشيات قريبة من النظام السوري، فاختار الأخيرة! هذا التبسيط ضروري في مرحلة أخرى من نقاش ما جرى أخيراً في تلك المدينة السورية، لكن قبل ذلك يجب التدقيق في حقيقة ما إذا كان الحزب فعلاً قد خُير، والعودة إلى المشهد السياسي الشديد التعقيد الذي جرت في ظله هذه المفاضلة.
فـ «التسوية» المتمثلة بدخول ميليشيات قريبة من النظام إلى عفرين لم تكن بعيدة عن حقائق التنسيق غير المسبوق بين موسكو وأنقرة وطهران، وأيضاً جرت في ظل رعاية واشنطن لقوات «قسد» الكردية تدريباً وتسليحاً وإشرافاً. ميليشيا النظام دخلت غير متحدية الحقائق الثقيلة التي يمليها هذا الاصطفاف، وهنا يصح القول إن أنقرة أيضاً اختارت أن يدخل النظام المدينة عوضاً عن دخولها هي إليه، وإن اعترى خطابها حيال الخطوة بعض الوعيد لجيش النظام ولميليشياته. فالمفاضلة الموازية بين أن يسيطر النظام على عفرين، وأن تكون المدينة بيد عدو أنقرة التاريخي، جاءت نتيجتها أن أنقرة أيضاً تفضل ميليشيات النظام على الميليشيات الكردية. وهذا ليس استنتاجاً، فأداء أنقرة منذ سنوات كشف أن الأخيرة ترى في النظام شراً أقل عليها، وسبق أن رأت في «داعش» أيضاً خياراً إذا ما لاح الخطر الكردي.
النظام السوري ليس في موقع يرشحه لخوض مواجهة مع الجيش التركي. لم يكن يوماً بهذا الموقع، وهو الآن ليس فيه أكثر من أي وقت مضى. ولا أحد يمكنه أن يصدق أنه دخل عفرين متحدياً الإرادة التركية. التحالف المنعقد في خلفية هذا المشهد بين أنقرة وموسكو وطهران لا يجعل المواجهة منطقية أصلاً، وعلى المرء والحال هذه أن لا يُغامر باستنتاج مفاده أن مواجهة قادمة على هذا الصعيد. فدخول ميليشيا موالية لبشار الأسد كان مخرجاً منطقياً لجميع الأطراف في عفرين. أما أن يُذهل ناشطون سوريون من استقبال عفرينيين لهذه الميليشيات رافعين صور بشار الأسد، فكان حرياً بهم أن يذهلوا أيضاً من مواكبة وفد من قيادة الائتلاف السوري المعارض للجيش التركي على تخوم عفرين، علماً أن الذهول صار وظيفة وحيدة لكثير من الجماعات السورية في ظل عجزها عن التأثير في مجريات الحدث في بلدها.
دخول الميليشيات الموالية للنظام في سورية إلى عفرين كان حلاً يرضي كل أطراف الحرب في تلك المدينة، لكنه أيضاً مثل إعلاناً عن اختناق كل المشاريع التي تستبعد النظام عن الحل النهائي. وبهذا المعنى مثلت الخطوة هزيمة فعلية لما تبقى من قوى المعارضة. فلم يعد في الأفق إلا بشار الأسد، وهذا ينطوي بدوره على فاجعة وعلى مأساة. ففي الوقت الذي دخلت فيه قوات النظام إلى عفرين بوصفها ملجأ المتحاربين، كانت هذه القوات تُقدم على قتل المئات في الغوطة الشرقية! وتزامن الحدثين يوحي بأن الحل في سورية ينطوي على قبول بالوظيفة الدموية للنظام. وأطراف هذا القبول هم القوى التي جرت في ظلها تسوية عفرين. أي موسكو وأنقرة وطهران، وأيضاً واشنطن التي لم تكن بعيدة عن مسارات التسوية. وبهذا المعنى لا أحد بريء من الدم السوري في الغوطة، وهو على كل حال ما يُفسر الصمت الذي قوبلت به المجزرة هناك.
إنها مأساة حقاً، والمرء إذ يستعرض مشاهدها تتكثّف في مخيلته عشرات الصور التي تحف بها، فيسقط في عجزه عن تفسير هذا الاستعصاء. فأن يكون النظام خياراً دولياً لحل معضلة عفرين في الوقت الذي يتولى فيه قتل مئات السوريين في الغوطة على نحو سافر ومن دون أي رد فعل دولي يذكر، وأن تقبل أنقرة بهذا الحل في الوقت الذي يُرابط الائتلاف الوطني السوري مع قواتها في محيط المدينة، فإن الأسئلة في ظل هذا المشهد تطال جدوى الاعتراض على الوظيفة الدموية للنظام. فأي معترض على قتل المواطنين في الغوطة سيكون خاسراً، ذاك أن الائتلاف نفسه يُشارك في هذه الغارات عبر مشاركته أنقرة في حربها في عفرين.
مسؤولية الأكراد، وحزبهم الأوجلاني، عن دخول النظام مدينتهم ليست والحال هذه في مستوى مسؤولية المعارضات السورية المقيمة في تركيا، وهي من دون شك لا توازي مسؤولية أنقرة ولا تنفصل عن مسؤولية واشنطن. وهنا تبدو العودة إلى السؤال الأول خاتمة منطقية لهذه التراجيديا، فإذا استبعدنا كل عناصر المشهد وأبقينا على حقيقة أن الـ «بي يو دي» قرر أن ميليشيا النظام أقرب إليه من الجيش التركي، فإن ما علينا استعادته هنا هو حقيقة العداء التاريخي بين أنقرة وبين أكرادها وأكراد سورية، وهذا ما سيفضي إلى أن الخطوة الكردية منطقية، وغير المنطقي فيها أن تكون تسوية يشارك فيها رعاة المعارضات السورية ممن قبلوا بتسليم المدينة للنظام، وسبق أن أهدوه مدينة حلب.
لم يعد مجدياً أن يُقاوم أحدٌ المسارات التي تخطها الدول الراعية للحرب في سورية. الهزائم تتتالى وهي قدر لا بد منه. البحث عن عدد أقل من القتلى هو الخيار الأسلم في ظل هذه الهزيمة المدوية. أن يذهب وفد الائتلاف السوري إلى دمشق بدل أن يذهب إلى محيط عفرين وأن يُعلن من هناك استسلامه، ربما كان خطوة مفيدة، فهذا قد يفضي إلى عدد أقل من القتلى، ناهيك عن أنه يُحرر الائتلاف من وظيفة المستتبع المُهان. ففي دمشق ستكون السجون في انتظاره، وربما المشانق، أما في أنقرة، فهو جزء من تحالف جرى قتل الناس في الغوطة تحت رعايته وقبوله، وهو هناك في أنقرة ينتظر نتائج هذا الموت ومردوده على سيده الذي أفسح للنظام في عفرين وفي الغوطة.
يجب الإسراع في إعلان الاستسلام، فقبل سنة كان الاعتراف بالهزيمة ضرورة، أما اليوم فلا شيء أقل من الاستسلام، وغداً إذا لم نسارع في إعلان استسلامنا، سيكون العرض أن لا بديل عن إقدامنا على الانتحار. النظام السوري سبق أن طلب ذلك من شخص أعرفه.

 


 

 

«الربيع العربيّ»: متى نقول إنّه فشل؟/ حازم صاغيّة

باتت هناك قناعة مشتركة تجمع بين أوساط واسعة من المشاركين في ثورات «الربيع العربيّ»، ومن مؤيّديها والمتحمّسين لها، مفادها أنّ تلك الثورات ستُغرق مجتمعاتها قبل أن تُنقذها، وأنّ هبوطاً حادّاً سوف يسبق الصعود المرتجى. ويمكن أن يقال الشيء نفسه بلغة أخرى هي: أنّ الثورات لن تطرح الحلول قبل أن تطرح المشاكل التي ظلّت لعقود ممنوعة من الإعلان عن نفسها، تصادرها «انتصارات» الحاكم المزعومة و «إنجازاته» الكاذبة.
هذا التقدير، في أغلب الظنّ، صحيح، وصحّته هي ما يبرّر، على رغم كلّ شيء، الوقوف على أرض «الربيع العربيّ» وتحمّل الأكلاف الباهظة التي يرتّبها.
لكنّ ذلك لا يعني أنّ الأكلاف تبقى محتملة حتّى لو فاقت المكاسب التي يُفترض بهذا «الربيع» أن يأتي بها. فأين يُرسم الخطّ الحدوديّ للأكلاف الذي يكون عبوره إعلاناً عن فشل «الربيع العربيّ» وثوراته؟
هنا، ومع ملاحظة التفاوت بين بلد وآخر، وبين ثورة وأخرى، قد يجوز القول بأنّ الخطّ الحدوديّ هو الإفضاء إلى حروب أهليّة مفتوحة، أو إلى فوضى بلا أيّ أفق سياسي، على نحو تتعزّز معه القناعة بانعدام كلّ قدرة على حكم البلد المعنيّ، كائناً من كان لون الحاكم. وهذا ممّا يمكن قوله في سورية خصوصاً ولكنْ أيضاً في ليبيا، وربّما مصر.
كذلك يرتسم الخطّ الحدوديّ إذا ما انتهينا إلى موت معمّم ومفتوح، وصولاً، في الحالة السوريّة تحديداً، إلى استخدام السلاح الكيماويّ، من دون ردّ خارجيّ رادع. في حال كهذه، يكون في وسع وحشيّة الحاكم، بالتواطؤ مع ضعف الحساسيّة الإنسانيّة للدول القادرة، أن تدمّر كلّ شيء. هنا تندفع الحياة ذاتها إلى حالة صفريّة لا مكان معها للسياسة أو للانتصارات.
ويرتسم الخطّ الحدوديّ إذا ما آلت بنا الأمور، في عموم المنطقة، إلى أصوليّات وطيدة حاكمة تعطّل السياسة وتنهي كلّ قدرة على زحزحتها عن مواقعها في السلطة. هنا أيضاً، ومع إخضاع النساء والحياة الثقافيّة والفكريّة، تكون كلفة التغيير باهظة جدّاً، تتهدّد معها المرتكزات العميقة لإعادة إنعاش الصلب الاجتماعيّ وديناميّاته. والشيء نفسه يقال في حال فراغ المنطقة من أقليّاتها الدينيّة والمذهبيّة، أو من كوادر الطبقات الوسطى ومتعلّميها: في الحالة الأولى، يُطاح التعدّد الآن وغداً، وفي الحالة الثانية، تغدو السياسة، حتّى إشعار بعيد آخر، أضغاث أحلام.
لكنّ هذه جميعاً لا تزال احتمالات بعيدة تصارعها احتمالات أخرى واعدة وداعية إلى التفاؤل. وما الحيويّة التي تبديها الحركات الشبابيّة والنسويّة والثقافيّة، خصوصاً في تونس ومصر، غير عنصر مشجّع على هذا الافتراض. وذلك فضلاً عن فشل الحكّام الإخوانيّين، في البلدين المذكورين، في فرض حكم إخوانيّ. وهذا وسواه مما يبرّر استمرار الوقوف على أرض «الربيع العربيّ». إلاّ أنّه، وفي ما لو حصل العكس، فهذا لن يكون، بحال من الأحوال، سبباً للاعتذار من الأنظمة التي تسبّبت بقسط كبير من أيلولة الأوضاع إلى ما آلت إليه، وإن كان سبباً لإعادة النظر في الأوضاع والتراكيب العميقة لمجتمعاتنا وقوانين اجتماعها الرديئة.

 

 


 

 

قبل نعي الثورات/ حسام عيتاني

هل بالغت الشعوب العربية التي ثارت على أنظمة الاستبداد في التفاؤل قبل أن تصطدم بحائط الواقع؟ هل نشهد اليوم انتكاسة آمال «الربيع العربي» في الديموقراطية وبناء دولة الحق والمواطنة، مقدمةً للعودة إلى حكم العسكر؟

ما يجري في مصر وتونس وليبيا واليمن يدعو إلى الاعتقاد أن الواقع أسفر عن وجهه وأن نشوة إسقاط الديكتاتوريات هناك انتهت إلى ما يشبه الإحباط بل اليأس من تقدم جدي نحو حكومات ذات قواعد سياسية عريضة. انتهت أفراح الحادي عشر من شباط (فبراير) 2011 بكآبة منظر المعتصمين أمام مسجد رابعة العدوية، وأطلت العشائر وأمراء الكتائب المسلحة في اليمن وليبيا لتقول إنها لن تخلي الساحة بالسهولة التي اعتقدها من نزل إلى الميادين والساحات في الأيام الأولى للثورات.

وبعد قضاء نظام بشار الأسد على الناشطين السلميين، بدا أن جهوده لجعل الثورة على نظامه تشبهه في الممارسات والانتهاكات قد نجحت نجاحاً باهراً، ناهيك عن إشهار الخطاب الطائفي الصريح في وجه خطاب السلطة الطائفي المغطى باللغو العلماني والمقاوم.

كانت النوايا الحسنة هي ما حمل كثراً من أنصار الثورات على الاعتقاد بأن تخلي زين العابدين بن علي في تونس وحسني مبارك في مصر عن سلطاتهما، حرصاً منهما – وفق ما قيل- على منع سفك الدماء، قابل للتكرار في دول عربية أخرى. تشبث معمر القذافي بحكمه والحرب التي أطلق شرارتها، قدما إشارات مبكرة عن طبيعة مختلفة من الصراعات التي تحملها الثورات. الطبيعة الأهلية، ما دون السياسية بالمعنى الحديث للكلمة. النوايا الحسنة تدخلت مرة ثانية لتقول إن سقوط القذافي على رغم دمويته، سيفتح باب التوافق الليبي لبناء دولة المواطنة. لم يحدث ذلك.

بكلمات ثانية، انتهت مرحلة البراءة الثورية في العالم العربي وحل مكانها «الواقع» كما هو، بتعقيده وذئبية قواه وانحطاط قيمها المحركة. وخرجت من قاع المجتمعات العربية كل الأمراض التي لم تعالج كما يجب ساعة ظهورها. خرجت النوازع القومية المكبوتة والتوترات القبلية والجهوية والأحقاد الطائفية ومخاوف الأقليات. وتجلت كل الآفات التي اعتبرتها الأنظمة السابقة إنجازات لها، كبؤس التعليم وتهافت النخب وغياب الصحافة والإعلام المستقلين والاقتصاد الريعي، وصارت عوامل تُفاقِم صعوبة الانتقال السلمي إلى أنظمة حكم تتمتع بتمثيل حقيقي لشعوبها.

وبعد أسابيع من عزل محمد مرسي يقف الجيش المصري حائراً في كيفية التعامل مع «التفويض» الذي طلبه من الشعب لمواجهة «الإخوان المسلمين» كحركة إرهابية. وتعجز الحكومة التونسية والمعارضة عن التوافق على علاج أزمة تشمل الدولة بمؤسساتها كافة وسط تصاعد خطر العنف الأصولي. يجري هذا فيما تسير ليبيا إلى مصير غامض يؤدي فيه أمراء الميليشيات أدوار الدولة غير المؤهلة أن تلملم أشلاءها.

بيد أن هذا لا يعني أن المراوحة في المكان متاحة. لقد حطم ضغط تطور المجتمعات العربية السدود التي بنتها أنظمة الديكتاتوريات العسكرية وبات من المستحيل إعادة بناء ما انهار.

يستسهل نقاد الثورات العربية فكرة «العودة إلى الوراء» بتصورات عن تحالفات جديدة بين العسكر وفئات سياسية- اجتماعية ما. ربما تتسم الرؤى هذه بقدر من الواقعية. لكنها في النهاية تحاول إعادة بناء الهيكل القديم ذاته، من دون الأخذ في الاعتبار الحركات العميقة التي أطلقتها الثورات التي تأبى التراجع إلى أن تُخرج كل ما تراكم في متون وحواشي المجتمعات العربية. وليس كله مما يرحب المرء برؤيته.


في رثاء الثورة السورية…/ عصام الخفاجي

قبل أيام قال روبرت فورد، آخر سفير للولايات المتحدة إلى سورية وممثلها لدى المعارضة حتى تقاعده أخيراً، كلاماً كان سيصدم كثيرين، لا سيما في أوساط من وقفوا إلى جانب الثورة لو قيل قبل بضعة أشهر. لم يصدمنا إعلان مسؤول أميركي تحرر من التزاماته الديبلوماسية وصار في وسعه إبداء رأي لا بد من أن إدارته تشاركه فيه بأنه لا يرى أفقاً لإزاحة الأسد من السلطة، لا في المدى القريب ولا المتوسط. محزن أن تكون ردود الفعل الضمنية على تصريحاته: «أعرف ذلك». محزن ألا يتحوّل رأيه إلى مانشيت صفحة أولى لأن المحررين يعرفون أن لا جديد ينقلونه الى قرّائهم.

أكاد أجزم بأن غالبية قد تكون ساحقة من مؤيدي الثورة ومن السوريين الصامتين أو الحائرين ومن الحكومات، وبالطبع، من أنصار الأسد، تدرك أن الثورة تحتضر. بل أغامر بتعميم هذا الحكم ليشمل فصائل المعارضة مستثنياً من لم يروا فيها منذ البدء ثورة ضد نظام وحشي وإنما حرباً أو جهاداً لإقامة دولة الإسلام أو الخلافة.

أدرك أن إطلاق هذا الحكم موجع لكنه ضروري. فالوقائع التي يسكت الناس عنها تصير سموماً، وفق نيتشه.

تجاوز الوقت الحديث عن تسليح نوعي للمعارضة «المعتدلة» يقلب موازين القوى. هو مطلوب، ومطلوب بشدّة لتعديل تلك الموازين بما قد يساعد على انتزاع تنازلات من نظام الأسد، وأشدد هنا على كلمة «قد». فما كان كفيلاً بتحقيق ذلك الانقلاب وإلحاق الهزيمة به في العامين الأولين لم يعد اليوم غير أمل أخير بتفادي هزيمة كاملة تحيل الثورة إلى هامش في كتب التاريخ، كما الحرب الأهلية الإسبانية بين نظام الديكتاتور فرانكو وأنصاره وبين الجمهوريين. ولن يغيّر موازين القوى تلوين صياغات النشرات الإخبارية: «يقول النظام السوري إنه سيطر على يبرود»: زعم لا غير. ولكن «سيطرت قوات المعارضة على حاجز…»: خبر قاطع الصحة.

تأخر الوقت على إسقاط الأسد، لأن أطناناً من الأسلحة يمكن أن تمكّن المقاتلين من الدفاع عمّا تبقّى من المناطق المحررة وتضعف قدرة الطيران على إلحاق الدمار، لكنها لن تكون كافية لتحويل الجيش الحر إلى ندّ لجبهة النصرة. فعديد الأول وفقاً لتقديرات استخبارية غربية 11 ألف مقاتل يقابله 30 ألفاً لجبهة النصرة فضلاً عن آلاف «داعش» التي يصعب تقديرها لكنها تزيد عن خمسة آلاف بالتأكيد.

تأخر الوقت لأن الثورة انهزمت سياسياً. للضعف العسكري والمادي علاقة وثيقة بلا شك بالهزيمة السياسية، لكنه ليس سببها الأساس.

المعارضة مدينة بالاعتذار للشعب السوري على تبنّيها خطاباً ساذجاً وتجهيلياً لا يختلف كثيراً عن خطاب النظام في تعبيره عن احتقاره.

المعارضة مدينة بالاعتذار عن خطاب قادتها المنتشي بانتصارات السنة الأولى. خطاب أثار الشك في كونهم رجال دولة يعرفون ما يتحدثون عنه ويحسنون تقدير الأمور. كان مفهوماً الحديث عن أن الأسد لن يبقى على رأس الحكم. ما كان مثيراً للسخرية أن يعلن رئيس المجلس الوطني السوري، الجسم القيادي للثورة قبل تشكيل الائتلاف، أن الأسد سيسقط قبل نهاية 2011. ومتى قال ذلك؟ قبل انتهاء السنة بأسبوعين!

المعارضة مدينة بالاعتذار للشعب السوري، لأنها تخيّلت أن الإقرار بوجود قطاعات شعبية واسعة تؤيد النظام عن قناعة يضعف الصورة الشعبية للثورة. ظل حديثها، وأراهن بأنها لم تكن مقتنعة به، يمارس أبوية الإعلام الأسدي مقلوبة: ثمة خائفون نشفق عليهم، ومضَلّلون سيكتشفون الحقيقة التي تجلّت لنا ومرتزقة نعاديهم. مثل هذا الإنكار الذي لازم تقاليد السياسة العربية هازم للذات، إذ هو يعفي المعارضة من السعي الى إيجاد قاسم مشترك بين برنامجها السياسي ورؤيتها المستقبلية من جهة، وبين رؤى قطاعات قد تكره الديكتاتورية لكنها تخشى من ديموقراطية تهمّشها باسم حكم الغالبية، كعراق اليوم ومصر الإخوان المسلمين، قد تعارض الأسد واحتكار عائلته للسلطة ولا تعارض الفكر البعثي.

الثورة على النظم العقائدية، كما كتبت في «الحياة» في فترة مبكّرة من عمر الثورة، عملية تاريخية تختلف نوعياً عن الثورات ضد ديكتاتوريات لا تتقنّع أيديولوجياً مثل نظامي مبارك وبن علي، لأن النظم الأولى تعيد هندَسة مجتمعاتها وتفقر ثقافتها السياسية إلى حد يقارب العدم.

المعارضة مدينة بالاعتذار للشعب السوري، لأنها إذ اضطرت إلى اللجوء الى المقاومة العسكرية عسكَرَت سعيها لكسب الشعب. أنقل عن خبراء عسكريين غربيين ذهولهم من إصرار المعارضة على تحرير مدن تعرف أنها لن تستطيع حمايتها من بطش النظام ولا إعاشة سكّانها، وأنقل تفسيرهم لعدم اللجوء إلى خوض حرب عصابات يرونها الوسيلة الفعّالة لمجابهة نظام كهذا بأنه عائد إلى أن الجسم الأساس للجيش الحر مكون من قوات نظامية منشقّة لا تعرف غير الحروب التقليدية. ويشيرون تأكيداً إلى أن الاعتماد على «حزب الله» والحرس الثوري والميليشيات العراقية لم يأت بالأساس سدّاً لنقص في المقاتلين مقدار ما كان توجيهاً إيرانياً بارعاً باعتماد أساليب حرب عصابات يجهلها الجيش السوري كما مقاتلو الجيش الحر. أنقل هذا لا لأنني آخر من يحق له الحديث عن الحروب فقط، بل للتذكير بأن خوض حرب العصابات يتطلّب تكويناً عسكرياً مختلفاً بالتأكيد.

التاريخ المعاصر (ولا أستند هنا أيضاً إلى «خبرتي» في حروب العصابات) يقول إن ما من حرب عصابات انتصرت أو انهزمت لأسباب عسكرية. فمقاتلو حروب العصابات لا يمتلكون قوات قادرة على قهر سكان المدن المحررة. هم ينتصرون سياسياً حين يمهّدون لمعاركهم بتعبئة السكان المحليين ضد نظام الحكم وينجحون في إقناعهم بأنهم يقدّمون بديلاً سياسياً أكثر تجاوباً مع ما يحلمون به ويطمحون إليه.

المعارضة مدينة بالاعتذار للشعب السوري لأن أي متابع كان بوسعه معرفة أن من حرر حلب هم أبناء أريافها لا أبناء المدينة نفسها، ولأن أبناء حلب وأدلب والرقّة، حتى وإن كانوا كارهين للأسد ونظامه، لم يروا أنفسهم مديرين لشؤونهم بعد إزاحة الخصم، بل كانوا شهوداً سلبيين على تغيير في طاقم الحكم رافقته تغييرات في نظم تقرر ما يجب أو ما لا يجب قوله، ما يخضع للعقاب وما لا يخضع. نظم تقرر قوانين العقاب وأشكاله وتحدد للناس أصدقاءهم وأعداءهم. نظم لم يختاروا سابقها ولا اختاروا لاحقها.

المعارضة مدينة بالاعتذار للشعب السوري لأنها رفضت ولا تزال ترفض إطلاق تسمية الحرب الأهلية على الثورة. الاعتذار مطلوب هنا لا لتصحيح خطأ أكاديمي، بل لأن إدارة الصراع في حرب أهلية تختلف نوعياً عن عملية قيادة انتفاضة جماهيرية على عظم الأخيرة. رفضت المعارضة التسمية إذ أرادت الإيحاء بأن غالبية الشعب تقف معها في المعركة ضد نظام استبدادي وحشي في ما يحيل مفهوم الحرب الأهلية إلى انقسام شعبي في الرؤى السياسية وربما القيمية. ورفضه النظام إذ يريد تصوير وحشيّته ضد الثورة والشعب حرباً ضد إرهابيين متطرّفين. ولكن ما من ثورة كبرى في التاريخ لم تكن حرباً أهلية في جوهرها. والثورات ضد النظم العقائدية، أياً كان حجم البلد الذي تندلع فيه، هي ثورات كبرى في رأيي. بل إن الانقسامات المجتمعية التي حوّلت الثورات الكبرى إلى حروب أهلية كانت، كما هو حال سورية، انقسامات مناطقية لا مجرّد انقسامات بين أغنياء وفقراء أو بين حكام ومحكومين.

المعارضة مدينة بالاعتذار للشعب السوري لأنها، كما النظام الشمولي الحاكم ذو خطاب الانسجام الاجتماعي الذي لا يخرقه غير خائن، لم تناقش جدّياً ولم تنظّم (وأتمنى بكل صدق أن أكون مخطئاً) مؤتمراً أو ندوة أو ورشة عمل عن أسباب استعصاء السويداء الدرزية عن الثورة على رغم أن أبناءها لم يظهروا حماسة لدعم الأسد، أو عن كيفية جعل الجسم الكردي جزءاً من الثورة السورية، أو عن كيفية تمكين تيار صلاح جديد من علويي القرداحة المعادين للأسد وضمان دوره في احتلال دور قيادي يستحقه في سورية المستقبل. بعض معارضي اليوم مطالب بالاعتذار للشعب السوري ولحركات سياسية ومبدعين سبقوه بسنين، وربما بعقود، في الوقوف بوجه نظام الأسد فيما كانوا صامتين أو مصفقين له منطلقين من المنطق ذاته الذي يستخدمه مناصرو بشار اليوم: الدفاع عن جبهة الصمود والتصدّي (الإسم التجاري السابق لقوى الممانعة). مطالبون بالاعتذار للإخوان المسلمين، لتيار صلاح جديد، لرابطة العمل الشيوعي، لتيار رياض الترك، لسعد الله ونّوس ومئات آخرين.

المعارضة مدينة بالاعتذار للشعب السوري لأن إجابتها عن تلك الأسئلة الحارقة، حتى وإن انطلقت من أكثر النيات إخلاصاً، حملت نذر الخطر. طوال السنوات الثلاث الفائتة، كان مثال المعارضة العراقية لصدّام حسين دائم الحضور في ذهني وهو ما دفعني إلى كتابة مقال آخر في «الحياة» يقارن بين المعارضتين السورية والعراقية. حيثما سمعت مصرياً يقول «لا فرق بيننا وبين إخواننا الأقباط»، وحيثما سمعت شيعياً عراقياً يقول «لا فرق بيننا وبين إخواننا السنّة»، وحيثما سمعت سنّياً سورياً يقول «لا فرق بيننا وبين إخواننا العلويين أو المسيحيين» عليك أن تستشعر الخطر. «إخواننا» هي كلمة السر. كلمة السر هذه ظلّت جزءاً من الإكسير الذي تعد به المعارضة الشعب السوري بمستقبله الديموقراطي. ديموقراطية تعني حكم الغالبية: غالبية شيعية في العراق وغالبية مسلمة في مصر وغالبية سنّية في سورية. وحكم الغالبية ديموقراطياً هنا هو حكم قيمها الدينية.

المعارضة مدينة بالاعتذار للشعب السوري لأنها على حق في أن ما تشهده سورية اليوم ليس حرباً أهلية. انتهت الحرب الأهلية إذ لم يعد ثمة طرفان يمتلكان قاعدة جماهيرية تتكافأ بهذا المقدار أو ذاك يتصارعان على كسب الغالبية لتأييد مشروعهما السياسي. ثمة عصابات تتصارع على نهب دولة منخورة: سلطة داعرة وجنين سلطة «داعشة» و «نصرة». المعارضة تقول إن العدو يضخّم دور الإرهابيين. والأرقام تقول إن أعداد القتلى في المعارك بين «النصرة» و «داعش» بلغ 4500 خلال ثلاثة أشهر.

بحسبة بسيطة: المتوسط الشهري لضحايا النظام منذ اندلاع الثورة 2500 ومتوسط ضحايا قتال العصابات 1500 شهرياً.

وكلّنا مدينون بالاعتذار للشعب الذي أطلق الثورة ولمقاتلين اندفعوا لمواجهة آلة وحشية بدوافع نبيلة. لا نمتلك إلا أن ننحني لهم إجلالاً. كان بوسعنا أن نفعل المزيد.

على المعارضة أن تعتذر.


العودة إلى الثورة/ سامر فرنجيّة

قد لا يكون في التاريخ الحديث للثورات والتحركات الشعبية حدث كالثورة السورية، أنتج هذا العدد الضخم من الصور في ظل غياب كامل لأي تمثيل سياسي لتلك المشاهد أو لغة توحِّدها أو تنظِّمها. في ظل هذا التدفق العشوائي للصور، باتت الثورة أشبه بلغة غريبة يحاول المراقب أن يبحث في داخلها عن بعض الألفة أو أن يستقرئ في إشاراتها شيئاً من المعنى. وبعد ثلاث سنوات من التخاطب الفاشل، أصبحت كل كلمة تحتوي على نقيضها لتجعل الكلام أشبه بعملية سوء تفاهم متواصلة.

هكذا اختلطت المجزرة بالخوف على الأقليات، والثوار بصعود السلفيين، والنظام القاتل بمحاربة الإمبريالية، والهروب من الماضي بالرعب من المستقبل، ومطلب الحرية بدواعي التقدّم، والثورة بالحرب الأهلية. وبات كل ما يتعدّى المستوى الماقبل لغوي للتضامن في وجه الموت، مصبوغاً بلون رمادي على رمادي، لاختلاطه بعكسه المزعوم.

أدّى طغيان اللون الرمادي، وهو يُفترض أن يكون لون النضج السياسي المحرّر من الرومانسية والخلاصية، إلى علاقة بالثورة السورية أشبه بحركة المد والجزر، تتحرّك على إيقاع إخفاقات المعارضة من جهة ومجازر النظام من جهة أخرى. وبعد ثلاث سنوات من هذا الأخذ والرد الأحادي الجانب، نشأت حالة من التعب إزاء الثورة ومتطلباتها، إن لم يكن الغضب لصمتها وعدم توفيرها أية طمأنينة لمن دعمها، غير اللون الرمادي لمن تعلّم من أخطاء الماضي.

الرمادي هو اللون الوحيد الذي لم يظهر في فيلم طلال ديركي، «العودة إلى حمص»، الحائز على جائزة أفضل فيلم وثائقي أجنبي في مهرجان «ساندانس» لهذه السنة. فالتعاقب السريع لحالتي الحماسة واليأس على مدار السبع وثمانين دقيقة التي يمتد عليها الفيلم، لم يؤد إلى استنتاج ضرورة رمادية الموقف، بل إلى تعايش الحماسة واليأس كمكوّنين لا يتجزّآن من الثورة. اللون الرمادي يحتاج إلى مسافة من الحدث تذوّب النقيضين، والمسافة هي تماماً ما هو ليس متاحاً للمحاصرين في حمص الذين يتابعهم المخرج خلال السنتين الأوليين للثورة، وهما سنتان من المد والجزر، تعلّم خلالهما جيل جديد معنى أن يحلم وأن يفقد أحلامه في آنٍ. فهناك أحلام وأحلام مسلوبة، وليس من رمادي بينها.

قدرة «العودة إلى حمص» على تجنّب الرمادية، على رغم الطغيان الحالي لهذا اللون، والحفاظ على تلاوين الثورة العديدة والمتناقضة، ناتجة من التصاق الصورة بالواقع. فمن سورية، يعود الفيلم إلى حمص، وإلى حي محاصر فيها، وإلى مجموعة صغيرة في هذا الحي، دورها الوحيد العودة إلى المكان الذي هي فيه. كل شيء خارج هذه البقعة الصغيرة من الأرض وعبثيتها بات مجرّداً ورمادياً. حتى سورية أصبحت فكرة مجرّدة ورمادية، عندما تقارن بصلابة دمار حمص أو تمزّق أعماقها. و «العودة إلى حمص» نفسه لم ينجُ من الالتحام بهذا الواقع، ليصبح جزءاً لا يتجزأ منه، يتشارك معه في مآسيه وشهدائه. إنّه، بهذا المعنى، فيلم الثورة أكثر مما هو فيلم عن الثورة، أو واقع يصوّر ذاته أكثر مما هو صورة عن هذا الواقع. في هذه البقعة من الأرض، واقع واضح، أسود وأبيض، لكنّه ليس رمادياً.

ليس هناك غد أفضل تحت أنقاض حمص، بل مجرّد أرضية لمعاينة الأمور، أرضية لا تسمح بنقاش الكليات التي باتت الملاذ الوحيد للفكر السياسي بعدما طُرِد من الواقع الذي طالب به مراراً وتكراراً. إنّها أرضية منحازة ليس إلى فكرة مجرّدة، يحتاج المرء إلى سلّم ليصعد إليها، بل إلى بشر لا طريق لهم إلاّ العودة. يتساءل الراوي: «هل كان ما فعلناه صواباً؟»، وهو سؤال يعيد استملاك ما حصل بجماله وإخفاقاته، ويعيد تأكيد فعل الثورة في لحظة تدهورها. إنّه سؤال جيل الثورة، أي جيل الأنظمة، جيل من ولِد في هذا السجن، وتربّى فيه، ولم يعرف غيره، والذي تبقى هذه الثورة، «المخيِّبة للآمال والمغدورة والمسروقة والرجعية والخارجة من الجوامع والملتحقة بالصهيونية»، مخرجه الوحيد وفعله الأول والمؤسس. إنّه سؤال جيل خرج من الأنظمة إلى الثورة، وليس جيل الخيبة، جيل من دخل سجن الأنظمة من باب الثورة، متواطئاً أو مخدوعاً أو مكسوراً، جيل يطرح سؤال «لماذا يستمرون في الخطأ؟». إنّه سؤال جيل الثورة، جيل من تربّى على الرمادية، واكتشف لأول مرة أنّ هناك أســود وأبيض قبل أن يكون هناك اللون الرمادي.

ليس من جواب عن تلك الأسئلة غير «النسيان»، هذا ما يطالب به عبد الباسط الساروت، أحد أبطال «العودة إلى حمص» في نهاية عودته. قد يكون هناك نصر عسكري أو هزيمة أو حل سياسي في آخر المطاف، غير أنّ هذا لم يعد مهماً. الثورة كحلم انتهت. الثورة السورية في عامها الثالث باتت مجرّد احتمال إشارة إلى إمكانية غد قد يكسر التكرار العبثي للحاضر، وهذا في أقصى التوقعات. جيل الثورة لم يهنأ بثورته، بدايتها انطوت على خيبة ونهايتها قد تنطوي على خيبة أكبر. الثورة باتت رمادية.

غير أنّ هذا المشهد ليس دعوة إلى الاستسلام أو طلباً لتضامن، بل هو دعوة إلى تفكير بما خسرناه عند اعتناقنا الرمادية كلون، وهو خيار قد يكون حكيماً في السياسة لكنّه أكثر كلفة مما نتخيّل. إنّه دعوة إلى استذكار الثورة وألوانها العديدة، وأيامها الأولى السوداء والبيضاء. وهذا ليس من خلال العودة إلى الماضي، بل بالعودة إلى حمص، إلى «حمص لا أدري أين»، إلى حمص البيضاء والسوداء.

الحياة


انهيار الإطار الوطني للصراع السوري/ ياسين الحاج صالح

 

قد يكن الملمح الجوهري للصراع السورية في نصفه الثاني، أي منذ أواسط صيف عام 2012 هو انهيار الاطار الوطني للصراع، وتاليا اختلاط مافةق الوطني ومادون الوطني فيه

منذ وقت مبكر زج النظام السوري «الشبيحة» في مواجهة الثورة، تحت اسم «اللجان الشعبية»، هذا قبل أن تجرى مأسسة الظاهرة بإشراف إيراني في «قوات الدفاع الوطني» في مطلع هذا العام. قبل ذلك كان استعان بعون مالي تكنولوجي وبشري إيراني، لا ينضبط بما هو مألوف في العلاقات بين الدول المتحالفة، ويتفوق في بعده العاطفي وغير العقلاني حتى على نسق العلاقة الأميركية – الإسرائيلية. وهو ما تمثل بصوة فظة في صفقة تبادل الأسرى الشهيرة مطلع 2013، حيث أفرج النظام عن أكثر من ألفي سوري مقابل 48 إيرانياً كانوا في أسر الجيش الحر في غوطة دمشق. معلوم بعد ذلك أن عسكر «حزب الله» اللبناني متدخل في الصراع السوري بتمويل إيراني، ومن ضمن تخطيط طهران السياسي والاستراتيجي. والأرجح أن التدخل المباشر يسبق بشهور على الأقل موعد الإعلان عنه في ربيع هذا العام.

تتوحد هذه المؤشرات الثلاثة في دلالتها على تداعي الإطار الوطني للصراع لمصلحة ما دون الدولة من روابط عضوية، أو ما وراءها من دول ومنظمات. ويصعب عدم ملاحظة الصفة فوق الوطنية الجامعة بين الطائفي الداخلي والشركاء الإقليميين للنظام.

انهيار الاطار الوطني

والأساس في انهيار الإطار الوطني هو العنف المهول الذي مارسه النظام منذ البداية ضد المجتمع السوري وقطاعاته الثائرة، مما لا يحتمل أن يمارس مثله عدو خارجي. يعرف السوريون مدى الوحشية التي تتعامل بها إسرائيل مع الفلسطينيين، ولا يستطيعون الامتناع عن ملاحظة أن ذلك العدو قلما بلغ في التعذيب والحصار والقتل والقصف، وصولاً إلى استخدام السلاح الكيماوي، المدى الذي بلغه النظام الأسدي.

الحرب الأهلية في سوريا

محصلة انهيار الإطار الوطني للصراع السوري أنه لم يعد صراعاً سورياً محضاً. إنه اليوم صراع مركّب، تختلط فيه الثورة الاجتماعية مع الحرب الأهلية، مع صراع إقليمي ودولي

وبمحصلة مزيج العنف والروابط الخاصة يمكن القول إن نظام بشار الأسد كان الرائد في تحطيم الإطار الوطني للصراع. وسيكون استنتاجاً متأخراً جداً عن وقته، وإن كان لا يزال يغيظ كثيرين، القول إننا حيال نظام غير وطني جوهرياً.

من جهة طيف الثورة والقوى المنازعة للنظام أيضاً، ظهرت آثار انهيار الإطار الوطني تدريجاً. أبرز تجسداتها ظاهرة الجهاديين، وهم يصدرون في تكوينهم البشري، وفي مثالهم الاجتماعي والسياسي، عمّا يتجاوز الإطار الوطني أو لا ينصبط به. يتكلم الجهاديون على مسلمين فقط، ويُقصد بهم السنّيون حصراً، ومن السنّيين من يوافقون توجهاتهم وليس عمومهم. سورية ليست إطاراً للتفكير ولا العمل هنا.

سهّل من تكاثر الجهاديين انهيار الجغرافية السورية وتثقب حدود البلد، واختلاط الداخل بالخارج بلا ضوابط. استفاد من الأمر الجهاديون، وكذلك على الأرجح أجهزة استخبارات كثيرة، فضلاً عن إعلاميين متنوعين، وناشطين سوريين بأعداد كبيرة، يشاركون في أنشطة متنوعة بدورها، تنظمها جهات سورية وأجنبية، ولا يكاد يكون ثمة شك في أن لبعضها أجندات خاصة مرتبطة بأجهزة دول أجنبية.

في المقابل، ترتسم حدود داخل سورية يصعب عبورها. أسهل بكثير العبور من بعض مناطق البلد نحو الشمال التركي أو الشرق العراقي أو الجنوب الأردني من التحرك من مكان إلى آخر داخل سورية. لزمتني أيام طويلة للتنقل من مناطق دمشق إلى الشمال السوري، وساعات فحسب للوصول إلى بلد مجاور، ومن دون وثائق سفر.

الصراع في سوريا صراع مركب

محصلة انهيار الإطار الوطني للصراع السوري أنه لم يعد صراعاً سورياً محضاً. إنه اليوم صراع مركّب، تختلط فيه الثورة الاجتماعية مع الحرب الأهلية، مع صراع إقليمي ودولي. وهو صراع مركّب أيضاً من حيث أن لدينا في هذا النصف الثاني من زمن الثورة ثلاثة أو أربعة أطراف، وثلاثة أو أربعة مشاريع، لا طرفين ومشروعين فقط. مشروع الثورة وإسقاط النظام الأصلي، والمشروع الجهادي، والمشروع الكردي، وطبعاً مشروع النظام الذي لا يتعدى استعادة السيطرة وإدامة الملك الأسدي.

وحده المشروع الأخير يبدو موحداً، فيما تتخلل الأطراف والمشاريع الأخرى تناقضات وصراعات، تسبغ على المشهد السوري تعقيداً بالغاً، وسيولة بالغة أيضاً.

لا شيء يشبه اليوم حال البلد في مطلع هذا العام بالذات، ومن باب أولى في نصف زمن الثورة الأول. لقد شهدت سورية في عامين ونصف العام ما لم تشهد مثله في نصف قرن سابق. ولقد تغير كل السوريين، تغيرت أماكنهم (ثلث السكان) وأعمالهم وعلاقتهم وتصوراتهم عن أنفسهم وعن غيرهم وعن البلد. ولا ريب في أن سنوات طويلة ستنقضي بعد انطواء هذا الفصل الأول الطويل من الصراع قبل أن نستوعب مجمل التغييرات التي جرت في بلدنا ومجتمعنا، وفي أنفسنا.

جهاديون في سوريا

للجهاديين أسباب عديدة تدفعهم للذهاب إلى سوريا، فهناك يمكن لمن أسموا أنفسهم “مجاهدين” أن يقاتلوا ضد رئيس علماني “كافر”، كما يمكن أن يشاركوا أيضاً في معركة بين السنة والشيعة. تلك المعركة التي هي من وجهة نظر البعض، ستنتهي بهيمنة مطلقة لأحد الطرفين على الشرق الأوسط،، إضافة إلى ذلك فإن إمكانية إنشاء دولة إسلامية على أنقاض سوريا تغري الكثيرين منهم.

ويتعدى انهيار الإطار الوطني النطاق السياسي والجغرافي إلى النطاق الزمني أيضاً. ليست هناك زمنية وطنية موحدة أو متقاربة اليوم. لدينا من يعيشون زمناً أصلياً أو تأسيساً لا يتغير، يستعيدون فيه بواكير الإسلام المفترضة، ومن يعيشون زمن السلطة الذي هو حاضر أبدي متجانس، ومن تنشدّ أنظارهم إلى مستقبل يبدو اليوم نائياً وضبابياً.

في كل ذلك ما يوحي بأننا حيال عملية إعادة تشكل واسعة، زوال الشكل السابق (المكاني والزماني والاجتماعي والسياسي والنفسي) مروراً بانعدام الشكل، وربما وصولاً إلى شكل جديد. الإطار الوطني الذي انهار يشمل أيضاً مدركات التحليل السياسي والاجتماعي التي توافقه: الدولة والوطن والشعب والمجتمع والمواطنون والسياسة والحكومة والأحزاب السياسية… المدركات التي تشكل بمجموعها «العقل»، أو «الوعي الوطني». انهار الوعي، وظهر من تحته اللاوعي أو اللاشعور على السطح. واللاشعور لا شكل له، عالم اختلاط وفوضى، ربما يتركّب فيه رأس امرأة على جسم أسد على أجنحة نسر على قوائم فرس. إن تشكلات مثل «داعش» («الدولة الإسلامية في العراق والشام») هي أشبه بكائنات اللاشعور هذه، وهي وليدة وقوع المجتمع السوري في قبضة الجنون واللاعقل على يد النظام الأسدي وحلفائه، وتمام تحول سورية إلى ساحة مكشوفة، إلى لا وطن.

هناك واحد من منهجين فقط لاستعادة عقلنا وترميم إطارنا الوطني، الاجتماعي والسياسي والجغرافي والزمني. الأول هو الاستمرار في ضرب الجسم الاجتماعي السوري لطرد الشياطين الساكنة فيه. هذا هو المنهج الأسدي في العلاج الوطني. هناك منهج آخر، التحرر من شرط المجتمع المعنّف، وتخليص المعنَّفين من قبضة العنيف العام. ونرى أن هذا وحده ما يمكن أن يضع السوريين في وضع أفضل لمواجهة أي معنِّف جديد، أو أي شيطان انبعث من جسده أو من لا شعوره المكشوف. أما بقاء العنيف العام لمواجهة العنيفين الجدد فلا يمسّ في شيء وضع المجتمع المعنّف، وليس من المؤكد حتى أنه يعالج أعراض المرض، مثل «داعش». لطالما لاعب المشعوذ الأسدي شياطين، يعرض اليوم نفسه كمحارب لهم، بغرض أن يستمر في السيطرة على الجسم السوري المجهد.

يقول النظام إننا مجتمع مجنون، وإنه وحده من يقدر على شفائنا من الجنون، ويطالب بتجديد انتدابه الدولي على البلد استناداً إلى هذه الرسالة الطبية. لكن هذا الطبيب محتاج إلى مرض سورية أكثر حتى من حاجة المريض السوري إلى الشفاء.

أول شفاء سورية هو خلاصها من هذا الطبيب القاتل.

 


 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى