صفحات سورية

النقد والسجال في خطاب المعارضة والنظام السوريين/ رامي نصرالله

 

 

في سياق تطور المجتمعات تنعكس قراءة تناقضات الواقع في طروحات بعض المثقفين والمفكرين والفنانين ذوي النظرة المعمقة، فيستشفّون التناقض الرئيسي والثانوي بين تلك المتناقضات، وتبرز قراءاتهم الفردية الواحدة تلو الأخرى. وحين يستشعر الشعب تناقضات الواقع تلك بعفويته بعد انسداد الأفق أمامه، يدفع باتجاه المطالبة بالحل الجذري لها في حراكٍ ثوريٍّ شعبيٍّ إذ يغدو استمرار واقعه مسدوداً من دون حلها.

ولا تستمر تلك الثورة، مجسدة رؤية المتناقضات في حراك الشارع، إلا بتلك الرؤية النقدية ولا تموت إلا بموتها.

ولطالما كان جل هم السلطة في سورية تعميم القراءة السطحية السجالية أو تسطيح الفكر، حيث التفكير العقلاني ورؤية المتناقضات هو فضح لعدم كفاءة السلطة غير العقلية وتعرية لها. في المقابل، يُفترض أن يكون جل هم الثورة تعميم التفكير العقلاني والنظرة النقدية والجدلية، وصولاً بها إلى قوننة مطالبها ورؤيتها، أي عقلنة القانون وتنصيب العقل حاكماً.

لو أمعنّا النظر في نهج السلطة في سورية وجدنا أنها عرفت ما تريد ونجحت في تحقيقه بتسطيح النقاش وتعميم اللاعقلانية، ولنا في خطابها اللاعقلاني السياسي والإعلامي أكبر مثال.

لكن هل كسرت الثورة ومفكروها وحاملو لوائها ذلك النهج؟

في مقابل خطاب السلطة ماذا نرى في خطاب المعارضة؟ لقد قابلت الخطاب اللاعقلاني للسلطة بخطاب لاعقلاني أيضاً لكن في شكل آخر، بحيث أننا بتنا أمام خطابين لاعقلانيين.

بالتالي، بدل طغيان صراع الضد مع السلطة الذي ينتج جديداً، وهو ما بدأت به الثورة في تجسيدها التناقض الواضح بين السلطة بما تحمل من قمع وفساد وإقصاء، والشعب بما يحمل من مطالب وحقوق، سيطر صراع المتشابهات الذي لا ينتج جديداً وطفا الخطاب السجالي الذي يتعامل مع القضايا ككتل صماء لا تفاعل بين عناصرها. وهو ما حصل في سورية.

وأدى تراجع النقد والجدل في الثورة إلى تداعي خطابها من خطاب ثوري إلى خطاب أصم وسجالي. وتحول المثقفون والمفكرون من حاملي لواء الحقيقة وقارئي تناقضات الواقع إلى سياسيين مصطفين مرسِّخين للثابت والرؤية الجامدة ومنظرين لهما، وساهمت الفوضى الإعلامية والثقافية في تعميم خطابهم ذلك. كما ساهم في الأمر فوضى المصطلحات واستيرادها ودخول ناشطين بغير خبرة وكفاءة إلى ميادين العمل السياسي والإعلامي والمدني وحتى الفني كعمل وظيفي اعتادوا الاصطفاف فيه والدفاع السجالي عنه.

بذلك طغت النظرة السجالية التي تنظر إلى الموضوع أو الحدث على أنه كتلة صماء، بدل النظرة الجدلية واعتباره تنوعاً لعناصر متفاعلة، وتحول الصراع عن كونه بين مطالب شعب وسياسات سلطة إلى تصارع بين سلطويات، وخفَتَ صوت المطالب الحقيقية. واصطف الخطاب الثوري لحاملي لواء الحراك خلف الكتل المعارضة الصماء على اختلاف أنواعها ما أوقف النمو النقدي لذاك الخطاب متستراً بشعار اسقاط النظام المريح للعقل عن التفكير والمؤجل له الى حين تحقيق اسقاط ذاك النظام.

وسيطر على الخطاب الإعلامي للمعارضة التعامل الأحادي الجانب مع القضايا والأحداث بطريقة تقسيمية ما بين مناطق نظام ومناطق معارضة، حتى وإن تشابهت في العمل القوى المسيطرة في الطرفين، أو تشابه الفساد والوصولية والإقصاء بين الطرفين.

أخيراً، ربما كان السوريون يقتربون من تسوية سياسية ما اتفقت عليها الدول الفاعلة، وقد تفضي إلى تغيير في السلطة وشخوصها، لكن لا يعني ذلك حل التناقض الرئيسي الذي تم تشتيته بإغراق الثورة بالعنف وتحويلها إلى حرب وصراعات ثانوية ضاع فيها التفاعل بين مختلف عناصر الواقع لحساب اصطفافات طارئة. ولا يعني ذلك التغيير تحقيق متطلبات الرؤية النقدية للواقع بل تسوية بين متشابهات ربما تضع حداً لكل أطرافها وتضعفها.

ويبقى المجال المتاح للسوريين في جلاء الفوضى وإيضاح الصراع الحقيقي مع الفساد والاستبداد والاستغلال والإقصاء في أي سلطة. ذلك التناقض الرئيسي القادر وحده على وضع المجتمع على مسار التطور الصحيح لنفي القديم فسحاً لمجال ولادة الجديد المنتظر.

* كاتب سوري

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى