راتب شعبوصفحات الثقافة

الهاوية/ راتب شعبو

 

 

مقلع الإسفلت المجاور للقرية يتّسع كثيراً، ويغدو مثل فم هائل مفتوح في أسفل السفح. مقلع الإسفلت هاوية واسعة وسحيقة تربض بجوار القرية، ولا تكف عن الاتساع. العجوز الذي جاء مع امرأته من قرية بعيدة، كي يهتم بأرزاق عمي الذي سئم الحياة سريعاً، حذرنا من الاقتراب من تلك الهاوية، لأنها تسحب الناس إليها.

“للهاوية السحيقة جاذبية خاصة لا يتأثر بها سوى الإنسان، يمكن للماعز مثلاً أن ترعى على حافة الهاوية دون خطر، أما الإنسان فللهاوية في نفسه فاعليّة خاصة، قد تغلبه جاذبية الهاوية فلا يتمكن من مقاومة إلقاء نفسه فيها”. تأكد لي ذلك حين اقتربت يوماً من حافة تلك الهاوية، انتابتني عندها رغبة طاغية في أن أرتمي في فراغها، إلى حد أنني هربت مبتعداً كما لو أنني أهرب من الخطف.

كما لو أن ذاتي حاولت أن تخطفني من ذاتي. هل هي الرغبة العميقة في الطيران حين ترى أمامك فضاء مفتوحاً وسهلاً كالهاوية، أم هي رغبة التلاشي في العدم الذي يمثله هذا الفراغ الواسع؟

الرجال الذين كانوا يلغمون صخور الإسفلت بالديناميت، كانوا يلفّون خصورهم بحبال متينة مربوطة إلى أوتاد في أعلى الهاوية، ليس فقط خشية أن تنزلق أقدامهم وتبتلعهم الهاوية، بل خشية أن تستهويهم فيرتموا في فراغها الساحر. ورغم كل التدابير، سقط أكثر من رجل من أبناء القرية في تلك الهاوية، التي لا تبرح مكانها وكأنها تطلب المزيد. ولا يعلم أحد، هل سقطوا بزلة قدم أم رغبة في التلاشي.

يتفجّر الصخر الأسود ويرحل، دون أن يترك مكانه ما يملأ الفراغ، سوى رائحة رحيله النافذة، تلك الرائحة التي ميّزت القرية وأحبّها أهلها على ثقلها. ترحل الصخور وتخلّف فراغاً يتسع، ليغدو ملعباً لطيور جارحة رمادية اللون صغيرة الحجم، لا تكف عن اللعب البهلواني في ذلك الفراغ.

حين تصمت الآلات التي ترغم الصخر الأسود على الرحيل، كانت الهاوية تتحوّل إلى فضاء ملائم للطيران، إلى سماء إضافية. نحن، الذين لم تكن تلك الهاوية سماء لنا بأي حال، كنا نسميها مع ذلك، لسبب مجهول تماماً، “الأزرق”. يقف الطير في هواء “الأزرق” ممدود الجناحين لفترة وجيزة، كانت كافية لأن تسحرنا بغرابتها، قبل أن ينقض على هدف وهمي مثل سبّاح يرتمي في البحر من علو شاهق، ثم يرتفع ثانية بزاوية حادة وبسرعة السهم، من نقطة مفترضة في الفراغ، تماماً كما تفعل عصافير السنونو التي كانت جدران الهاوية مكاناً مناسباً لأعشاشها في الربيع.

طريق القرية تفرّ من الهاوية، إلى أعلى السفح وتتلوى بعيداً عنها، فتتغير مواقع الأشجار وتخوم الأراضي والبيوت. شجرة الجوز البعيدة تدنو من الطريق، ويصبح “نبع الطاسة” تحت الطريق. الساقية الطويلة تختصر طريقها وترمي نفسها في الهوة السحيقة لمقلع الإسفلت مخلّفة أصداء تحطم الماء على الصخر.

وبجانب البيت القديم الذي صار خالياً وموحشاً، تموت شجرة الورد الصغيرة، وتنمو بكثافة شجيرات السماق بأوراق طويلة مفصّصة وثمار مخروطية حمراء حامضة، وتملأ النباتات البرية الأمكنة التي احتضنت أجيالاً متتالية من العائلة، قبل أن تتسع الهاوية وتطرد الأهالي مهددة بابتلاع البيت.

أهالي “الدولود” الذين ملأوا الأرض بأشجار الحور، قرّروا، مع اقتراب الهاوية، قطعها وبيعها لتاجر حلبي لكي تتحول إلى أعواد ثقاب. “ليس هناك أفضل من خشب الحور لصناعة أعواد الثقاب”، قال الرجل الحلبي دون أن يكون لديه أي فكرة عن الهاوية. تردّد صوت المنشار الآلي لأول مرة في أرجاء مكان لم يشهد من قبل مثل هذه الآلة الرهيبة التي جعلت أشجار الحور تتساقط وكأنها مجرد سنابل قمح. داليات العنب التي اتكأت لسنوات على أشجار الحور وأعطتها قيمتها “المثمرة”، ارتمت على الأرض وتحولت إلى ركام زائد عديم الشكل، وعديم الكرامة، كما كان يبدو لي. كرمة بلا كرامة، أقول في نفسي، سعيداً باكتشاف هذا الجناس اللفظي، وناقماً على الهاوية، وحزيناً أكثر على مصير العنب.

* كاتب سوري

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى