صفحات الرأي

النقدان «الهدّام» و «البنّاء» استعارة من ثقافة الاستبداد/ عقيل عباس

 

 

أحياناً كثيرة، عندما تنتقد فكرةً ما على نحو معقول او متماسك، خصوصاً عندما تكون الفكرة «كبرى» تؤمن بها مجموعة كبيرة من الناس، يواجهك من يدافع عنها، حين لا يجد سبيلاً لرد انتقادك المنطقي جداً، بأنه من المهم ان يكون النقد بنّاءً في اشارة «مهذبة» الى ان نقدك «هدّام، وبالتالي ليس جديراً بأخذه في الاعتبار. فكثيرون يؤمنون بأن مهمة الكاتب «الموضوعي» هي «النقد البنّاء» الذي يحترم الثقافة السائدة ويهدف الى تصحيح الأوضاع المختلة فيها، وليس مهاجمتها بقصد هدمها وتخريبها.

ان تقسيم النقد الى «بنّاء» و «هدّام» لا يكشف فقط عن الخشية من الأفكار «المُقلقة» وانما ايضاً عن السعي للالتفاف عليها عبر الرفض الاستباقي لها باسم خطرها «الهدّام».

هذا التمييز بين النقد «البنّاء» والنقد «الهدّام» ايديولوجي وخطير ومزيف، جاءت به الثقافات الشمولية لتحمي نفسها ضد اي نقد جاد وحقيقي، وهو في جوهره معادٍ للديموقراطية ولحرية التفكير. وقد استخدمت كل الدكتاتوريات العربية السابقة والراهنة هذا التمييز المصطنع كأسلوب للتفريق بين الموالين والمعارضين، بين اولئك الذين «يريحوننا» بقولهم إن الاشياء عموماً بخير وان النهج صائب والتعديلات التي يحتاجها طفيفة، لا تمس الجوهر، وأولئك الذين يضمرون لنا الشر عبر اصرارهم على ان الاخطاء عميقة وفادحة والحاجة الى التغييرات الكبرى ماسة. وفي استخدام هذا التمييز برعت دكتاتوريات صدام ومبارك وبن علي في ايام مجدها البراعة ذاتها التي يستخدمها اليوم البعث السوري الحاكم. وتشترك هذه الدكتاتوريات في السبب نفسه الذي يحملها على توظيف هذا التصنيف: اطالة أمد زمنها الراكد عبر خنق الاصوات التي تذكّر الجمهور بهذا الركود.

التمييز نفسه وجد طريقه قبل زمن طويل إلى الخطاب والسلوك الحكومي الايراني، فأغلقت صحف ومُنعت احزاب وحُكم كُتاب بالسجن بذريعة «الهدم الثقافي»، كما يبرز اليوم بشراسة لافتة في تركيا الاردوغانية وهي تلقي في السجون بالصحافيين الذين يكشفون حقائق غير مريحة للحزب الحاكم، وتخيف عبره الاكاديميين الناقدين لتمدد الفكر الواحد على الحياة السياسية والثقافية في البلد.

ولم يكن هذا التمييز حكراً على الثقافة السياسية في الشرق، فجذوره تمتد في كل الثقافات الشمولية على تنوع ازمنتها وامكنتها. كان فيديل كاسترو مثلاً متمسكاً بهذا التمييز على نحو مَرضٍ تقريباً، وحكومته لم تتوقف عن استخدامه ضد خصومها الكثيرين لتنزع عنهم وطنيتهم، ولم يختلف عنه في هذا الزعماء الشيوعيون في الصين، وقبلهم أساطين الماركسية الرسمية في دول المعسكر الشرقي الذي تزعمه الاتحاد السوفياتي السابق. احزاب الاسلام السياسي، المعروفة بحساسيتها الشديدة ازاء كل انواع النقد، هي الاخرى تلجأ الى هذا التمييز المزيف لإظهار ان الناقد «الهدّام» شخص معادٍ للاسلام، ما يفرّغ نقده من كل قيمة، وهي في اصرارها هذا على «قراءة» الاشخاص بدلاً من النقد لا تختلف كثيراً عن «ابناء عمومتها الايديولوجيين» من متطرفي اليمين المسيحي الأميركي الذين يَعرضون حساسية شبيهة ازاء النقد الحقيقي ويعتبرونه عداءً مغلفاً ضد المسيحية كدين.

إحدى مشاكل هذا التمييز، وبالتالي مشاكل المؤمنين به، انه لا يُميّز بين الحقيقة والزيف، او لا يهتم للفارق المهم بينهما، ويُصر على ان يقرأ في الكتابة النيات بدل المحتوى، وان يفتش في ثناياها عن حركات العدو او ايماءات الصديق، بدل ان يسائل الأفكار ويراجع الحقائق التي فيها. لا يوجد نقد «بنّاء» او «هدّام» الا في المخيلة الايديولوجية الخائفة التي تُقسِّم العالم الى اصدقاء واعداء. هناك نقد جاد ومتمرس يستند إلى رصد الحقائق وتقديم تفسيرات معقولة للعلاقة بينها، وآخر هش ومؤدلج يتخيل حقائقه ويرتب استنتاجاته على اساس رغبات المُخيلة واشتراطاتها. ثم هناك نقد هاوٍ ينتمي الى ذلك الطيف الواسع بين الاثنين، فيراوح بين الاوهام والحقائق ويعكس ثقافة اجتماعية وسياسية قوية عربياً لم تتوافر لممثليها ادوات المعرفة اللازمة كي تنتج فهماً دقيقاً ونقداً جاداً للواقع، على رغم سعيها لمثل هذا الفهم والنقد (ومرور عابر على صفحات الفايسبوك كاف لأن يكشف عن سعة هذا الطيف وحيرته المعرفية).

في آخر الأمر، فإن تقييم الكتابات هو مهمة المتلقي، وهي تعكس براعته كقارئ، وثقافته الاجتماعية واستعداده الشخصي للتفاعل مع المختلف والجديد. النقد، كتابةً وتلقياً، مِران ثقافي نحتاجه جميعاً لتشكيل وعي جمعي جاد ينمو ويترسخ عبر كثرة الاطلاع على تنوع الحقائق والتفسيرات والآراء، لا ان يُحبس في صناديق «الهدم» و «البناء» الجاهزة سلفاً والتي تمنع تشكل مثل هذا الوعي.

والمشكلة الأخرى التي ينطوي عليها مثل هذا التمييز هي ممارسته الوصاية على وعي الجمهور عبر تخويفه من «نية الهدم» الكامنة في كتابة ما، وتشجيعه للإطراء المُغلف في كتابة اخرى، وبالتالي تكريس رد فعل «تلقائي» عام، ومُوجّه في عدائه ووديته تجاه افكار ازاء اخرى. انه ذلك المرَان الخفي لذائقة الجمهور وعقله الذي تبرع فيه الثقافات الشمولية التي ترتاب بحق الناس بالمعرفة. ومهمة الكاتب الاولى والاخيرة هي الحقيقة، عبر السعي وراءها وتقديمها للناس من دون تخفيف او مبالغة او مواربة او وصاية: الحقيقة من دون شروط، الحقيقة كخدمة عامة من أجل الصالح العام، وحسابات النقد «البناء» و «الهدام» تحوّل الحقيقة الى اداة يحتكرها الكاتب او المؤسسة. فحق الناس بالحقيقة مقدس وغير خاضع للتجزئة او التقديرات الشخصية او المؤسساتية للضرر والنفع، الا في حالات اضطرارية محدودة ومحددة تنص عليها القوانين في الانظمة الديموقراطية الحقيقية. ففي التجارب الديموقراطية العريقة تكون علاقة الكاتب او المثقف بالحقيقة مسألة واضحة ومحسومة وتقوم على الدفاع عن حق الناس بمعرفة الحقيقة والالتزام الاخلاقي بالبحث عنها وعرضها على الجمهور. وفي شرقنا المكتظ بالمخاوف والحسابات، فإن الحاجة الى الحقيقة أشد واعمق بحيث لا تعتقل عقولَنا صناديق النقد «الهدام» و «البناء».

* كاتب عراقي

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى