صفحات مميزةعلا شيب الدين

النوم على سرير الوجع/ علا شيب الدين

كثيراً ما يُروى عن عائلات يشعر الرواة أنها تستحق أن يعرفها الناس، خصوصاً تلك التي يكون أفرادها، جميعهم أو بعضهم، قد قدَّموا ما هو جدير على صعيد ثقافي فنيّ فكري مثلاً، أو اقتصادي، أو علمي. مذ تفجّرت الثورة في سوريا، كُتب الكثير عن عائلات ثائرة، وعن تضحيات نبيلة جمة قدّمَتها في سبيل الحرية والكرامة الإنسانية. في المقابل، كُتِب الكثير أيضاً عن عائلات معروفة لدى عموم الناس، بالجشع وبالانتهازية والفساد والإجرام. هكذا، نجدنا أمام روايات من شأنها إما نشر فضيلة ما لدى عائلة ما، سواء أكانت معروفة لدى عموم الناس أم لا، وإما فضح رذيلة ما لدى عائلة ما مشهورة؛ لكن تندر الروايات التي تتحدث عن عائلة ليست فاضلة وليست مشهورة دفعة واحدة.

في الآتي من السطور، ثمة ما يعرِّف ولا يشهِّر- وفق ما تقتضيه المسؤولية الأخلاقية- بعائلة في مجتمع يمور بالرذيلة والفضيلة وبما بينهما وفوقهما وتحتهما في آن واحد، شأنه في ذلك شأن المجتمعات الإنسانية كافة، وخير ما يمكن أن يعرِّف بالبشر عادة، أفعالهم لا أسماؤهم. فإذا ما سألَ سائل، عن الفائدة المرجوة من معرفة ما يراه هو هامشياً، قد يكون مفيداً عندئذ، التذكير بأن الهامش لا يقلّ فاعلية وخطورة عن المركز في سلبه وإيجابه، وبأن الشر والقبح قد يجرّان، من حيث لا يدريان، إلى نقيضهما، إذا ما أُجيدَ التعلّم من دروسهما السيئة المريرة، وقد يدفعان تالياً إلى التفكير في ضرورة العمل “المجنون” وبشتى الوسائل “المجنونة” التي تضمن المحاسبة القانونية لكل مَن ارتكب جرماً في حقّ الشعب السوري. أصلاً، لا يمكن لمرحلة انتقالية مقبلة أن تمرّ، من دون تحقيق العدالة أولاً، عبر ملاحقة المجرمين والفاسدين ومحاكمتهم، وإنصاف أُسَر الشهداء، والمعتقلين، ومَن تدمّرت بيوتهم، ونُهبَت ممتلكاتهم، وانتُهكَت أعراضهم.

* * *

أمضى الرجل سنوات طويلة في وظيفة حكومية، كان يشغلها باعتباره سائقاً في مستشفى عام، قبل بلوغه سنّ التقاعد. اتُّهم خلالها مرّة، بسرقة مواد من مستودعات المؤسسة العامة التي يعمل لديها، ثم بُرِّئ وأُفرجَ عنه بعد حبسٍ دام أشهراً قليلة، على غرار الكثير من قصص الفساد المتصلة بالشأن العام، التي لم يكن الناس ليعرفوا معها كيف يُتّهم أشخاص أحياناً وكيف يبرَّؤون أحياناً أخرى، خلال فترات قياسية. كان الرجل يستعيد في كل مناسبة تجمعه بآخرين، تفاصيل عاشها في الحبس، يلقيها على سامعيه من دون حرج. تفاصيل خاصة بالتعذيب، تحديداً الضرب بالعصا على باطن القدمين (الفلقة)، ومن كثرة ترديده لـ”الفكرة الجهنمية” التي خلّصته أخيراً من العذاب والألم، بات الجميع يحفظونها عن ظهر قلب ويرددونها بالنيابة عنه في أحيان كثيرة من باب التهريج والمزاح: “برحمة باسل الأسد تْرِكْنِي”، الجملة التي أنهت عذاباته، بعدما توسَّل من قبلُ مراراً للعنصر الذي كان يعذّبه، مستحلفاً إياه بأهله وعرضه وشرفه وبكل غالٍ عليه، من دون جدوى. هكذا، إلى أن خطرت على باله فكرة، قرر من خلالها الاستعانة بالابن الميت للسيد. وبالفعل، ما إن فتح الاسم الرهيب المهيب المرعب، باسل الأسد، كوة في أذنَي العنصر الصماء، حتى توقف عن الضرب فوراً.

للرجل نفسه، المولَع بالأفلام الهندية، وباقتناء أشرطة الكاسيت والفيديو في خزانةٍ وحده يمتلك مفتاحها ووحده القادر على فتحها وغلقها، المواظِب على زركشة حيطان بيته من الداخل بصور سِبيلكان، الفنانة الاستعراضية الشهيرة وقتذاك، وبروسلي، بطل الكاراتيه المعروف؛ زوجةٌ أصابها شلل منذ سنوات، وسبعة أبناء وبنتان، متزوجون، لديهم أبناء وبنات. فقط الشقيق الأصغر استطاع أن ينال شهادة معهد متوسط، بينما لم يتمكن أشقاؤه من إنهاء المرحلة الابتدائية في التعليم أو الإعدادية كحد أقصى. السمة الغالبة على أولئك، فعلُ كل شيء خلسةً بعيداً من عيون الأب، والمسالَمة التي هي ضعف في الشخصية يُترجَم غالباً بسلوك مهادن، مساوم، نمّام، كأن يكونوا مثلاً، مع الكل في حضورهم، وضد الكل في غيابهم، وفق ما تقتضيه الحال. يندر أن تلتقيهم وهم لا يتسوّلون رضا الآخر. أقصى طموحاتهم، تدبير الشؤون اليومية، و”جَعْلكة” زواج وإنجاب كيفما اتفق.

هُم من الطراز المنبسِط، إلى درجة يندر معها تفويت مناسَبة اجتماعية، خصوصاً تلك التي تتطلب مهارات في الهرج والمرج. المتكيِّف، إلى درجة الانصهار في كل ما يخص الأعراف والتقاليد، على اعتبار هذه غريزة تنشط أكثر كلما غابت أكثر الأفكار والقوانين وقيم التمدن ومفاهيمه. لكن غالباً ما يخالفونها في مكان آخر مخالَفةً نفعية، فعلى سبيل المثال هم ضد “الزواج خارج الملّة”، خصوصاً عندما يتعلّق بالإناث، لكن عندما سافر اثنان منهما إلى خارج البلاد، كان أول ما فعلاه الزواج من “خارج الملّة”. على غرار ذوي السلطة والنفوذ وشيوخ “العقل الجاهل” الذين يخرجون على الملّة من دون أن يحاسبهم أحد، بينما قد يجد السكّين ممرّاً آمناً في العنق الجميل الطريّ لبنت فقيرة ومفتقرة للجاه والحسب والنسب، إذا تجرّأت على الخروج نفسه؛ لم يتسبب الأمر للعائلة بالكثير من الإرهاق و”العار” ما دام الاثنان اللذان تزوجا من خارج الملّة، ذكَرَين، وعندما يرجعان إلى البلد ثانية سيكون أول ما تشتغل عليه العائلة، تزويجهما ثانية “من داخل الملّة”، وهذا ما حصل مع أحدهما بالضبط.

* * *

بعد اندلاع الثورة بأسابيع؛ راجت شائعات تتحدث عن مشاركة معظم أفراد تلك العائلة في “التشبيح” وقمع التظاهرات المدنية السلمية، وتعذيب الناس وضربهم وسلب بيوتهم ونهبها. ظلّت الشائعات شائعات، إلى أن بدأت تظهر دلائل بيّنة تفيد بحقيقة ما كان يُشاع. فمنذ نحو سنة ونصف السنة، اختُطف ابن الابن الأكبر للعائلة، ومنذ ذلك الوقت انقطعت أخبار الشاب اليافع وانصهرت ملامحه في غياهب المجهول. أما السبب المباشر للخطف، كما قيل، مشاركة أبيه في قمع الثائرين ضد النظام والمعارضين له، إذ هو متطوّع في أحد الأجهزة الأمنية منذ عقود، وكان يعمل إضافة إلى ذلك في ملاهٍ ليلية في العاصمة. ناهيك برجوع ابن ثانٍ للعائلة، بعد نحو سنة من اندلاع الثورة، مصاباً برصاصة في الفخذ، بعد مشاركته في القتال إلى جانب القوات النظامية ضد الأهالي بريف إدلب. اللافت في ما يخص هذا الأخير، قصة حياته الممهورة بالفشل. فهو بعدما تقطعت به السبل في سوريا؛ آثر السفر إلى ليبيا، أسوة بما كان يفعله أغلب الشباب الذين لم يتعلموا ولم يجدوا فرص عمل في بلدهم. ظلّ هناك نحو عشرين عاماً، لم يحرز خلالها إنجازاً مهماً يُذكر، وعندما عاد جارّاً خلفه خيباته وهزائمه، راح يقول للناس إنه تعبَ وشقيَ، وأمضى سني عمره في الدرس والتعلم إلى أن حصل على شهادة جامعية عالية في الهندسة. الكذبة التي سرعان ما انكشف أمرها، وباتت موضع سخرية وتندر بالنسبة إلى كل مَن استمع، ليس فقط لأنه ثبت أن الشهادة مزوّرة، بل لأن نطقه ومنطقه وشخصيته بكليتها كانت فضّاحة، إذ غالباً ما يكون لغالبية الناس بصر وبصيرة من المعيب الاستهانة فيهما. بعدما تقطعت به السبل ثانيةً في البلد الذي غادره للسبب نفسه ثم عاد إليه منهَكاً من بلد آخر غادره أيضاً للسبب نفسه، لم يجد أمامه أخيراً سوى الانخراط في صفوف جيش النظام، والمشاركة في قتل أطفال بلده ونسائه وأبريائه! ربما يكون هذه المرة قد حقّق ذاته فعلاً، وأصبح ذا “شأن” و”إنجاز”!

* * *

منذ أشهر قليلة، افتتحت العائلة نفسها، محلاً تجارياً يجلس فيه الأب غالباً، يبيع أثاثاً منزلياً، كالأدوات الكهربائية، والأرائك، والأسرّة، وغير ذلك مما يحتاجه كل بيت. يُحكى أن كل ما يُباع في المحل عبارة عن مسروقات نُهبَت من بيوت الناس في مناطق سورية مختلفة ثارت على النظام، اقتحمتها قوات النظام والشبيحة والمرتزقة بتشكيلاتهم كافة. ما كان هؤلاء ليكتفوا، على ما يبدو، بانتهاك الأعراض، وارتكاب أشنع المجازر والمذابح وأشدها فظاعة وفظاظة، بل كانوا يعمدون دوماً إلى نهب كل ما تقع عليه أيديهم في البيوت المقتَحَمة، ومغادرتها بعد حرقها. ما لا يقلّ قسوة ربما، وانحطاطاً أخلاقياً وإنسانياً وجمالياً، عن ذلك كله؛ تواطؤ بعض الزبائن وانتهازيتهم الراشحة من إشاحة العقل والضمير عن أصل الأثاث المبيع هذا وفصله، بل تجاهله، والموافقة على شرائه. إن النظر إلى هذه المسألة من منظور أخلاقي وجمالي، يدفع إلى اعتبار المشتري العارف بأن ما اشتراه مسروقاً أو منهوباً، شريكاً في الجريمة بمعنى ما. الجريمة نفسها التي طالما حماها وصانها مَن يُفترض أن يكونوا حماة القانون والإنسان والكرامة الإنسانية، لو كنّا في دولة الحق والقانون. فـ”سوق الحرامية” مثلاً، الشهير في وسط العاصمة، لم يكن انوجاده أمام وزارة الداخلية محض مصادفة، أليس شائعاً قول “حاميها حراميها”؟.

* * *

ترى بماذا يفكر مَن اشترى للتو سريراً مسروقاً، وهو يؤوي إليه في ساعة مبكرة، متأهِّباً لليلةٍ أُولى يمضيها في حضن سرير مسوَّر بشهقات الموت، مثقل بذاكرة الأنين والهول، تنحفر فيها دروب من جراء الاضطراب الذي يستجرّه احتمال وقوع هول مشابه في المكان الجديد؟ ماذا لو لم يكن للعينين اللتين تحاولان الإغماض قدرة على احتمال ظلام حالك هائل؟ طيّب، بماذا يحلم؟ أتراه يحلم حقاً، نوماً أو يقظةً! أم أن الكوابيس المنبعثة من جنبات سريرٍ شاهد على الجريمة تلك الليلة، توقظه بعدما تصدم عقله نوبةُ إفاقاتٍ قصيرة تمتد للحظة، أي الزمن اللازم لسماع نقط دم ضحية لم يجف بعدُ، تسقط من خشب السرير على الأرض العارية للغرفة، وينظر في الظلام الحالك الهائل قبل أن يعود ويتحدّ بلا إحساسه؟

لو كان النائم على سرير الوجع أُمّاً، تضغط وجنتها على الوسادة قبالة وجه ابنها ذي الأعوام الستة، ترى أي الحكايات سوف تحكيها له؟ سِنان؟ السنافر؟ أم صاحب الظل الطويل؟ ربما يتحول هذا الأخير، بفضل إشراقة وعي موقتة، خيط ضوء يتسلل من تحت الباب، ترى الأمّ فيه حقولاً مقفرة، وتسمع على رغم المسافات، صوتَ طفل بعمر ابنها يئنّ مودِّعاً الحياة مذبوحاً على سرير الوجع نفسه.

الزوجان كيف يرتعشان، على سريرٍ اختبرَ رعشة كائن يموت. ظلّ يرتعش لحظات قبل أن يسلّم الروح ويسكن سكوناً أبدياً؟!

كاتبة سورية

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى