جمال صبحصفحات الرأي

الهجرة واللجوء: الاضطرابات النفسية والخدمة بين الواقع والمأمول/ جمال خليل صبح

 

 

تعتبر الهجرة سواء كانت طوعية أم قسرية حدثاً وجودياً مؤسّساً في البنية النفسية والسّلوكية عند الأفراد والجماعات وحدّاً فاصلاً في جملة من التّجارب الإنسانية المفتوحة على الاحتمالات التي تبيح التأرجح بين الصحّة والمرض. فالهجرة بجوانبها المختلفة تعني في ما تعني «ولادة جديدة» يتعيّن على الأفراد التعامل فيها مع أزمات حديثة، قديمة ومتجدّدة في بيئات اجتماعية ثقافية مغايرة على الأرجح. بهذا تغدو الهجرة حدثاً نفسيّاً كثيف الألم، ألم أصيل نابع من الفراق وترك الأمكنة والمنابع الاجتماعية الأولى وألم آيب يبدأ بالتشكّل في مواجهة الغريب ثقافياً واجتماعيّاً ومكانياً أيضاً.

هذا بالضّبط ما يجعل الهجرة واللجوء من أكثر العوامل المهيّئة للقلق والاضطراب واللذين يمكن أن يتطوّرا بصورة حادّة أو تدرجية إلى اضطرابات نفسية عميقة تستدعي تدخّل أخصائي مهنيّ عند كثير من المهاجرين واللاجئين وأبنائهم أيضاً. ورغم وجود بعض الدراسات القليلة التي أشارت الى عدم وجود تفاوتات في نسب الإصابة بالأمراض النفسية بين المهاجرين وأبناء البلد من الغربيين، إلّا أنّ الشهادات المتراكمة من المشافي العامّة وأقسام الصحة والطب النفسيَين ودور العيادات الطبية العامّة تشير في شكل لا يدع مجالاً للشك إلى ارتفاع واضح في الاعتلالات النفسية الكبيرة كالاكتئاب والقلق وضروب الشدّة النفسية التالية للصدمة عند المهاجرين، فضلاً عن طيفٍ كبيرٍ من الأعراض الجسدية التمظهر، بالإضافة الى تلك الأعراض الذهانية التي ترتبط بالفصام بدرجة أو بأخرى. هناك من يذهب أبعد من هذا مؤكّداً أن الاضطرابات النفسية تصل في ألمانيا مثلاً إلى الضّعف من حيث المشاهدة والتواتر عند الأشخاص من أصول مهاجرة بالمقارنة بالمجتمع المحلّي.

في الوقت الذي تتراكم فيه حقائق كهذه، هناك ما يشير إلى أن هؤلاء المهاجرين واللاجئين هم بالضبط الأبعد من فئات المجتمعات المحلّية في الغرب عن تلقّي الخدمات الصحية في الطب والعلاج النفسيين. هذه ظاهرة تدعو للدّهشة في بلاد تقدّمت فيها مستويات الرّعاية الصحية تقدماً هائلاً. إلا أن وراء ذلك جملة من العوامل المؤثرة وإن تباينت في قدرتها على تفسير جانب أو جوانب من ذلك.

تعالت في السنوات الأخيرة أصوات حادّة (من آسيا وأفريقيا وأوروبا أيضاً) تقول أن الطب النفسي العام تسوده مفاهيم غربية شديدة التمركز على الذات، صيغت وتطوّرت ونمت في مجتمعات أوروبا الغربية وشمال أميركا على وجه الخصوص في خط زمني متعرّج شهد تحوّلات اجتماعية وثقافية عميقة، امتدّ من الثورة الصناعية الى ما بعد الحرب العالمية الثانية. فالطب النفسي السائد منذ مئة سنة على الأقل طوّره أطباء غربيّون بيض بناء على مرضى غربيين بيض أيضاً (أستاذ علم الاعتلالات النفسية سلمان أختر يطلق وصف «الطب النفسي الكولونيالي»). وقياساً على ذلك، تمّت صياغة جملة من المفاهيم العامّة في الصحّة والمرض ترتكز على فلسفة مادّية- عقلانية بحتة يؤمن بها أقل من 20 في المئة من العالم ضربت ما عداها من تصوّرات إنسانية عرض الحائط، فيما أهملت حزمة من الفروقات الثقافية والخصوصيات الدينية والإثنية التي ترتع بها ثلاثة أرباع البشرية بأشكال وأوضاع شديدة التباين. هذا ما جعل الكثير من أخصائيي الصحّة النفسية حول العالم ينظرون بعين الريب والشك الى كثير من الأدوات التشخيصية والعلاجية التي يتم تقديمها على أنها «عابرة للثقافات» و «تصلح لكل زمان ومكان» (حتى بلغ الانتقاد التصنيفين السائدين للأمراض النفسية – منظمة الصحة العالمية والمعروف اختصاراً بـ ICD، والتشخيص الأميركي DSM بطبعاتهما المتتجددة رغم ابتذال الطروحات البديلة).

لم نعد نعيش في عالم يواجه فيه الأطباء النفسيون الغربيون مرضى غربيين من مجتمعاتهم الخالصة – الأصلية فقط. ففي ظل ظاهرة الهجرة والنزوح ومع تفاقم أزمات اللّجوء العاصفة باتجاه مجتمعات الغرب الآمنة المستقرة نسبياً، أصبحنا منذ عقود طويلة أمام حقيقة غالباً ما يتم تجاهلها في الأنظمة الصحّية الغربية وهي هؤلاء المرضى من إيرانيين، أفرو- أميركان، مكسيكيين، أتراك، كوريين وصينيين وعرب مسلمين، المختلفين ثقافياً ودينياً فضلاً عن البنية النفسية المميّزة التي تحدّد ملامحهم السلوكية والمزاجية والمعرفية. إن عدم اهتمام مناهج الطب النفسي الغربي المهيمين بالفروقات الثقافية ودور الدّين والمجتمع في تشكيل الأفراد ومعتقداتهم وتجلياتها في الصحّة والمرض بالإضافة إلى تدخّلها الحاسم في تمظهرات وتجلّيات الاضطرابات النفسية والعقلية مع انحيازها المطلق للمفاهيم المتمركزة على الفلسفات الغربية نحو النّفس والجسد والعقل أدّى في شكل واضح إلى تخريج أطباء وأخصائيين نفسيين يحملون جهلاً فاضحاً بالآخر المغاير دينياً وثقافياً ولا يؤمنون إلا بالمنطق الصّوري وبالمعايير التشخيصية المادّية الصّارمة التي ألفوها وتعلموها. هذا لا يفتح مجالاً واسعاً لعدم الفهم واختلاط الصور الإدراكية المتحيّزة – مسبقة الصنع عند مواجهة مريض نفسي لاجئ أو من أصول مهاجرة فقط، بل يدفع الى ما هو أخطر، أي نحو التشخيص الخاطئ واستسهال إطلاق الأحكام.

ففي ألمانيا مثلاً، كشفت بعض التقارير عن زيادة ملحوظة عند الأطباء النفسيين في اقتراح العلاج الدوائي بالمهدّئات ومخفّضات الآلام عند معاينة مرضى ومراجعين من أصول إسلامية عربية أو تركية بالمقارنة بمثيلاتها عند حالات لأشخاص من أصول ألمانية. غالباً ما يأتي هؤلاء المرضى من بيئات ثقافية تتسامح مع الاعتلالات الجسدية في شكل أكبر منها في الاعتلالات النفسية التي توصم عادة بـ «الجنون» ويمكن أن يكون لها تداعيات خطيرة على المستوى الاجتماعي. وهكذا سيكون هناك احتمال أكبر للحديث «الآمن» عن أعراضٍ جسدية وبدنية تتمحور حول آلام في الرأس والصدر والعمود الفقري والأطراف، بدلاً من البوح والكشف عمّا يعتمل في النفس والمزاج من آلام وشكاوى أعمق وأشد فتكاً. هنا يكون الطبيب النفسي عرضة للوقوع في «فخّ مهني» كبير يتعلّق بقصور معرفي واضح في إدراك وتفسير معنى الشفرات والإشارات الثقافية الخاصة بكل مريض. والأمثلة في ذلك من الاضطرابات النفسية الأخرى (كالفصام بخاصة والاكتئاب والصّدمات النفسية) أكثر من أن تحصى.

ما يزيد الأمور صعوبة أنّ هذا لا ينسحب على التشخيص السيكاتري ودقته وحسب بل على العلاج النفسي وأساليبه أيضاً. لو نحّينا مشاكل التواصل اللغوي وانحساره الى مستويات تعيق أي تواصل مهني فعّال بين المعالج والمريض النفسيين لوجدنا أن مدارس العلاج النفسي السّائدة الآن بكل اختلافاتها (تحليل نفسي، أو سلوكي أو معرفي) تتمحور حول التعامل مع بنية نفسية في سياق ثقافي- غربي واضح يكون فيه لقيم الفردانية والاستقلال (Individualism-Independence) الشأن الأعلى عمّا عداها من قيم وأبعاد أخرى تختصّ بها وتتمايز فيها ثقافات أخرى غير- غربية، حيث لقيم الجمعية والتبادل – التواصل الاجتماعي (Collectivism-Interdependence) أهمية أرفع. وهكذا تبدو غالبية تقنيات العلاج النفسي المطبّقة التي تحضّ على القرار الفرداني والاستقلال عن الجماعة وتقديس الأولويات الشخصية والانعتاق عن الماضي وتجذّر «الأنا» تبدو أكثر ملاءمة ونجاعة مع مريض ألماني أو فرنسي بالمقارنة بمريض أو مريضة من أصول آسيوية، عربية أو تركية مسلمة، حيث يلعب السياق العائلي والثقافي والديني الجمعي «نحن»، فضلاً عن الرّبط الوجودي بين الماضي والحاضر دوراً كبيراً في تحديد أولويات هذه البنية النفسية بخاصّة في أوقات الأزمات والاضطرابات العميقة وغيرها. هذا ما يجعل خدمات الصحة النفسية لعدد هائل من المهاجرين واللاجئين محصورة ضمن نطاق شديد الضيق والابتسار معرفياً وثقافياً.

في أوضاع كهذه، هناك ضرورة قصوى لانفتاح مناهج الطب والعلوم النفسية السائدة في بلدان اللجوء على الفروقات الثقافية وأهمّيتها في التشخيص والعلاج النفسيين، فضلاً عن تأهيل أفضل للعاملين في مجالات الخدمة النفسية المقدّمة وفتح المجال للتوظيف المهني لأخصائين من أصول مهاجرة (في برلين هناك ليس أكثر 12 طبيباً نفسياً من أصول تركية فقط مع وجود أكثر من 180 ألف مهاجر تركي!). هذا سيخفف لا شك من وطأة ظاهرة الهجرة وعقابيلها النفسية على الأفراد والجماعات مع تقديم فرص أكبر للمساواة والحق في الحصول على التطبيب والعلاج الأمثلين وانتفاء التمييز تجاه من لا حول لهم ولا قوّة. هنا نكون أمام طبٍ نفسيٍ أكثر عدالة وإنسانية.

* باحث وأخصائي فلسطيني – سوري

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى