إياد الجعفريصفحات المستقبل

الهبّة لـنصرة صلاح الدين/ إياد الجعفري

 

 

من دون شك، لم يكن يوسف زيدان موفقاً في توصيفه لـ صلاح الدين الأيوبي، بـ “أحقر شخصية في التاريخ الإنساني”. لكن في المقابل، عكست الردود التي انهالت على الكاتب والروائي المصري الشهير، ما يمثله صلاح الدين في اللاوعي الجمعي العربي، من أسطورة تاريخية هي أقرب إلى الوهم، تؤكد أن العقل العربي ما يزال في بحثه الطفولي عن البطل المنتظر الذي سيخلص الأمة من أعدائها، ويهزمهم شر هزيمة، كما فعل صلاح الدين، يوماً من الأيام.

وبغض النظر عن مدى صدقية تلك الرواية التاريخية التي استند إليها يوسف زيدان في الحديث عن “جرائم ضد الإنسانية”، ارتكبها صلاح الدين بحق السلالة الفاطمية التي حكمت مصر قرنين ونصف القرن. وبغض النظر أيضاً عن غاية الرجل من تلك الضجة التي أثارها بتصريحه غير الموضوعي من الناحية العلمية. يبدو أن النظرة الأسطورية التي تحكم معظم من نال من زيدان دفاعاً عن صلاح الدين، تعبير خطير عن ثبات تلك السمة في العقل العربي، وهي الحاجة لزعيم تاريخي فريد، لتحقيق نهوض الأمة.

وفي معرض الردود التي نالت من زيدان، حظي صلاح الدين بالكثير من الدفاع الذي يرتقي إلى حد التقديس من دون أن يكون ذلك الدفاع مستنداً بدوره إلى مرجعيات تاريخية دقيقة. كان من الواضح أن معظم من ردّ على زيدان، لا يعرفون عن صلاح الدين، بالفعل، إلا ما شاهدوه في الدراما والسينما، وما تعلموه على لسان بعض مدرسي التاريخ المتحمسين، في المدارس الابتدائية.

لم يكن صلاح الدين شخصاً منزهاً. كما لم يكن، كما وصفه زيدان، من أحقر الشخصيات في التاريخ الإنساني. هو كان شخصاً طموحاً أيدته الظروف، أو العناية الإلهية في رأي بعض المؤرخين، فنال حكم مصر، فتشبث به، وعمل بكل الطرق لتدعيم حكمه، حتى لو كان ذلك على حساب وحدة العالم العربي في مواجهة الصليبيين.

من يقرأ عن صلاح الدين جيداً، يستنتج من دون كثير شك، أن أبرز أولويات الرجل، كانت كرسي الحكم، واستقراره لصالح سلالته من بعده. ومن ثم، بعد أن تحقق له ذلك، فكر في المجد الذي يمكن أن يجره له تحرير القدس، في ظروف تاريخية مواتية للغاية.

وبخلاف ما يظن كثير من العامة لدينا، عن صلاح الدين، كان الرجل ميالاً للغاية، لترسيخ السلام مع الصليبيين، والقبول بوجودهم في فلسطين، كأمر واقع، بل والتعايش معهم.

ناهيك عما سبق. ارتكب صلاح الدين أخطاء سياسية وعسكرية استراتيجية، ناله بسببها الكثير من النقد، حتى من معاصريه، وفي مقدمتها، تساهله في القضاء على الوجود الصليبي الأكثر خطورة في صور، بعد استعادة القدس، الأمر الذي أتاح الفرصة للصليبيين كي يعودوا بقوة أكبر، أنهكت صلاح الدين وجعلته يموت وقد ذبل نصره التاريخي في حطين، في أعين أكثر مناصريه حماسةً، في عهده.

وحسب أكثر المراجع التاريخية موثوقية، من المعاصرين لتلك الحقبة، وفي مقدمتها “الكامل في التاريخ” لـ ابن الأثير، كان صلاح الدين شخصية سياسية عبقرية، ولها سحرها، لكنه لم يكن يملك حساً إدارياً سليماً، الأمر الذي أودى بكثير من إنجازاته، حتى قبل وفاته.

والأخطر من ذلك، أن صلاح الدين ترك امبراطورية ضخمة تشمل الشام ومصر وأجزاء من الجزيرة العربية، نهباً لصراعات أولاده وأخيه وأولاد أخوته، بعد وفاته. بعدما قضى ردحاً من حياته في تأمين تلك الامبراطورية كي تحمل اسم الأيوبيين.

وبعيد وفاته، تخلى حكام من سلالته، أكثر من مرة، عن القدس، لصالح الصليبيين، طمعاً في كرسي الحكم، وتلبية لأطماع مرتبطة بالاستيلاء على أراضٍ جديدة لصالح حكمهم، في نزاعاتهم مع أشقائهم أو أولاد عمومتهم.

لكن، لا يعني ما سبق، أن صلاح الدين يستحق توصيف يوسف زيدان بخصوصه. الأمر ببساطة، أن حقبة حساسة كهذه في تاريخنا، تتطلب معالجة موضوعية، نتعلم منها، أين وكيف ولماذا نجح صلاح الدين؟، وأين وكيف ولماذا فشل؟

تقديس الرموز والرهان على شخصيات تاريخية مثالية في مخيلتنا العربية، إشكالية منهجية في التفكير، تعوق القدرة على محاكمة التاريخ بصورة مفيدة، لا لإدانة شخصياته، بل للتعلم من عِبره. خاصة إن كنا بأمس الحاجة اليوم للتعلم من تلك العِبر.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى