راتب شعبوصفحات سورية

الهدنة ومظاهراتها في سورية/ راتب شعبو

 

 

 

صمدت الهدنة في سورية، إذن. مرّت ثمانية أيام انخفضت فيها نسبة الموت والدمار. من اعتقد أن الهدنة محكومة بالفشل، وأنا منهم، أخطأ التقدير. ظهر واضحاً أن هناك مكاناً معيناً يمكن، من خلاله، ضبط هذا العدد الهائل من الفصائل المقاتلة في سورية. هناك مكان ما يملأ فراغ “القيادة العليا” لهذه الفصائل، ويمارس دورها. دائماً، كان يُقال إن ميزة النظام تكمن في مركزيته، وإن هرمية النظام تسمح له بضبط وحداته المقاتلة. في المقابل، كانت التشكيلات العسكرية التي تواجه النظام تبدو كثيرةً، وذات ولاءات مختلفة، وليس لها عنوان واحد، ولا يمكن ضبطها. اليوم، نرى أن هذه التشكيلات المتعددة والمشتتة تتصرّف في الهدنة وكأنها جيش خاضع لإرادة واحدة. وبحسب التقارير، تأتي خروق الهدنة، أساساً، من جهة النظام وحلفائه. لا شك أن النظام لم يخرق الهدنة، لضعفٍ في مركزيته العسكرية، فهذه الخروق مركزية، مثل كل “الخروق” السابقة للهدنة من مجازر وقصف للمستشفيات واستعمال الكيماوي …إلخ.

الواقع الذي كشفته الهدنة هو أن “الخارج”، وهو كناية عن دول الخليج وأميركا أساساً، نجح، أولاً، في أن يكون الرأس السياسي للجسم العسكري السوري المعارض، وتمكّن بذلك من توحيد هذا الجسم العسكري المبعثر. ونجح، ثانياً، في أن يتوسط علاقةً فاعلةً بين هذا الجسم العسكري والجسم السياسي المتمثل في الهيئة العليا للتفاوض، وإنْ كان ذلك يتضمن، بالتأكيد، أن هذا “الخارج” يحوز على اليد العليا في سياسة هذه المعارضة.

ما كان لهذه الخطوة الكبيرة باتجاه إيجاد جسمٍ معارض، عسكري سياسي، في سورية، أن تتحقق، لولا أن هذا “الخارج” حقق وحدته أولاً. وحدة المعارضة العسكرية والسياسية في سورية وتماسكها مستمدان من وحدة دول الخارج تجاه الحل المزمع في سورية. يمكن تلمّس استنتاج مؤلم هنا يقول إن قدرة الخارج على تحقيق هذا القدر من الوحدة بين التشكيلات العسكرية والسياسية السورية، على الرغم من تنافرها وتباينها السياسي والفكري، تدل على مدى تبعية هذه المعارضة للخارج، وخضوعها لتقلباته.

كشفت الهدنة، أيضاً، واقعاً آخر، ذا دلالة حاسمة، ويتمتع بجماليةٍ افتقدها الحراك السوري طويلاً، أقصد عودة المظاهرات الشعبية الأولى الخالية من الرايات السود، تماماً كما تنبت الزهور وسط الحطام. هذا يقول أمرين أساسيين، الأول إن استعادة روح الثورة وشعاراتها بعيداً عن “إسلاميةٍ” بولغ في النفخ فيها، كماً ونوعاً، يجري في المناطق “الإسلامية”، حين تُمنع البندقية الإسلامية من فرض صوتها وصورتها في مناطق سيطرتها، أي حين يُتاح للثورة السورية أن تدخل المسرح الذي طُردت منه بقوة السلاح، فإنها تدخل المسرح بكامل حلمها الأول بالحرية، حتى وإن كانت سنوات الحرب والحصار قد أرهقت جسدها.

على أن ما يستحق الانتباه، هنا، هو أن مناطق سيطرة النظام لم تشهد أي تغير سياسي في غضون أيام الهدنة. وهذا يعني أن النظام يمارس، بنجاح، سيطرته “الداخلية” المعهودة بمنتهى الضبط على جمهورٍ معتاد أصلاً على الضبط، وفق “العقد الاجتماعي” الأسدي التاريخي: التخلي التام عن الحرية والكرامة في مقابل الضمان الجزئي لديمومة العيش.

الأمر الثاني الذي تقوله “مظاهرات الهدنة” إن كل ما جرى لم يخمد الشعلة الأولى للثورة، وإن استطاع أن يمنع اتّقادها وامتداد لهيبها التحرّري. ولا شك أن عودة المظاهرات، وإن كانت تحمل علامات الإرهاق، تشكل رسالةً غير سارة للنظام ورعاته، كما أنها رسالةٌ غير سارة لكل المنظومة الدولية والإقليمية التي تعاملت مع الثورة السورية منذ البداية، تماماً كما تعامل معها النظام. ولكن، من الزاوية المقابلة، على أنها شرٌّ يجب الخلاص منه.

يتقن العالم التعامل مع أمثال “داعش” وجبهة النصرة، تنظيمات عسكرية ذات نهج فكري وسياسي متخلف إلى درجة اللامعقولية، لكنه يحار أمام حركة مظاهراتٍ سلميةٍ بشعاراتٍ تطالب بالحرية والخلاص من نظام مستبد، لا يريد أن يتخلص هذا العالم منه. ليس غريباً على مثل هذا العالم الذي خبر السوريون وضاعته، بلحمهم ودمهم، أن يصم آذانه عن هذه المظاهرات السلمية، ويحتفظ بترسيمته الخالدة للصراع في سورية، على أنه حرب ضد الإرهاب.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى