صفحات العالم

النكبة والاستبداد

 


الياس خوري

لم نكن في حاجة الى تصريحات السيد رامي مخلوف الى جريدة ‘نيويورك تايمز’، كي نعرف ان الاستبداد هو الوجه الآخر للنكبة، وان أمن اسرائيل هو محصلة للتعفن الاستبدادي الذي ساد المشرق العربي، منذ اربعة عقود.

النكبة، بالنسبة الى الفلسطينيين، ليست ذاكرة، بل هي حاضر مأسوي مستمر منذ ثلاثة وستين عاما. من الخطأ ان ننسى ان الفلسطينيين لم يُتركوا لمصيرهم بعد نكبتهم، بل امعن النظام العربي في قمعهم، وضرب كل محاولاتهم لاستعادة قضيتهم، وصولاً الى المتاجرة بها، وتحويلها الى اداة يبرر فيها الاستبداد العربي انظمته المهترئة بالفساد، والمبنية على آليات تحكّم المافيا بالقرارين السياسي والاقتصادي.

لكن رامي مخلوف فضح اللعبة بأسرها، حين ازاح القناع الوطني المخادع، كاشفاً السر الذي يعرفه الجميع، حول الخدمات الكبيرة التي يقدمها الاستبداد لدولة الاحتلال. وعاد الى النغمة التي اطلقها بعض القادة الأمنيين السوريين عشية الانسحاب من لبنان، وهي نغمة تمزج الاستجداء بالوعيد.

في شباط(فبراير) حين تهاوى النظام الموميائي الفاسد لحسني مبارك، اصيبت اسرائيل بالهلع، ووجدت ‘الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط’، نفسها في خندق واحد مع انظمة الاستبداد العربية.

مع ثورة مصر عادت اللغة الى المعنى، فأنكشف مستور العلاقة بين الاستبداد واسرائيل، فالاستبداد شرط لاستمرار الاحتلال، كما ان الهيمنة الاسرائيلية هي شرط لديمومة الاستبداد.

هذه هي المعادلة التي لجأ اليها مخلوف، في وصفها الحائط الأخير الذي يستطيع نظام الاستبداد العربي الاستناد اليه. غير ان ما فات الملياردير السوري وابن خال بشار الاسد ادراكه، هو ان اسرائيل لم تعد قادرة على انقاذ حلفائها المعلنين او المستترين، فذهبت دعوات قادتها للأمريكيين من اجل انقاذ نظام الديكتاتور المصري هباء. تماما مثل الموقف السعودي الذي قام بمحاولة شبيهة وفشل.

لم يكشف مخلوف سراً يعرفه الجميع. وانا هنا لا اريد ان اتحدث عن مجزرة تل الزعتر او عن فضيحة حرب المخيمات، والى آخره… بل اريد ان اشير الى ان من يراقب جبهة الجولان الهامدة منذ اربعة عقود، يفهم ان السيد مخلوف عبّر عن واقع الحال، لكنه وقع في خطأ فادح، عندما لم يفهم ان لا احد يستطيع انقاذ الاستبداد حين يقرر الشعب الثورة عليه.

وقع الكثيرون في خطأ تحليل الموقف الامريكي او الاوروبي من الثورات العربية. فالدول الغربية لم تدعم الثورات، بل اضطرت الى الانحناء مرغمة امام عصفها الذي لا يقاوم. واذا كانت هناك من ثورة مضادة، فيجب البحث عنها في مشروع توسيع مجلس التعاون الخليجي، وليس في امارات سلفية مزعومة فبركها الاعلام الغبي في سورية.

خطأ السيد مخلوف يشبه خطأ حيتان النهب في مصر، الذين بقوا حتى اللحظة الأخيرة يتمسكون بخيط الدعم الامريكي للنظام، غير مدركين انه لا توجد قوة عظمى في الأرض تستطيع انقاذ الديكتاتور في خريفه.

غير ان مخلوف ذكّرنا بما اُجبرنا على نسيانه. عشية ذكرى النكبة، اعادنا هذا الرجل الى اول الحكاية، والحكاية تبدأ من حقيقة ان الاستبداد يجد شرعيته في الخارج، وان اسرائيل كانت ولا تزال جزءا من هذه الشرعية رغم كل الكلامولوجيا الكاذبة عن الممانعة، التي لا تمانع سوى في حق الشعوب العربية في الحرية.

اعادت الثورات العربية قضية فلسطين الى مكانها الطبيعي على الخريطة العربية، لن يستطيع اي نظام ديمقراطي سوف يولد في سورية، وضع قضية الجولان في برّاد الممانعة، او الاستمرار في سحق فلسطينيي المخيمات، وخصوصاً في لبنان. ففي الديمقراطية هناك شعب يحاسب، لأن الشعب يمتلك الدولة وليس العكس، وهذا ما يعرفه السيد مخلوف جيداً، لذا استنجد باسرائيل، كي تنقذ ‘ممانعته’ الوهمية من الشعب السوري، لأن سقوط النظام سوف يترتب عليه فقدان الأمن في الاراضي السورية والفلسطينية المحتلة.

‘ ‘ ‘

في الذكرى الثالثة والستين للنكبة، تفتح الثورات الشعبية الأفق من جديد. فالتعفن السياسي الذي شهدته فلسطين، لم يكن ناجماً فقط عن انتهاء صلاحية القيادات الفلسطينية المختلفة، وذلك الانقسام الأحمق الذي فصل غزة عن الضفة، بل كان محصلة موت السياسة في المشرق العربي، حين صارت مصر رهينة التوريث، ونجحت الديكتاتورية في سورية في الاستفراد بالشعوب السورية واللبنانية والفلسطينية، بحيث تحولت السياسة العربية الى لعبة في ايدي قوى اقليمية لا وجود فيها لأية دولة عربية.

من هنا يحق للفلسطينيين اليوم، رغم العسف الاسرائيلي ووحشية الاحتلال، بأن يبدأوا في رؤية نهاية النفق المظلم الذي حاصر قضيتهم. فلسطين ستجد مرة اخرى في الشعوب العربية سندأ ودعماً، وستكون في قلب الهم العربي، لأن الشعوب العربية التي توحدت حول شعار اسقاط النظام، سوف تتوحد من جديد حول قضية العدالة والحرية في فلسطين.

لا يستطيع الفلسطينيون ان يكونوا خارج الثورات العربية، فالنكبة كما صاغها استاذنا قسطنطين زريق ليست نكبة فلسطين وحدها، بل هي نكبة المشرق العربي ايضاً.

اليوم يزيح العرب عن كاهلهم نكبتهم بالاستبداد، كي يبدأوا مسيرتهم نحو ايقاف النكبة المستمرة في ارض فلسطين، كمقدمة لأستعادة العرب حرياتهم وكراماتهم.

‘ ‘ ‘

فتحت ذكرى النكبة الأفق، في مارون الراس ومجدل شمس والقدس وغزة اعلن الفلسطينيون شكل علاقتهم بالثورات العربية، بأن رسموا لها افق الحرية الفلسطيني كنقطة تقاطع.

لم تكن المسيرات ممكنة لولا الثورة الشعبية العربية، ولا يستطيع اي نظام ان يقايض الحرية بفلسطين، ففلسطين هي اسم آخر للحرية، وانتفاضات شعبها هي جزء من انتفاضة المصريين والتونسيين والسوريين واليمنيين والليبيين من اجل تحررهم من الاستبداد.

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى